1) أمور عامة. انتقل إلينا نصّ الكتاب المقدس بواسطة المخطوطات و الترجمات. أما النص البيبلي الأصيل فهو النصّ الذي دوّنه كاتبه. مثل هذا النص قد ضاع على مستوى العهد القديم والعهد الجديد. ومع أن معلّمي الشريعة (والمسيحيين فيما بعد) قاموا بمجهود كبير للمحافظة على النصوص المقدسة (رج يوسيفوس، ضد ابيون 1 :8)، فهذه النصوص تأثّرت بما تأثّرت به كل النصوص القديمة بعد أن نسخها عدد من الكتّاب المهملين أو الجاهلين. ويُضاف إلى ذلك تحوّلات قام بها النسّاخ فأضاعوا عبارات هامة. ومع ذلك، يبقى النصّ البيبلي في جوهره أمينًا للأصل. وهو كذلك بلا شكّ في ما يتعلّق بحقائق الايمان، لأن معظم الاختلافات لا تحمل سوى تأثير ضعيف، ولا سيّما على مستوى العهد الجديد. وهكذا تكون مهمّة النقد النصوصيّ إعادة الشكل الاصيل إلى الكتاب، بقدر الامكان. وهو يقوم بعمله حين يجمع المخطوطات في أسَر، ويقيِّم كل مجموعة، ويتفحّص كل نص من النصوص حسب معايير داخليّة (من داخل النص) وخارجيّة (إذا كان هناك نصوص في مراجع أخرى). 2) العهد القديم. ^ أولاً : تثبيت النصّ بحروفه. منذ العودة من المنفى، بدأت المجموعة البيبليّة تتكوّن. وحوالى سنة 180 ق.م.، تحدّث ابن سيراخ عن "شريعة العلي... وحكمة جميع القدماء والنبوءات". وهكذا أشار إلى قانون (أو اللائحة القانونيّة) الكتب المقدسة اليوناني (سي 39 :1). غير أن حفيده الذي ترجم الكتاب فيما بعد، تبع القانون العبري فأورد ثلاث مرات في المطلع : "الشريعة، الانبياء، سائر الكتب "(ت و ر هـ. ن ب ي ي م. ك ت و ب ي م) (سي 1 :1، 19، 24). وأضاف أمرًا مهما : "جميعُ هذه الأسفار التي نقلت إلى اليونانية، تختلف اختلافًا كبيرًا في مضمونها". ونوعيّة التقاليد الأدبيّة بدت واضحة، شأنها شأن النصّ العبري. مثلاً، ق 1 و 2صم؛ 1و2مل مع 1و2أخ. ق 2صم 22 مع مز 18؛ 2مل 18 :13-20 :19 مع إش 36-39؛ 2مل 24 :18-53 مع إر 52؛ إش 2 :2-4 مع مي 4 :1-3؛ مز 14 مع مز 53؛ مز 40 :14-18 مع مز 70؛ مز 57 : 8-12 مع مز 108 : 2-6؛ مز 60 : 7-14 مع مز 108 :7-14؛ مز 96 مع 1أخ 16 :23-33؛ مز 105 :1-5 مع 1أخ 16 :8-22؛ مز 106 :1، 47-48 مع 1أخ 16 :34-36. إن مختلف الكتب التي نُسخت وأعيد نسخها، بعد أن صدرت عن تقاليد مختلفة، تضمّنت عددًا من الاختلافات على مستوى الاملاء والألفاظ، وتوزيع المقطوعات. ولنا أمثلة عديدة عن ذلك في السبعينية والبنتاتوكس السامريّ. وهذا العدد الكبير من التقاليد في القرون الأخيرة السابقة للمسيحية، يتثبّت في النصوص التي اكتشفت في قمران. ظهر هناك نمطان من النصوص، وقد اكتُشفا منذ زمن بعيد في العبريّ كما في اليونانيّ : هناك نصوص قصيرة، موجزة، تدلّ على عناية كبيرة في إملاء دقيقة (بالنسبة إلى العبري). وهناك نصوص طويلة مع إضافات وتكرارات وتوسّعات واستعمال حروف العلّة في اللغة العبرية. وهكذا جاءت النسخة العبرية أقصر من النسخة اليونانيّة