في اليونانية : اكليسيا. في السريانية ترتبط بفعل "جمع". أما المعنى الدنيوي للفظة اليونانية فهو : جماعة الشعب. والمعنى الديني : جماعة محصورة، كنيسة محليّة. بعد ذلك عنت الكنيسة الجامعة. في القرن 3 ب.م. ستدلّ على البناء الذي تلتئم فيه الجماعة كاختصار للعبارة الاصليّة : "بيت الكنيسة". إن الكتاب المقدس الذي يتوجّه إلى الايمان، يرى الكنيسة كسرّ (أف 1 :9-10) حُفظ منذ أزمنة الأزل في الصمت، ولكنه تجلّى الآن، وتحقّق جزئيًا (رو 16 :25-26). هي سرّ شعب ما زال خاطئًا، ولكنه يمتلك بواكير الخلاص، لأنه امتداد جسد المسيح وموضع الحب (رج كو 1 :2). هي سرّ مؤسّسة بشريّة وإلهيّة، فيها يجد الانسان النور والغفران والنعمة "لتسبيح مجد الله" (أف 1 :14). 1) الألفاظ في السبعينية تظهر لفظة "اكليسيا" قرابة مئة مرّة وتترجم عادة العبرية "ق هـ ل" (الجذر : جمع). حين تُستعمل اللفظة وحدها، فهي تدلّ على الجمع في المعنى الدنيويّ (تث 9 :10؛ 18 :16؛ 1صم 19 :20؛ 1مل 8 :65؛ سي 26 :5). ولكن حين يضاف "يهوه" نقول "جماعة الرب" (تث 23 :2-3؛ 1أخ 28 :8؛ نح 13 :1؛ مي 2 :5). ويقال أيضًا "جماعة اسرائيل" أي شعب اسرائيل الذي يدعوه الله ويجمعه (1مل 8 :14، 22، 55؛ سي 50 :13؛ 1مك 4 :59). أخيرًا، نلاحظ استعمالاً متوازيًا للفظة "اكليسيا" في المزامير (وتتضمّن العبارة "كيريو"، الرب). هذا ما يدلّ على جماعة الله (مز 22 :23، 26؛ 35 :18؛ 107 :32). غير أننا نلاحظ أن اللفظة العبرية "ق هـ ل" تُترجم بعض المرات بلفظة "سيناغوغي" (التجمع) الذي يترجم بعض المرات "ع د هـ"، الفرقة (في النصوص الكهنوتيّة). وحين تترافق "ع د هـ" مع "كيريو" يكون لها معنى "ق هـ ل" : جماعة الرب (عد 20 :4؛ 27 :17؛ 31 :16؛ مز 74 :2). في العهد الجديد دلّت اللفظة دومًا (ما عدا أع 13 :43؛ يع 2 :2) على بيت الصلاة لدى اليهود، على المجمع (الكنيس). لن يستعملها المسيحيون ليدلّوا على جماعتهم بسبب مدلولها الدينيّ الخاص بالعالم اليهوديّ. استعملت لفظة "اكليسيا" 115 مرّة في العهد الجديد، ولا سيّما عند بولس (63 مرة، ثم عب 2 :12؛ 12 :23) وفي أع (23 مرة). بين الانجيليين، تفرّد متّى في استعمالها (16 :18؛ 18 :17). في الرسائل العامة، نجدها عند يع 5 :14؛ 3 يو 6، 9، 10. وأخيرًا يستعملها سفر الرؤيا 20 مرّة. ولكن، رغم فجوات هامة، تبدو الكنيسة حاضرة في العهد الجديد. ففي قلب الكنيسة وُلدت أسفار العهد الجديد، وهي وحدها تشهد على حياة هذه الكنيسة. ووعى كتّاب العهد الجديد أنهم ينتمون إلى هذه الجماعة التي أسّسها يسوع المسيح والتي تجد فيها الكنيسةُ كلَّ تماسكها ووحدتها. لهذا لا نستطيع أن نتوقّف فقط عند استعمالات لفظة "اكليسيا". بل يجب، عبر كل العهد