تدلّ المحنة على واقعين اثنين : هناك الامتحان. وهو يقودنا إلى العمل واتخاذ موقف جديد. وهناك المرض والحزن والفشل. فهو قد يغلقنا على ذاتنا في الكآبة والاغتمام. وإذا كان من انتقال بين الواقع الأول والواقع الثاني، فلأن الألم، حسب الحكمة الدينية، يكشف ما في أعماق قلب الانسان. نجد في اللغة العبريّة ما يقابل فعل امتحن : ن س هـ. ب ح ن. ح ق ر. وفي اليونانيّة : بايرازاين، دياكريناين. في المحنة، يُعرف الواقعُ العميق عبر الظواهر اللا أكيدة. فعلى الانسان أن يمرّ في البوتقة، في المحنة، مثل المعدن الممزوج الذي يجب أن يكون نقيًا. وهناك التجربة التي فيها يكشف الانسان اتّجاهه الحقيقيّ والعميق. فنقول إن الله يجرّب الانسان (من أي معدن هو)، أو هو يسمح له بالتجرية. فإذا كانت البيبليا تتوقّف عند هذه المحنة الخاصة التي اسمها التجربة، فلأن التجربة قد تقودنا إلى الشرّ والسقوط في الخطيئة، حين يتدخّل شخص ثالث هو المجرِّب. لم يَعُد الله ذاك الذي يجرّب، بل إبليس. في تك 2 :17، نحن أمام محنة. هل يخضع الانسان لله، أم يريد أن يجعل نفسه شبيهًا بالله يعرف الخير والشر؟ وفي تك 3، نحن أمام تجربة سقط فيها الانسان، فانقطع عن الله وابتعد عن صداقته (رج يع 1 :1-12). إن خبرة المحنة والتجربة ليست فقط على المستوى الخلقيّ. بل هي تدخل في دراما دينيّة وتاريخيّة. حرّيتنا هي على المحكّ في الزمن الذي نعيشه، تجاه الله وتجاه الشيطان. 1) العهد القديم. ^ أولاً : محنة شعب الله. في وجدان اسرائيل، كل شيء بدأ مع الاختيار، مع الوعد بأن يكون شعب الله. ولكن هذا الرجاء يجب أن يتنقّى. هنا ستلعب المحنة دورها. (أ) في مرحلة أولى، دُعي الانسان إلى الالتزام تجاه الوعد. هي محنة الايمان. محنة ابراهيم و يوسف و موسى و يشوع (عب 11 :1-40؛ سي 44 :20؛ 1مك 2 :52). والنموذج الأولى يبقى ذبيحة اسحق (تك 22) : أراد الله أن يصل الوعد إلى تمامه، فوجب على إيمان الانسان أن يقبل قبولاً حرًا بأن يُترجم في الطاعة، فيقول الانسان للرب : لتكن مشيئتك. أو كما قال المسيح في بستان الزيتون : لا مشيئتي، بل مشيئتك. والتجربة التي عاشها الشعب العبراني اربعين سنة في البرية (تث 8 :2)، هي أنه لم يؤمن بالله الذي عبروا معه البحر، ففضّلوا عليه بصلات مصر. فاجتذبوا عليهم الدينونة. ومسيرة الفصح التي بدأت مع خر 12 لم تنته في أرض الموعد إلاّ بالنسبة إلى قلّة قليلة، تلك التي ظلّت أمينة للربّ ولندائه. وخبرة البرية تتيح لنا أن نفهم فهمًا لاهوتيًا عبارة "جرّب الله". أو أن الانسان يريد أن يخرج من المحنة فيفرض على الله أن يضع حدًا لها (رج خر 15 :25؛ 17 :1-7). أو أنه يجعل نفسه أمام حائط مسدود ليرى هل يستطيع الله أن يخرجه من المأزق. أو أنه يعاند، رغم العلامات الظاهرة، فيطلب براهين أخرى عمّا يريده الله (مز 95 :9؛ مت 4 :7؛ أع 15 :10؛ 1كور 10 :9). (ب) المرحلة الثانية. مع الخليط البشري الذي استخرج الله منه