اتّفق سرابيون الرواقيّ السوريّ، وفلافيوس يوسيفوس (العاديات 18 :14) في نهاية القرن الاول المسيحي، مع تاقيتس (حوليّات 15 :44) في بداية القرن 2، على نقطتين : إن بيلاطس حكم على يسوع بالموت. ثم إنه حكم على يسوع بإيعاز من اليهود. وسائر ما نعرفه عن محاكمة يسوع يرتكز على الأناجيل التي تقدّم ملفًا كاملاً : كرَّس الإزائيون لمحاكمة يسوع ثلث خبر الآلام (مر 14 :53-15 :20؛ مت 26 :57-27 :31؛ لو 22 :54-23 :25)، ويوحنا نصفه (يو 18 :12-19 :16). اللحمة الاساسيّة في هذه الشهادات الأربع هي هي : عرفت المحاكمة مرحلتين : المرحلة اليهوديّة والمرحلة الرومانيّة. وبالتالي عرفت اتهامين : اتهام ديني واتهام سياسي. أما الفاعلون الرئيسيون في هذه المأساة فهم هم : إلاّ أننا، حين ننتقل من خبر إلى خبر، ترد تفاصيل كرونولوجية ويُذكر أشخاص، وكل هذا يتطلّب تفحّصًا خاصًا. 1) الدعوى لدى اليهود. ^ أولاً : المثول أمام حنان. أعلن يو أن يسوع، بعد أن قُبض عليه، اقتيد أولاً إلى عظيم الكهنة حنان، حميّ قيافا الذي كان عظيم الكهنة من سنة 18 إلى سنة 36 (يو 18 :12-23). بما أن الوالي فاليريوس غراتوس عزل حنان سنة 15، فهذا يعني أنه لم يعد رئيس كهنة. لماذا هذه الاشارة الخاصة في يو؟ طُرحت عدّة فرضيات : نحن أمام نصّ أولاني أعيدت صياغته (هذا ما تدلّ عليه ترجمة سريانية). وجود محكمة من الدرجة الثانية، وكان حنان رئيسًا لها... مثل هذه الشروح تبقى ضعيفة. ما هو معقول هو علامة احترام من قبل قيافا تجاه انسان حافظ على نفوذه. هذا المشهد الذي هو ممكن على المستوى التاريخيّ، يطرح مع ذلك سؤالاً : نحن هنا أمام الاستجواب الوحيد في يو. وهو يتعلّق بأسئلة بسيطة : سُئل يسوع عن "تلاميذه وعن تعليمه". ليس هذا الاستجواب برسمي، بل استقصاء فرديّ، وهو لا يتضمّن أي حكم. ثانيًا : المثول أمام المجلس الاعلى (السنهدرين). حسب الازائيين (مر 14 :53-64 وز)، مَثُل يسوع مباشرة أمام قيافا. ثم أخِذ في الليلة ذاتها (مر 14 : 55؛ مت 26 : 59) أو في صباح الغد (لو 22 : 66) أمام المجلس الذي التأم لهذه الغاية. هذا الاختلاف الكرنولوجي طرح سؤالاً على الشرّاح، لا سيّما وأن مر 15 :1؛ مت 27 :1 يتحدّثان في نهاية الدعوى عن جلسة السنهدرين في صباح الغد. هل كان هناك جلستان (مر، مت)، واحدة في الليل والأخرى في الصباح؟ الأمر ممكن. أما لو فاحتفظ بشكل صريح بجلسة الصباح، فدلّ على أنه كانت جلسة واحدة. هذا يعني أننا أمام تقليدين، وهذا ما يفسّر التكرار في مر ومت. بل نكون أمام ثلاثة تقاليد إذا أخذنا بعين الاعتبار المثول أمام حنان. في هذا المنظار تُعطى الافضليّة للوقا الذي يتيح لنا أن نجد الجواب على سؤال آخر وهو شرعيّة المحاكمة، لا سيّما وأن التقليد اليهوديّ لا يسمح بالتشاور من أجل المحاكمة في الليل. هذه الاشكاليّة ترتبط بالحساب "القصير" لخبر الآلام الذي بدأ مساء الخميس وانتهى مساء الجمعة (هو الحساب المقبول رغم الصعوبات التي يطرح)، ويفسَّر بسرعة السلطات اليهوديّة كي تنتهي من هذه القضيّة. ولكن هناك رأيًا آخر ينطلق من وجود كلندارين، الكلندار القمري الرسميّ، والكلندار الشمسيّ الكهنوتي، فيتحدّث