الجديد، أن نبحث عن ولادة الكنيسة وحياتها. وأخيرًا نلاحظ أن لفظة "كنيسة" استُعملت أولاً في معنى "الجماعة المحلية". إن بولس ينطلق من تشبيه الجسد والأعضاء، فيتوسّع في موضوع الكنيسة المحليّة التي هي جزء من الكنيسة الجامعة. كنا ننتظر أن يحدّثنا بولس عن "كنائس المسيح" (رو 16 :16؛ غل 1 :22، بمعنى "الكنائس التي في المسيح")، لا عن "كنائس الله ". ولكنه حافظ على الترجمة الحرفية لعبارة "ق هـ ل. ي هـ و ه" التقليدية : جماعة الربّ (1كور 1 :2؛ 1تس 1 :1) 2) اللاهوت. ^ أولاً : الأناجيل. كان من الضروري أن يحيط يسوع بنفسه "تلاميذ" لكي يبقى التعليم الذي سيُنقل الى البشر، حاضرًا بعد ذهابه. لهذا، كان أول عمل قام به في بداية حياته العامّة، وبعد ليلة من الصلاة، هو اختيار الاثني عشر "رسولا" (لو 6 :13). سلّم إليهم رسالة : "أن يكونوا معه". "أن يبشّروا" (رج مر 3 :14). هذا العمل يتوافق كل الموافقة مع طريقة الرابينيين الذين أحاطوا هم أيضًا نفوسهم بالتلاميذ. غير أن يسوع تجاوز هذا المنظار، وجمع رسله في "اكليسيا" جعل على رأسها بطرس فأعطاه الاولويّة وكل سلطان على هذه الكنيسة (مت 16 :18-19). مع أن عددًا من النقّاد شكَّ في صحّة هذا النصّ، إلاّ أن التقليد يستند إليه فيرى فيه تأسيس الكنيسة والحلقة الرسوليّة كنظام أراده المسيح. نكتشف في هذا المقطع رنّة ساميّة بحيث نستطيع أن نتعرّف إلى اللغة الاراميّة التي تكلّم بها يسوع. وأخيرًا، هناك موازاة بين هذا النص ورسالة الاهتمام بالقطيع التي كلِّف بها بطرس في يو 21 :15-19. يبقى على اللاهوت أن يبيّن إن كانت هذه الاولويّة قد أعطيت لبطرس وحده، أو هي أولويّة بطرس وجميع خلفائه (كما تعلّم الكنيسة الكاثوليكيّة). فعلى هذا القطيع أن يجمع ليس فقط أولئك الذين كانوا شعب اسرائيل القديم، "ق هـ ل. ي هـ و هـ" (جماعة الرب) القديمة، بل وأيضًا جميع الأبناء المشتّتين. فلا يجب أن يكون بعد اليوم سوى قطيع واحد وراع واحد (يو 10 :16). لهذا أمر يسوع رسله ساعة كان يتركهم بأن "يكونوا شهودًا في أورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض" (أع 1 :8). وأن يعلنوا البشارة إلى الناس أجمعين (مر 16 :15)، وأن يتلمذوا جميع الأمم "ويعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28 :19). غير أن يسوع ما أكتفى بأن "يؤسّس" الكنيسة، بل جعل لها قاعدة حياة. فبدأ يعلّم تلاميذه الصلاة، بناء على طلبهم، كما سبق ليوحنا وفعل (لو 11 :1-2). ونظنّ أن التلاميذ رأوا يسوع يصلّي مرارًا فاستوحوا طريقة صلاته. وقد أراد يسوع أن يعطي قاعدةً خلقيّة لكنيسته. وقد جعل هذه الشريعة في لفظة واحدة : المحبّة التي فيها تتلخّص الشريعة كلها والأنبياء (مت 22 :36-40؛ رج غل 5 :14). هذه الشريعة الخلقيّة لا تلغي شريعة التوراة، بل تتمّها، تكمّلها، توصلها إلى هدفها الأخير. هذا يعني، بالنسبة إلى أعضاء هذه الكنيسة، أن يقبلوا المتطلّبات الخاصة بالتعليم الذي تركه يسوع لكنيسته. متطلّبات قاسية في الظاهر (كما في عظة الجبل). ولكن الحب هو الدافع الرئيسيّ الذي يجعل المسيحيّ يتصرّف بحسبها. وأضاف يسوع إلى هذه الشريعة، الاسرارَ التي هي علامات ورموز تدلّ على وحدة الكنيسة وحياتها : المعمودية (مت 28 :19). الافخارستيا (مت 26 :26-27 وز؛ 1كور 11 :23-26). وحدّد يسوع منظَّمة ترتّب علامات الحياة هذه، منظَّمة جعل على رأسها الرسل، وكلّفهم بأن يواصلوا حياته وتعليمه بعد عودته إلى الآب (مت 28 :16-17؛ لو 10 :16 وز). ثانيًا : أعمال الرسل. حين ترك يسوع الأحد عشر رسولاً "على الجبل الذي يُقال له جبل الزيتون" (1 :12)، عاد هؤلاء إلى أورشليم واجتمعوا في ما بينهم ترافقهم "بعضُ النسوة، ومنهنّ مريم أم يسوع، واخوة يسوع" (1 :14). هذه هي "الجماعة" "اكليسيا" التي التأمت في العلّية. هل نحن أمام كنيسة في المعنى الذي نفهمه عادة؟ كما أن حواء خُلقت من جنب آدم خلال رقاده، وُلدت الكنيسة من جنب المسيح خلال رقاد موته. هذا ما قاله آباء الكنيسة. لهذا، وُلدت الكنيسة يوم الفصح مع المسيح القائم من بين الأموات. وفيضُ الروح الذي بدأ يوم الفصح والقيامة، حين "نفخ" يسوع على تلاميذه (يو 20 :22)، يصل إلى ملء نتيجته بفيض المواهب العظيم في يوم العنصرة (أع 2 :4). وذلك من أجل شهادة الاثني عشر (أع1 :8) والتجلّي العلنيّ للكنيسة. إذن، نستطيع أن نحدّد "التاريخ الرسمي"، لولادة الكنيسة : يوم العنصرة الذي تبع قيامة يسوع المسيح. في اليوم الخمسين بعد الفصح، اجتمع الاثنا عشر (انضمّ متيا إلى حلقة الرسل) "كلهم معًا". هناك جدال : هل الرسل وحدهم هنا، أم يجب أن نعود إلى 1 :14 حيث نرى أيضًا التلاميذ والنسوة مع مريم؟ يبدو من خلال قراءة متنبّهة لنصّ أع 2، أن الاثني عشر وحدهم كانوا حاضرين. هجم الروح القدس فجأة في المكان الذي كانوا فيه، وفي كل واحد منهم، كما سبق يسوع وقال : ساعة كان الاثنا عشر بعدُ حائرين بسبب ذهاب يسوع (1 :11) امتلأوا ثقة وشجاعة وأخذوا يعلنون البشارة، الخبر الطيّب. لقد تأسّست الكنيسة واستندت إلى شهادة الرسل وكرازتهم. أما هم فبدأوا كرازتهم مبيِّنيين أنهم شهود بأن يسوع المسيح الذي قُتل، قد قام من بين الأموات، كما في الكتب، وأنه صعد في المجد لدى أبيه. فمن أراد أن يؤمن بهذه البشارة، وجب عليه أن يؤمن وينال المعمودية باسم يسوع المسيح لغفران خطاياه (رج الخطب في أع؛ والكرازة). وهكذا انضمّ المعمَّدون الجدد إلى الجماعة، أي إلى الكنيسة. في أع الذي هو الجزء الثاني