شعبًا، عقد معهم عهدًا. ورمت المحنة الأمانة للعهد. نستطيع أن نسمّيها محنة الحبّ. لقد اختار الشعب أن يخدم إلهه (يش 24 :18)، ولكن قلبه قلبان. فالمحنة سوف تجبر الحبّ على أن يتخّذ موقفًا. وهي على صعوبتها والألم الذي يرافقها، تنقّي قلب المؤمن. وبدأ الله عملاً طويلاً أعطى فيه لشعبه شرعة العهد، و شرعة القداسة، و الشرعة الكهنوتيّة، فجاء كلامُه نداء إلى القداسة يوجّهه إلى شعبه (لا 19). وقابلت دينونةٌ جديدة هذه المحنة الجديد : إن المنفى والعودة إلى البرية عقاب عبادة الاوثان التي هي زنى وخيانة تجاه الله الأمين لشعبه (هو 2). (ج) المرحلة الثالثة. بعد هذا، كانت بقيّة صغيرة خرجت من الأسر. فتصرّفُ الله هو هو في محنة اسرائيل تجاه يهوه (1مل 19 :18) وتجاه يسوع (رو 11 :1-5). فإن كانت المحنة قد آلت إلى بقيّة، فهذا عمل النعمة وحدها. فالمنفى والفترة الطويلة التي جاءت بعدها، يدلاّن على أن الوعد لا يمكن تحقيقه على مستوى البشر : هناك تأخّر، وتعارض، واضطهاد، وضعف الشعب. ويُطرح السؤال حول الإيمان بكلمة الله، والأمانة لعهده، أو حول تتمّة الوعد. فمنذ المنفى حتى المسيح، كانت محنة البقيّة الباقية محنة رجاء. فملكوت الله يبدو وكأنه يتراجع في الزمن، يبدو كأنه يبتعد ولا يريد أن يتحقّق. والتجربة هي تجربة الزمن الحاضر، زمن "هذا الدهر"، تجربة العالم. فشعب الله صار شعبًا بشريًا وحسب، ونسيَ تدخّلَ الله في التاريخ. وعى عمل الشيطان الذي هو "اركون (سيد) هذا العالم". إن محنة الرجاء هذه محنة حميمة وهي تنقّي الانسان في أعماقه. حين يكون الله قريبًا، تكون المحنة أقوى، شأنه شأن الروح (يه 8 :25ي). وتنتهي المحنة في دينونة أخيرة : مجيء الملكوت ودخول الدهر الآتي في العالم الحاضر. ثانيًا : محنة الانسان في وضعه البشري. (أ) على مستوى الشخص. نقل الحكماء إلى المستوى الشخصي المحن التي عاشها الشعب، فشدّدوا على وجهة أخرى من وجهات المحنة : ألم البارّ. هنا تصل المحنة إلى الذروة، ويصبح الله قريبًا جدًا من الانسان. عندذاك يتواجه الانسان لا مع المستحيل، بل مع العبث. فلا تعود التجربة شكًا بقدرة الله، ولاأمانة تجاهه. ولا تعود في أن نفضّل العالم عليه، بل أن نجدّف عليه، فنشهد للشيطان ولا نشهد له. فتح أيوب الجدال وجعله في سرّ حكمة الله. ما أراد أن يتهرّب من الصعوبة، بل أقرّ أن المحنة تجعل الانسان شيئًا فشيئًا في سرّ الله (رج تك 22). ونجد خيوط جواب في أناشيد عبد يهوه (إش 52 :13-53 :12) وفي سفر دانيال (9 :24-27؛ 12 :1-4) وفي سفر الحكمة. تبدو المحنة هنا وكأن لا حلّ لها على المستوى الفرديّ. فينبوعها هو خارج الانسان (حك 1 :13؛ 2 :24)، لأنها ترتبط بطبيعة الانسان. قد تقود المحنة إلى الموت. ولكن شخصًا واحدًا جعلها تؤول إلى الحياة، شخصًا لا يقوى عليه إبليس، شخصًا يتضامن مع "الكثيرين" ويحلّ محلهم في ذبيحة بدليّة. هو عبد الله المتألّم الذي سيجد كماله في شخص يسوع المسيح. (ب) على