في أم، سي، دا، عز، اس. وأطول في إر مثلاً. أما في ما يتعلّق بالعبري، فالبنتاتوكس السامري يرتبط بنمط النصوص الطويلة عكس البيبليا الرابينيّة. ولكننا في الواقع نميّز ثلاثة تقاليد : (1) التقليد الفلسطيني بالنصوص الطويلة. نجده في 1و2 أخ (تجاه 1و2صم؛ 1و2مل)، في البنتاتوكس السامري، في كتاب اليوبيلات، في مؤلّفات يهوديّة من الحقبة المصرية. (2) التقليد المصريّ الذي من أصل فلسطيني. هو في أساس السبعينية مع مقاطع خاصة به. (3) التقليد البابلوني مع نصوصه القصيرة. أعطى البيبليا الرابينية. إن هذه النظرية التي حدّدت موطن النصوص، تقدّم، على محدوديّتها، بعضَ التماسك. وقد جمعت اليوناني والعبريّ في نسخة واحدة. ثم هي تتيح لنا أن نفهم التقاربات والاختلافات بين السبعينية والنسخة السامرية. هذا الاختلاف في النصوص لم يشغل بال المقيمين في قمران. أما العالم اليهودي الرابيني في القرن الأول ق. م، فقد تولّدت عنده حركة تحاول أن توحّد النصوص. حوالي سنة 75، وضع الفريسيون حدًا للمسات التي قام بها الصادوقيون (تقوني سوفريم). فكل سنة، كانت مخطوطات البنتاتوكس المستعملة في اليهوديّة تُحمل إلى الهيكل لمراجعتها (تلمود بابل، موعد قطن 18ب). وخلال القرن الأول المسيحيّ، ثبّت هلاّل النسخة العبرية. هي الشكل النصوصي الوحيد الذي وُجد في مصعدة (قبل سنة 73) ولدى جنود ابن الكوكب (70 135). وحسب المشناة (تعنيت 6 :2؛ رج سوفريم 6 :4)، حدّد الرابينيون، سنة 90، في يمنية، نص التوراة انطلاقًا من ثلاث نسخات حُفظت في الهيكل وحُملت قبل دمار الهيكل سنة 70 ب.م. عملوا بشكل آلي تقريبًا : أخذوا بالنص الموجود في مخطوطين من ثلاثة. وهكذا تثبّت النصُّ الأساسي في البيبليا العبرية بشكل نهائيّ. وحصل للنصّ اليوناني ما حصل للنصّ العبري. فبمادرة من رابي عقيبة، أعاد أكيلا (في القرن 2 ب.م.) النظر في الترجمة السابقة، فشدّد على ترجمة حرفيّة إلى أقص حدود الحرفيّة. فوصل إلى لغة تعكس الاصل بشكل دقيق (رج الترجمات القديمة). وسيطرت الروح عينها في ما يخصّ الترجوم السامريّ. ثانيًا : عمل الماسوريين. وهكذا انتهت المرحلة الأولى في تاريخ النص العبري في البيبليا : تثبيت النصّ بحروفه. وستقوم المرحلة الثانية، مرحلة الماسوريين (القرن 8-10 ب.م.)، في وضع الحركات وإشارات الغناء مع عدد الحروف والآيات وتوارد الالفاظ وتصحيح بعض الكلمات والاختلافات. وصيغت ثلاثة مناهج للتشكيل : البابلي، منذ القرن 5. وقد استلهم استعمال السرياني الشرقي. الفلسطيني، حيث نلاحظ التأثير العربي. والطبرياوي الذي استبعد المنهجين السابقين، وفرض نفسه بتماسكه وغنى حركاته. لا شكّ في أن عائلتي بن أشير وبن نفتالي القرّائين، تخصّصتا في هذا المشروع الكبير الذي أعطانا مثلاً مخطوط لنينغراد الذي ينسبه الكولوفون إلى هارون بن موسى بن أشير. 3) العهد الجديد. حاول النقد النصوصيّ للعهد الجديد أن ينظّم في بعض