من مؤلَّف لوقا (الأول هو الانجيل الثالث)، عمل الكاتب على إظهار نموّ هذه الكنيسة التي انطلقت من نواة الاحد عشر، فضمّت 3000 شخص يوم العنصرة (2 :41)، وآخرين عديدين من الشعب كله (2 :47). وهكذا صار العدد 5000 (4 :4) بعد أيام قليلة. فامتدّ إلى اليهوديّة والجليل والسامرة (9 :31) ولامس الوثنيين مع شاول (بولس) وبرنابا (11 :20-21)، ليصل إلى "أوروبا" (16 :9-10) ورومة أي إلى "أقاصي الأرض" حسب الأمر الذي أعطاه يسوع (1 :8). وسيبيّن أع الحياة الناشطة في هذه الكنائس حيث تسيطر المحبّة بفضل المشاركة في جميع الخيرات. ولكن الليتورجيا لم تكن غائبة : ليتورجيا تقليديّة في الهيكل (3 :1) أو في المجمع (13 :5). ثم كسر الخبز (أي الافخارستيا) حسب ما أمرهم يسوع أن يفعلوا بقيادة الاثني عشر وحسب تعليمهم (2 :46). نستطيع أن نتحفّظ بعض الشيء أمام هذه "الاجمالات" التي تقدّم الجماعة الأولى كمثال يُحتذى. فمقابل هذه "المشاركة"، هناك حدث حنانيا وسفيرة (5 :1-10). ومقابل هذه "الوحدة"، أزمة الارامل التي انتهت بتأسيس السبعة (6 :1ي، استفانوس، فيلبس...). ومقاطع عديدة من الرسائل البولسيّة ومن رسالة يعقوب ومن رؤ 1 :4-3 : 22 والرسائل إلى الكنائس. إلاّ أن أع يبيّن لنا أن هذه الكنيسة تشعر أنها الكنيسة الوحيدة الواحدة التي أسّسها يسوع المسيح الذي هو مركزها وحياتها. هذه الكنيسة التي تدعو الجميع للدخول إليها. اليهود أولاً. والوثنيون أيضًا (13 :46). وعندما تبرز صعوبة ماديّة في هذه الكنيسة أو تلك، تهتمّ الكنيسة كلها بالذين يمروّن في المحنة (11 :27-28). والكنيسة تنظّم أعضاءها ليتقاسموا المهام في ما بينهم (6 :1ي)، كما تقرّر طريقة الحياة في داخلها (أع 15). وهكذا نلاحظ الصعوبة في أن نتصوّر مسيرة تنظيم الجماعات الأولى : هي مبنية بناء، في تراتبيّة. هي مستعدة لأن تقوم بوظيفتها. ثالثًا : الرسائل البولسيّة : إن أهميّة الفكر البولسي حول الكنيسة كبيرة جدًا. لهذا تحتلّ دراسته مكانة واسعة. ولن نميّز بين رسائل بولسيّة ولا بولسية. بل ننطلق من الرسائل الثلاث عشرة، من رو حتى فلم. (أ) الكنيسة بشكل عام. نجد عند بولس بعض الاستعمالات للفظة "اكليسيا" في صيغة الجمع : هذا يعني للوهلة الأولى أن هناك جماعات متعدّدة تعيش الواحدة بقرب الأخرى (رج "سائر الكنائس" في 2كور 11 :8؛ 12 :13). ولكن يجب أن نتذكّر أولاً أن اللفظة تعني قبل شيء عند بولس، الكنيسة المحليّة (في بداية 1تس، 2تس، 1كور، 2كور، رو). كما نتذكّر أن بولس يتحدّث عن "جميع الكنائس" (رو 16 :14-16؛ 1 كور 7 :17؛ 14 :33؛ 2كور 8 :18؛ 11 :28)، وعن "الكنيسة كلها" (رو 16 :23؛ 1كور 14 :23). إذن، نفهم أن بولس لا يرى الكنيسة عددًا من الجماعات تقوم الواحدة