عن حساب "طويل" شمسيّ، ينطلق من الثلاثاء مساء وينتهي يوم الجمعة. هكذا تزول الصعوبات، بعد أن أرادت الشريعة اليهودية أن يفصل يومٌ كامل الاستجوابَ والحكم. تبقى مسألة الصلاحيّة القانونيّة لهذه المحكمة في النظام الروماني : هناك من ظّن أنه كان لهذه المحكمة الحقّ بالحكم بالاعدام، كما حدث بالنسبة إلى استفانوس (أع 7 :55-56). واعتبر آخرون أن الأبحاث الحاضرة لا تتيح لنا بعدُ أن نعطي جوابًا. ولكن يبقى أنه إن احتفظ المجلس بحقّ الحكم بالإعدام، فلا سلطة له بأن ينفّذ هذا الحكم. عليه أن يلجأ إلى المحتلّ الذي احتفظ لنفسه بتنفيذ أحكام الاعدام. بدأ الاستجواب باستدعاء الشهود، حسب الشريعة اليهوديّة (تث 17 :6). هم كاذبون، ولا يتوافقون في أقوالهم (مر، مت). ولكن يبقى أن التلميح إلى أقوال يسوع حول دمار الهيكل، وإن مالت بعض الشيء عن الحقيقة، تبقى خطيرة، وتقوده إلى الموت (رج إر 26 :20-24؛ أع 7 :46-47). أغفل لو هذا المقطع. ظلّ يسوع صامتًا. فأجبر قيافا على استجوابه : "هل أنت المسيح ابن الله"؟ قدّم الازائيون جوابًا مماثلاً في العمق، وإن اختلفت تعابيرهم في التفاصيل. أعلن يسوع : "أنا هو". وثبّت مقاله بايراد مز 110 :1 و دا 7 :13. كيف اعتُبر هذا الجواب تجديفًا؟ اعتبر بعض الشرّاح أنه لا يمكن اتخاذ موقف. أن يقول انسان انه "ابن الله "، فهو لا يجدّف بالضرورة (حك 2 :13-18؛ مت 5 : 9). ولفظة "بلسفيميا" (تجديف) قد تؤخذ في معنى واسع. غير أن العودة إلى الكتاب المقدس لا تغشّ المجلس : "أأنت ابن الله " (لو 22 :70). أراد يسوع أن يقول إنه الابن في معنى تامٍ مسيحانيّ. وحسب لا 24 :16، نحن هنا أمام تجديف يستحقّ الموت. نلاحظ أن الحكم يصوَّر بشكل تمنٍّ : "إنه يستوجب الموت" (مر، مت). أما في لو فلا يصدر حكم، وهو الذي يتكلّم فقط عن "شهادة". إن مثول يسوع أمام المجلس أمر تاريخي مهما قال النقّاد ولا سيّما اليهود منهم : اخترعه الانجيليون كي يتهموا اليهود. "محاكمة مزعومة" تجعل يسوع يخسر كل اعتبار، أو تُظهر دور الجموع. ويُطرح السؤال حول الحكم : هل نحن أمام حكم بالموت؟ بعضهم يقول كلا. والآخرون لا يرون وضوحًا إلاّ في مر. وهناك اختلافات في التقاليد، تقليد مت ومر، تقليد لو ويو. إذن، نحن أمام تطوّر في الحدث انطلق من مر وزيدت عليه بعض الأمور. 2) الدعوى لدى الرومان. ^ أولاً : المثول أمام بيلاطس. سأل بيلاطس يسوع : "هل أنت ملك اليهود" (مر، مت)؟ السؤال جاء بدون تهيئة. أما لو 23 :2 فاهتمّ بالوضوح، وقدّم أولاً اتهامات اليهود : "لقد وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة في شعبنا، ويمنع أن يدفع الجزية إلى قيصر، ويدّعي أنه المسيح الملك". اتهامات غير دقيقة، ولكنها لبقة، لأنها لا تحتفظ إلا بما يهمّ بيلاطس الوالي (الذي عينّته رومة من سنة 26 إلى سنة 36 من أجل تدبير اليهوديّة. كل السلطات في يده، حتى العفو أو الحكم بالاعدام). جرت قضيّة يسوع في إطار فصحيّ، لهذا كان من الطبيعي أن يقيم بيلاطس (الذي يقيم عادة في قيصرية البحريّة) في أورشليم، في قصر هيرودس، عند باب يافا. هناك تبدأ المحاكمة. فأجاب يسوع : "أنت قلت". جواب