مستوى الطبيعة البشريّة. هذه الاستنتاجات المطبوعة بالفكر الكهنوتيّ، تلتقي تلك التي نجدها في أخبار التكوين منذ البدايات، فتجعلنا نلج عمق الوضع البشريّ. فالاختيار هو في النهاية، تعبير عن وحي حبّ الله المجانيّ وعن حريّته. إنه يدعو الانسان إلى جواب فيه كل الحريّة. والمحنة هي الحقل الذي يُعطى فيه هذا الجواب. دلّ تك 2 عن طريق الصور على هذه العناية الخاصة بملك الخليقة الذي هو الانسان. مثل هذا الحبّ مع ما فيه من اختيار، لا يُفرض فرضًا، بل يُعرض عرضًا : من هنا المحنة عبر شجرة معرفة الخير والشر (تك 2 :17). وهكذا كُشف الوضع البشريّ الأساسيّ : فالانسان هو انسان في امكانيّته بالاختيار : هو يأخذ جانب الله لأنه مخلوق على صورة الله. غير أن آدم اختار نفسه كإله، وما اختار الاله الحقيقيّ (تك 3 :5). فبين المحنة والخيار جاءت الأزمة، جاءت التجربة مع محرّكها الشيطان. وهكذا نرى أن التجربة هي أكثر من المحنة، بل هي ذروة المحنة. دخل هنا عنصر هام : الشريّر الذي هو أيضًا أبو الكذب، الذي طغى الانسان وأضلّه. اختار الانسان أن يكون وحده (لا مع الله)، لأنه اعتبر أنه يجد في الخطيئة الحياة. ولكنه وجد العري والموت، فدلّ على أن ضلاله كان مبينًا. إذن تضمّنت المحنة التي مرّ فيها، صراعًا ضدّ الكذب، وحربًا لكي يختار بحسب الحقّ. ففي الحقّ فقط نستطيع أن نعيش خبرة الحريّة (يو 8 :32-44). ذاك هو الجواب الأخير على اعتبارات الحكماء. 2) العهد الجديد. ^ أولاً : تجارب المسيح. إن الشيطان جعل المسيح في وضع فيه خطئ آدم، وخطئ الشعب. فالمحنة والتجربة اجتمعتا فيه، ولكنه تجاوزهما، فأتمّ حبّ الاختيار الذي دُعي إليه. المسيح هو نسل الوعد، وبكر الشعب الجديد. في البرية (لو 4 :1-2) انتصر يسوع على المجرِّب في عقر داره (لو 11 :24). هو الانسان الذي يغتذي بكلمة الله، وهو يهوه المخلّص الذي ما زال شعبه يجرّبه (مت 16 :1؛ 19 :3؛ 22 :18). يسوع هو الملك الأمين، والراعي الصالح الذي أحبّ أخصَّاءه حتّى حدود المحبّة. والصليب هو المحنة الكبرى (يو 12 :27-28) التي فيها برهن الله عن حبّه (3 :16-17). ويسوع هو البقيّة الباقية، ذاك الذي فيه ركّز الآب حبّه. لهذا أبغضه العالم، ولكنه انتصر على العالم (15 :18؛ 16 :33). ويسوع هو عبد الله وعابده، هو حمل الله. حين حمل على صليبه خطايا البشر، حوّل تجربة التجديف إلى تشكٍّ بنويّّ، والموت العبثيّ إلى قيامة (مت 27 :46؛ لو 23 :46؛ فل 2 :8-9). يسوع هو آدم الجديد وصورة الآب. وتجربته هي تجربة الرأس، وهي تندرج بين تيوفانيّة رسالته وممارسة هذه الرسالة (مر 1 :11-14). وعلى مدّ هذه الرسالة سيلتقي بالتجربة تجاه مشيئة الله، من خلال أقاربه (مر 3 :33 ي)، وبطرس (مر 8 :33)، والمعجزات الظاهرة (مر 8 :12)، والمسيحانيّة الزمنيّة (يو 6 :15). وأخيرًا انفتحت المحطّة الأخيرة في رسالته على التجربة الأخيرة، تجربة النزاع (لو 22 :40-46). وهكذا انتصر يسوع على