بجانب الأخرى، بل جماعة واحدة وحيدة هي "كنيسة الله ". كنيسة يجمعها ويوحِّدها رئيس واحد هو المسيح. ويبدو أن هذا المدلول واضح في نظر بولس بشكل مباشر. غير أننا نلاحظ أيضًا بعض التطوّر الذي يُتيح للرسول أن يصل إلى هذا المدلول الخاص به، مدلول جسد المسيح. ففي مدلول الكنيسة هذا، يعلن بولس جوهريًا بأن البشر يجتمعون في المسيح لأنهم شعب الله. ففي نظر بولس، الكنيسة هي واقع من العالم الحاضر. قبل ذلك كان هناك زمن اسرائيل. والآن هو الزمن الحاضر بانتظار العالم الآتي. الكنيسة هي شعب الله على الأرض، الذي يعيش بانتظار اللقاء مع شعب الله الذي هو منذ الآن في السماء لدى الآب. تبرّرت الكنيسة بموت المسيح وقيامته، وهي تستعد لتقبّل ملء الخيرات المقبلة التي تسلّمت حتى الآن بواكيرها (أف 1 :14). بعد مسيرة التوبة والاعتراف الايمانيّ بيسوع المسيح (رو 10 :5-6)، ينضمّ الانسان بالمعموديّة إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة. ولكنه يحتاج أولاً إلى نداء سابق من الله ونعمته الفاعلة والأبديّة (رو 8 :28-30؛ 9 :16؛ 2تس 2 :13-14). واختيارُ الله الحرّ الذي يرافقه عمل إيجابي من قبل الانسان، يستبعد محاباة الوجوه وتفضيل شخص على آخر بسبب لون وجهه أو موقعه الاجتماعيّ... هل هو يهودي أم يوناني أم اسكوتي؟ هل هو غنيّ أو فقير (غل 3 :28؛ كو 3 :11)؟ ففي نظر بولس، كنيسة شاملة، مسكونيّة. هي تتوجّه إلى جميع البشر. وحين رفض شعبه الخاص بأن يدخل في هذه الجماعة، كان هذا الرفض لبولس أعظم ألم أحسّ به في حياته. فرغم محاولاته العديدة لكي يجعل شعب اسرائيل يعلن الايمان الحقيقي (هذا ظاهر في أع)، فهذا الشعب قسَّى قلبه. لهذا توجّه بولس إلى الوثنيين فرأى فيهم "اسرائيل الله" (غل 6 :16)، أبناء ابراهيم الحقيقيين (غل 3 :29؛ رو 9 :6)، المختونين بحسب الروح (فل 3 :3). وارتسم في داخل الكنيسة بشكل سريع جدًا، تنظيمٌ تراتبيّ (قيادي) سنجده في بداياته، ويصعب علينا أن نكتشف تفاصيله. وبولس نفسه مارس بعض السلطة، على الكنائس التي أسّسها. فعلى رأس بعض هذه الكنائس، رؤساء محلّيون "يرئسون" (روم 12 :8)، "يدبّرون" (1كور 12 :28)، "يرشدون" (1 تس 5 :12). ونرى ظهور "الاساقفة" و"الشمامسة" (فل 1 :1؛ رج 1تم 3 :1ي). وهذا يعني أن هذا النظام بدأ ينمو منذ ذلك الوقت. وكان للعنصر المواهبيّ أهميّته، مع مكانة للرسل والمبشرين والأنبياء (1كور 12 :8)؛ أف 4 :11). ولكن ينبغي على بولس أن يحدّد بعض النقاط التي سيعود إليها فيما بعد بسبب بعض الاعتراضات (1كور 12-14). بدأ فذكّر بأن الكورنثيّين لا تنقصهم موهبة واحدة (1كور 1 :7). ولكن هناك بعض العادات قد تنظّمت وترّتبت بفعل سلطة وُضعت في الكنيسة، على مثال ما في كنائس الله (1كور 11 :16) أو بالعودة إلى "وصايا مِنَ الربّ" (1كور 7 :10، 25؛ 9 :14) التي تسلّمها بولس من الرب مباشرة أو من التقليد (1كور 11 :23؛ 15 :3؛ غل 1 :12). (ب) الكنيسة جسد المسيح. يصعب علينا أن نعرف أصالة الفكر البولسي في المدلولات التي أشرنا إليها سابقًا. هل أخذها من إرث الكرازة الرسولية أو اللاهوتيين في الجماعة الأولى؟ إن صورة الكنيسة كجسد المسيح هي نظرة عميقة جدًا وأعمق ما قيل في هذا المجال. ونبدأ مع رو، 1كور. نتوقّف هنا عند 1كور 12 :12-31؛ رو 12 :4-8. ثم عند 1كور 6 :16-20؛ 10 :14-22. معنى هذه النصوص بسيط جدًا. يستند بولس إلى صورة معروفة جدًا في العالم القديم، صورة الجسد البشري أو أعضائه التي تؤلّف وحدة. فرغم اختلاف وظائفها، فهي تعمل معًا للوصول إلى الهدف الواحد. كان التعبير عن هذه الصورة في صراع الأعضاء بعضها مع بعض (ابيكتيت، سينيكا، مرقس اوريليوس). استعمل القديس بولس هذه الصورة بطريقته الخاصة ومن أجل هدفه الخاص في 1كور. إذن، الهدف الرئيسيّ هنا وفي الرسائل الكبرى، هو إبراز الوحدة والتنوّع في الكنيسة، والدلالة على أن كل موهبة تخضع للهدف الواحد : فائدة الجماعة كلها. ولكن بولس حصر نفسه في هذه الصورة العادية، بل تجاوزها وأدخلها في إطار أفكاره الاساسيّة حول سرّ المسيح والفداء : الروح هو الذي يكوّن وحدة الجسد. وهو الذي بالمعمودية يوحّد المؤمنين مع المسيح (1كور 6 :11؛ رو 6 :1-11). ويوحّدهم أيضًا بعضهم مع بعض فيجعل منهم جسدًا واحدًا (1كور 12 :13؛ رج غل 3 :28). هذا الجسد هو "جسد المسيح" (1 كور 12 :27). هو "في المسيح" (رو 12 :5). بل هو "المسيح" نفسه (1كور 12 :12). ولكن يتطلّع بولس الآن فقط إلى الجسد في مجمله، ولا يدخل في التفاصيل. كما أنه لم يتطرّق إلى العلاقة بين الرأس والجسد. ونصل إلى أف، كو. إن أهم الاعتبارات عن الكنيسة، عن الكنيسة كجسد، عن المسيح كرأس هذا الجسد، تجد ملء توسّعها في كو 1 :15، 20، 24؛ 3 :15 وفي أف 1 :10، 22-23؛ 2 :16؛ 4 :4-16؛ 5 :22-23. إن تطوّر فكر بولس انطلاقًا من الرسائل الكبرى، يجد تعبيره في الألفاظ التي استعملها الرسول هنا. فالمسيح لا يُعترف به اعترافًا واضحًا كرأس الجسد أو رأس الكنيسة إلاّ في كو وأف. فلا تُسمَّى الكنيسة "جسد المسيح" في أي مكان آخر. ولا تُسمّى "الملء" (بليروما)، ملء المسيح، إلاّ في أف. غير أن الرسول يحتفظ بالمعنى الاصيل للصورة : الوحدة الضروريّة في تنوّع المواهب مع أولويّة المحبّة (أف 2 :14-18؛ 3 :6؛ 4 :1-16؛ كو 3 :15). ثم إن هاتين الرسالتين تُقدّمان تعليمًا غنيًا في جوهره حول علاقة المسيح بجسده. فيسوع المسيح قد خلق الكنيسة حين ألغى على الصليب العداوة الدينية بين اليهود