بسيط في تعبيره، ولكننا نستشفّ فيه أكثر من ذلك : "نعم، ولكن". هذا الجواب كان في يو 18 :34-37 بداية حوار بين يسوع وبيلاطس عن معنى هذه المملكة. حسب مر ومت، تواصلت الاتهامات، ولكن يسوع ظلّ صامتًا، فاندهش بيلاطس. ثانيًا : مثول يسوع أمام هيرودس انتيباس. بدل هذا، أورد لو 23 :6-12 أن بيلاطس حين علم أن يسوع جليليّ، أرسله إلى هيرودس، تترارخس الجليل (حتى سنة 39)، الذي جاء هو أيضًا إلى أورشليم من أجل الأعياد. حدث حقيقيّ هو مثول يسوع أمام هيرودس (كما يقول مجمل الشرّاح)، وإن اعتبرت قلّة قليلة أن لو اخترعه ليقرأ مز 2 :1 كما فسّره بطرس ويوحنا في أع 4 :27. إن الديدسكاليا واغناطيوس الانطاكي (في الرسالة إلى السميرينيين 1 :2) يشهدان لهذا الحدث الذي لا يتعارض مع الممارسة القانونيّة الرومانيّة التي عرفت حالات مماثلة (هذا ما فعله وسباسيانس مع هيرودس اغريباس الثاني سنة 67). غير أن هذا الحدث لا يحمل جديدًا إلى الملفّ. فيسوع ما أجاب إلى اتهامات اليهود ولا إلى سؤالات هيرودس الذي خاب أمله وأحسّ بالاهانة. فعامله باحتقار، وأرسله إلى بيلاطس دون أن يحكم عليه. ثالثًا : عودة يسوع إلى بيلاطس. إن عودة يسوع أمام بيلاطس أعطت لوقا المناسبة لكي يتوسّع في موضوع عزيز على قلبه : براءة يسوع التي اعترف بها بيلاطس اعترافًا علنيًا (23 :4، 14، 15، 22). ونقول الشيء عينه عن يوحنا (يو 18 :38؛ 19 :4، 6). نفهم هذا التشديد، أقلّه في لو، في جوّ القارئ اليونانيّ والروماني. والتقت الأخبار الاربعة لتشير إلى محاولة بيلاطس بأن يطلق يسوع : يبادله مع صاحب فتنة اسمه براباس. هذه الممارسة وجدت ما يشبهها في السابق. فالحقّ الرومانيّ والعادات اليهودية تجعلها ممكنة (وإن رفض البعض هذه الامكانية). أراد بيلاطس في حيلته أن يتلاعب بعاطفة الجموع، ولكنه لم يقدّر حقّ قدره الحماس الجامح. "فصاحوا بصوت واحد" (لو 23 :18). طالبوا بصلب يسوع. ندهش من تدخّل الجموع في محاكمة انسان، ولكن هذا كان أمرًا معروفًا لدى اليهود والرومان. أراد بيلاطس أن "يرضي" الشعب، كما قال مر، أن يلبّي مطلب الشعب كما قال لو، فأطلق برأبا و"أسلم يسوع" (مر، مت، لو، يو) "لكي يُصلب" (مر، مت، يو). أسلمه حسب مطلبهم، حسب ما شاؤوا، كما قال لو الذي لم يذكر الجلد. هل نحن أمام حكم؟ في فعل "أسلم" (باراديدومي) نجد القيمة القانونيّة للحكم بالإعدام. من هو المسؤول عن هذا القرار؟ بيلاطس، المجلس، أم الشعب؟ شدّد لو ويو على مجهود بيلاطس لكي يجعلهم يعترفون ببراءة يسوع. وحدثُ براباس، الذي يشارك فيه الانجيليون الاربعة، يثبّت هذه الوجهة. وزاد متّى تفاصيل حلم امرأة بيلاطس (27 :19) وغسل الأيدي (27 :24-25). أما الجموع فقد تلاعب بها المجلس الأعلى (مر 15 :11 وز). ولكن المجلس الذي أراد أن يميت يسوع، أجبر على اللجوء إلى الوالي كي يصل إلى هدفه. والجواب؟ في هذه الآراء المختلفة بعضهم يبرّئ الرومان أو اليهود تبرئة تامة. وبعضهم يحمّل الرومان واليهود كامل المسؤوليّة. أما نحن فنقول : المخطئون الأولون هم رؤساء اليهود. ضحّوا بالبريء بسبب حسدهم. ومسؤولية الجمع أقلّ من مسؤولية بيلاطس الذي بدا أنانيًا وضعيفًا.