أنماط كبيرة العدد الضخم من المخطوطات اليونانية (يتعدّى 5000). ومع أن هذا الترتيب لا يُرضي الجميع، والجدال لا يزال محتدمًا حول العلاقات المتبادلة بين مختلف أنماط النصّ، إلاّ أن هناك اتفاقًا حول وجود أربعة أنماط كبرى. أولاً : النمط المصري (الاسكندراني). نجده بشكل عام في المخطوطات الاسفينية الكبيرة الأربعة : السينائي (ما عدا بداية يو). الاسكندراني (ما عدا الأناجيل). الفاتيكاني والافرامي (مع اختلافات تعود إلى حقبة سابقة، إلى النمط الفلسطيني، على ما يبدو). هناك شواهد أخرى قليلة تتبع هذا النمط باستمرار متقطّع : البردية 74 (القرن 7، أع رسائل عامة). ل 190 (القرن 9، الأناجيل). بسي 044 (8-9، الأناجيل، أع، الرسائل العامة، بولس، ولكن أع يتبع نمطًا آخر). وهناك مخطوطات جرّارة مثل 33، 892 (القرن 9)، 81، 104 (القرن 11)، 579 (القرن 13). وأخيرًا مجمل الترجمات القبطيّة الصعيديّة والبحيريّة. ماهى بعضُهم هذا النمط مع نمط هيسيخيوس الذي ذكره ايرونيموس سنة 384. في أساس هذا النمط، عمل تنقيحي (قام بإحصاء المخطوطات) طويل تمّ بعضه في مصر (والبعض الآخر في فلسطين)، بدأ منذ النصف الثاني من القرن 2، وربما قبل بردية 66 (حوالى 200). ولكن بشكل أكيد قبل بردية 75 (القرن 3) التي احتفظت بنص لو ويو في نص قريب من الفاتيكاني، وذلك بعد القرن 9 حيث يجد بعض الشهود في المخطوطات الجرّارة، ويختفي كله على حساب النمط القيصري الفلسطيني، والغربيّ، والسوري البيزنطيّ، ليولد من جديد في القرن 19، في الغرب، في نسخات مطبوعة انطلاقًا من لخمان (1831) وحتى النسخات الحالية (نستله، الطبعة 26). يتميّز هذا النمط من النصوص بدرجة خفيفة من محاولة التنسيق، باتجاه إلى لغة نقيّة، ويبحث عن الإيجاز. ثانيًا : النصّ السوري البيزنطي (الانطاكي). نجد نمط النص السوري البيزنطي في عدد من المخطوطات الاسفينيّة المتأخّرة (القرن 9-10). وفي معظم المخطوطات الجرّارة، وكُتُب القراءات اليونانيّة والترجمات الشرقيّة الوسيطيّة. تُنسب ولادةُ هذا النمط إلى تحقيق لوقيانس الانطاكي (235-312) التي يتكلّم عنه ايرونيموس. نعرف أن هذا النمط أخذ أهميّة كبيرة في القرن 5. وتبعته الشعبيّة السريانيّة (أو البسيطة). كما ظهر في بعض المخطوطات الاسفينيّة اليونانيّة (قسم من الأناجيل) في فرائيريانس (و032). والأناجيل الأربعة في الاسكندراني. إذن، وُلد على أبعد تقدير في النصف الثاني من القرن 4 إن لم يكن قبل ذلك الوقت. بعد ذلك، ارتبط نجاحُ هذا النمط بتوسّع الاستعمال الليتورجيّ للنصّ البيبليّ. لهذا سيطر سيطرة تامة في النصوص اليونانيّة الاسفينيّة في القرن 9، وبان تأثيرُه، في درجات مختلفة، في جميع المخطوطات الجّرارة حتى تلك التي اتبعت نموذجًا قديمًا واحتفظت ببعض اختلافات هامة. وظل النمط السوري البيزنطي يُطبع حتى أيامنا. في الغرب، هو الذي بدأ يظهر في الطباعة، وسوف ننتظر القرن 19 