والوثنيين، فجعل المصالحة بين الفئتين، ودمّر حاجز الشريعة الذي كان يفصل بينهما (أف 2 :13-16). إذن، خلّص يسوع الكنيسة باذلاً نفسه حبًا لها. فاقتنى هكذا عروسًا لا عيب فيها (أف 5 :23-27). بما أنه رأس الكنيسة فهو يملك الاولويّة المطلقة (كو 1 :18؛ أف 1 :22-23). إن المسيح السماويّ هو في الوقت عينه مبدأ نموّ الكنيسة وحياتها (كو 2 :19؛ أف 4 :15-16)، ذاك الذي "منه" (أف 4 : 16؛ كو 2 : 19) و"إليه" (أف 4 :5) يتمّ نموّ الجسد وبناؤه في الروح (أف 2 :22؛ 4 :4) والمحبّة (أف 4 :16) بمشاركة وثيقة بين الذين نالوا موهبة في الكنيسة لخير الكنيسة (أف 4 :11-13). أراد بولس الرسول بهذه الصور أن يعبّر عن أكثر من فكرة بسيطة تدلّ على سيادة (هو السيّد و"الربّ") المسيح على الكنيسة : فالكنيسة هي جسد المسيح أي هي متّحدة بالرأس في شراكة حياة وثيقة. والكنيسة بما أنها جسد المسيح، هي "ملء" (بليروما) المسيح. تتضمّن هذه اللفظة في كو مرمى هجوميًا ضدّ المعلّمين الكذبة، وتنطبق على المسيح "الذي فيه يحلّ ملء اللاهوت" (كو 2 :9) أي ملء اللاهوت الذي وهبه الله (في القيامة) للمسيح الذي هو ملء الكلمة والحياة (رج يو 1 :14). في أف 1 :23 (رج 4 :13). الكنيسة هي ملء المسيح، "ملء ذاك الذي يملأ الكل"، يملأ كل شيء. امتلأتْ من غنى الحياة الالهيّة بالمسيح الذي هو بدوره مملوء بالله (كو 2 :9-10). واعتبرت أف 1 :10؛ كو 1 :20 المسيح، المركزَ الذي فيه تلتقي الكنيسة ("ما هو السماء وما هو على الأرض" أي البشر والملائكة) والكون. المسيح هو الرأس والجامع. هو الوحدة وينبوع كل القوى الروحيّة والكونيّة. وكما أن المسيح مملوء كله من الله، كذلك الكنيسة مملوءة بالمسيح من القوى الروحيّة والحياة السماويّة. الكنيسة هي حقل قوى حملت قدرة المسيح، مثل جسده المتّحد به، مثل ملئه. والسيادة المطلقة على الكنيسة تعود إلى المسيح، ولكن المسيح هو في الوقت عينه ذاك الذي يحرّك الحياة بقوّة وعذوبة. وهذا التأثير المحيي ليس في شكل واحد، بل هو ينوّع غناه بمواهب الروح التي تعمل جوهريًا في بنيان جسد المسيح. وننتهي في أصل تعليم الكنيسة جسد المسيح. نفهم تعليم الرسائل البولسيّة الكبرى حين نقرّب أفكار الرسول حول المسيح والكنيسة من صورة الجسد البشري المعروفة. ولكن في ما يتعلّق بـ كو وأف، تتوزّع الآراء حول المراجع التي عاد إليها بولس. بعضهم فكّر بالسطرة الغنوصيّة، سطرة الانسان (انتروبوس) السماويّ. ورأى آخرون أن بولس ارتبط بالعالم الغنوصيّ، هذا إذا كان هناك من ارتباط. ولكن هذه النصوص الغنوصيّة جاءت متأخّرة وهي التي أخذت من الرسائل البولسيّة. وفئة ثالثة تحدّثت عن نظريات يهوديّة حول آدم رئيس الجنس البشري الذي يحتوي نسلَه كأعضاء جسده، والذي