المجرّب منذ البداية، وحتى نهاية رسالته (لو 4 :13)، فأعاد البشرية إلى وضعها الحقيقيّ وإلى دعوتها في أبّوة الله (عب 2 :10-18). ثانيًا : تجربة الكنيسة. خرجت الكنيسة من تجربة المسيح، على مثال "الكثيرين" الذين برّرهم عبد الله (إش 53 :11). فتبعت رسالتُها رسالةَ المسيح (2تم 2 :9ي؛ لو 22 :28ي). فالمعمودية حيث يصبح فصحُ يسوع فصحَ الكنيسة، هي محنة، وهي تعلن محنًا ستأتي فيما بعد (عب 10 :32-39). هنا تمتزج الألفاظ التي تتحدّث عن المحنة مع تلك التي تتحدّث عن الألم والصبر، في إطار سيكولوجيّ لا اسكاتولوجيّ. فقربُ عودة الربّ ترفع قوّة التعارض بين النور والظلمة. فالكنيسة هي موضع المحنة، الموضع الذي فيه يُثبت الاضطهادُ أمانتها (لو 8 :13ي؛ 21 :12-19؛ مت 24 :9-13) ومحنة الكنيسة هذه هي جليانيّة (تعيش منذ الآن على ضوء مجيء المسيح ودينونته). فهي تكشف الأمور الخفيّة للانسان البدني (من لحم ودم، مع ما في ذلك من ضعف) ومسؤوليّة كل واحد في المسؤوليّة الكبرى الآتية من الآب، مسؤوليّة المسيح (عب 2 :14-18). هناك بطرس (لو 22 :31-32). والتلاميذ (لو 21 :12-13). وكل كنيسة مؤمنة (رؤ 2 :10). في هذا المعنى تجد المحنة والرسالة ذروتهما في الاستشهاد. غير أن الصراع الكبير الاسكاتولوجيّ، الذي هو محنة الكنيسة الخاصّة، يكشف صاحب التجربة الحقيقيّ : الله يمتحن أعضاءه. وإبليس وحده يجرّبهم (لو 22 :31؛ رؤ 2 :10؛ 12 :9-10). والكنيسة في محنتها، تنزع القناع عن المجرّب، عن المتّهم، وتشهد شهادة الروح الذي يقودها إلى الفصح الأخير. لهذا، فهي تبدو مخلَّصة ومضطهدة معًا (رؤ 3 :10؛ 2بط 2 :9؛ رج دا 12 :1). إذن، المحنة هي وضع الكنيسة التي صارت نقيّة والتي ستمرّ أيضًا في المحنة، التي هي مجيدة والتي تحتاج أيضًا إلى إصلاح. ثالثًا : تجربة المسيحيّ. يتسجّل إعلان الانجيل في الضيق الاسكاتولوجي (مت 24 :14). إذن، المحنة ضروريّة للذين تقبّلوا خدمة الكلمة (1تس 4 :2؛ 2تم 2 :15)، وإلاّ كانوا من التجّار (2كور 2 :17). فالمحنة هي علامة الرسالة (1تم 3 :10؛ فل 2 :22). هنا يأتي تمييز المرسلين الكذبة (رؤ 2 :2؛ 1يو 4 :1). على المستوى السيكولوجي، يستقصي الله القلوب ويمتحنها (1تس 2 :4). ولكنه يسمح فقط بالتجربة (1كور 10 :13). فالتجربة تأتي من المجرّب (أع 5 :3؛ 1كور 7 :5؛ 1تس 3 :5) عبر العالم (1يو 5 :19) والمال (1تم 6 :9). لهذا يجب أن نطلب أن لا ندخل في التجربة (مت 6 :13؛ 26 :41)، لأن التجربة تقود إلى الموت (يع 1 :14-15). وهذا الموقف، موقف الصلاة الربيّة، هو على نقيض مع موقف ذاك الذي يجرّب الله (لو 11 :1-11). المحنة هي من أجل الحياة. هي معطية في حياة يسوع. "فكل من أراد أن يحيا في المسيح يسوع حياة التقوى أصابه الاضطهاد" (2تم 3 :12). المحنة شرط لا بدّ منه من أجل النموّ (رج لو 8 :13ي) والقوّة والحقّ والتواضع (1كور 10 :12). هي طريق الفصح الداخليّ، فصح الحبّ الذي يرجو (رو 5 :3ي).