لنرى النمط الاول يحلّ محلّه. ما يميّزه محاولة تنسيق النصوص. نص أوضح. لغة متقنة. ولكن الاهتمام ينصبّ لا على النوعية الادبيّة، بل على تهيئة النصّ للقراءة الليتورجية. ثالثًا : النص الغربيّ. سُمّي كذلك لأنه عُرف أول ما عُرف في مخطوطات لاتينية، أو مخطوطات يونانيّة لاتينيّة. أما الأصل فشرقيّ، ويدلّ عليه شهود قديمون مختلفون جدًا. بين هؤلاء، الكودكس البازي (يوناني، لاتيني، الأناجيل أع)، كودكس غلازييه (قبطي من بهلنسة، أع 1-15). الترجمة السريانيّة الحرقليّة وخصوصًا الهوامش في أع. ونذكر أيضًا : مخطوطات اللاتينيّة العتيقة (عدّة ترجمات قبل الشعبيّة)، مخطوطان سريانيان سابقان للبسيطة. كودكس لوديانس (يوناني ولاتيني في أع). الكلارومونتانوس (يوناني، لاتيني، بولس). عشرون مخطوطًا يونانيًا (أقدمها 2138، يعود إلى سنة 1072، والمعروف منها 614، يعود إلى القرن 13). أقدم الايرادات الآبائيّة. نصّ قديم وشامل. ولكنه ليس متماسكًا. لسنا في المعنى الحصري أمام نمط نصوصيّ. لهذا يجب أن نميّز بشكل عام، بين شهوده، تلك التي تدلّ على نصّ قبل العمل التنقيحي. ولكن هذا الرأي ليس رأي الجميع. ما نلاحظه عادة هو أن النص الغربي وُجد منذ القرن 2، وابتعد بقوّة عن سائر الأنماط النصوصيّة. لماذا هذا الابتعاد؟ هنا تختلف الآراء. ما نستطيع القول هو أننا أمام نصّ مشوّه أو من أصل شعبيّ مَزجَ عدّة نسخات، أو احتفظ بتقاليد شفهيّة مع النصّ النمطي. غير أن هناك رأيًا أخر : قد أعيد النظر في نصوص العهد الجديد بعد سنة 140 لأسباب حضاريّة. وإعادة النظر هذه لم يتبعها الجميع، فتفجّر التقليد النصوصي. غير أن بعض المخطوطات، كالكودكس البازي اليوناني، وكودكس غلازييه القبطي، احتفظت بالنصّ السابق للتنقيح وهو أقرب ما يكون إلى النص الأولاني. أما سائر المخطوطات، فهي شاهدة على التنقيحات الأولى في اللاتينيّة والسريانيّة (العتيقة) واليونانية (كلارومونتوانوس، مجموعة 2138 والنمط الفلسطيني). فبالنسبة إلى الأناجيل، يجمع النص "الغربي" أقلّه أربعة أنماط من النصوص منها ثلاثة نصوص تنقيحيّة (اثنان لاتينيان، وواحد سرياني). وبالنسبة إلى الرسائل العامة، نمطان تنقيحيّان (واحد لاتيني وآخر يوناني وسرياني). رابعًا : النص الفلسطيني (القيصري). هو نمط نصوصيّ قريب من النمطين الاول والثاني وهو مثار جدال. وقد سمّي القيصري بالنسبة إلى الأناجيل بنوع خاص. لمّح ايرونيموس إلى نمط مرتبط بأوريجانس، نشره في فلسطين بمفيليوس واوسابيوس. نجد النمط الفلسطيني للأناجيل في نص اسفيني يوناني متأخر (ث 038، القرن 9، من جيورجيا). وفي مجموعتين من المخطوطات الجرارة (أسرة 1 واسرة 13)، والمخطوطات رقم 28 (القرن 11)، 565 (القرن 9)، 700 (القرن 11). وهناك شاهد قديم (و032 القرن 5) تضمّ هذه الشهود بعض الاختلافات الغريبة التي تنتمي إلى سائر الأنماط. نجد هنا النمط الفلسطيني الذي يعود إلى القرن 2.