سيظهر أيضًا في نهاية الأزمنة بشكل شخص اسكاتولوجيّ ليعيد بناء البشريّة. غير أن هذا الموضوع يأخذ بعين الاعتبار الوجهة الاساسيّة في تضامن الجنس البشري، وهو موضوع "الشخصيّة المتضمّنة" المهمّ عند بولس، ولكنه لا يكفي لكي يفسّر صورة الجسد وأعضائه. إذن، نبحث في داخل الفكر البولسيّ عن تفسير أبسط ومباشر. فمن الضروريّ أن نجعل عبارة "جسد المسيح" في سياق اللاهوت البولسي ونعطيه كل قوّته الواقعيّة. فالمسيحي متّحد بالمسيح حتى في جسده أي جسد المسيح الشخصيّ الذي صُلب وقام. ولكن من أجل ذلك، يجب أن نتذكّر أن "الجسد" (سوما) عند بولس ليس جزءًا من الانسان، بل هو الانسان كله، شأنه شأن النفس. الجسد في العالم الساميّ هو الانسان في تجلّيه المنظور. والاتحاد بجسد المسيح اتحاد تامّ، اتحاد روحيّ واتحاد يُلزم الجسد أيضًا. فالمسيح ما كان خلّص الانسان حقًا لو لم يلد له من جديد جسده معيدًا إليه حياة الروح القدس. إذن، نرى هنا كل سرّ الفداء في مدلول جسد المسيح الذي هيّأته الرسائل الكبرى وتوسّعت فيه كو وأف. (ج) الكنيسة عروس المسيح. ترتبط هذه الصورة بالصورة السابقة. صورة الجسد (أف 5 :23-32). فالمسيح هو رأس جسده، الكنيسة، والمرأة هي جسد الانسان (آ28). فبين المسيح والكنيسة علاقة تشبه علاقة الرجل بالمرأة، علاقة هي المثال الكامل للعلاقات الذي يجب أن تقوم بين الزوجين المسيحيّين (آ23-32). وإذا كان هذا السرّ عظيمًا، فلأنه يعني المسيح والكنيسة في علاقاتهما المتبادلة (آ32). هذا الموضوع الذي اندرج في وسط التوصيات الخلقيّة، قد تشرَّب من أفكار الكنيسة الأولى حول يسوع الذي هو العريس (مت 9 :15 وز؛ 25 :1-13؛ يو 3 :29؛ رؤ 21 :2؛ 22 :17). وصورة غيرة الله في 2كور 11 :2 تذكّرنا بشكل مباشر بالعلاقات بين الربّ وشعبه كما في هو وفي إر. (د) الكنيسة بناء. وتُصوَّر الكنيسةُ أيضًا كبناء، كهيكل (أف 2 :20-22؛ 1تم 3 :15؛ رج 1بط 2 :1-10). فالبناء "ينمو" بقوّة الروح إلى أن يصبح هيكلاً مقدّسًا في الربّ، أساسه الرسل والأنبياء والمسيح السماويّ هو حجر الزاوية أو حجر الغلقة الذي يكمّل مجمل البناء. وهناك صورة تختلف بعض الشيء عن هذه الصورة وهي تنطبق على الكنائس المحليّة. نقرأها في 1كور 3 :9-17؛ 2كور 6 :16. (هـ) الكنيسة عائلة. الكنيسة هي عائلة الله (أف 2 :19). فيها يقتني الأعضاء حقّ المواطنيّة (2 :12) لكي يصيروا مواطنين مع القديسين (2 :19). (و) خاتمة. نرى أن كل هذه الصور تلتقي لتعبّر عن فكرة أساسيّة هي وحدة الكنيسة في المسيح. فبالايمان بالمسيح يكوّن المسيحيّون جسدًا واحدًا في روح واحد (1كور 12 :13). مهما كان وضعهم هم واحد في يسوع المسيح. هم ينتمون إلى المسيح. هم نسل ابراهيم (غل 3 :27-29).