والكتاب المقدس نعني بالارثوذكسيّة الكنائس الشرقية الخلقيدونيّة. اجتمعت حول أوليّة بطريركية القسطنطينية الشرقية، وامتدت اليوم في العالم كله، فحافظت على علاقات تواصل مع حقبة الآباء والحضارة البيزنطيّة. أما على مستوى استعمالها للبيبليا، فهي تعود دومًا إلى نصّ السبعينيّة، وتحذر نقدًا بيبليًا مستقلاً في ذاته، ولا تفصل الكتاب المقدّس عن مجمل حياة الكنيسة. وهكذا نجد نفوسنا أمام قرابة عميقة إلى النصوص الكتابيّة رغم ما أخذ عن الغرب، ورغم العدد المحدود من النصوص البيبليّة المستعملة في الليتورجيا. كما نجد قراءة كنسيّة للكتاب المقدس تجعلنا بعيدين عن البحث الشخصيّ الذي يترك تقليد الآباء وصلاة الكنيسة. 1) أعمال حول الكتاب المقدس (أ) بيزنطية. في تعليم اللاهوت العالي الذي يُعطى في المدرسة البطريركيّة، لقب الاساتذة هو : مفسّرو الكتاب المقدس. فالاستاذ الأول هو استاذ الانجيل. والآخرون : اساتذة الرسول، المزامير، الكتب المقدسة (أي العهد القديم). وُجدت هذه المدرسة منذ القرن السابع. ونعرف لقب الاساتذة في "بشرى" (امبراطوريّة) تعود إلى سنة 1107 وتتجدّد في القرن الخامس عشر. إن هذا الشعور بأن التفسير هو الأول، يجب أن لا يغشّنا : من جهة، إن منهج ذلك الزمن يركّز كل تعليم على تفسير نصّ من النصوص. ومن جهة ثانية، يتضمّن التعليم اللاهوتي أيضًا تعليمًا عامًا في القرن الحادي عشر، مع هجوم على العالم اللاتيني منذ القرن الثالث عشر. وبجانب هذا التعليم العالي، الذي يدقّق فيه البطريرك والذي اساتذته شمامسة اغيا صوفيا، هناك مدارس رهبانيّة حيث يتعلّم المبتدئون سفر المزامير غيبًا. في الواقع، تتضمّن المكتبات العديدَ من الكتب الليتورجيّة ومؤلّفات الآباء، والقليل من النصوص البيبلية بالمعنى الحصري للكلمة. فبعد القرن السادس، نعتبر أن زمن التفاسير البيبلية قد ولّى، وتحدّث الباحثون عن "زوال البحث الأصيل". فالجدالات العقائديّة في القرون السابقة، قادت "المعلمين" إلى الحذر من التفسير الكتابي أو أقله إلى موقف متحفّظ وفطن وتقليديّ، نقرأ عنه في القانون 19 من مجمع ترولو (تشرين الاول 691) : لا يفسّر الكتاب إلا بحسب التعليم الذي سلّمه الآباء وملافنة الكنيسة في كتاباتهم. هذا يعني التخلّي عن دراسة اللغة العبرية، عن نقد النصوص، عن البحث حول تأليف النصوص، وحول ينابيع الأسفار البيبليّة، بل حول الجغرافيا والاركيولوجيا (علم الآثار) المحفوظتين للمؤرّخين. وكل هذا على حساب عمل تفسير يقوم على تجميع النصوص السابقة. كان اوريجانس قد وضع أسس هذه الأبحاث، وتبعه تيودوريتس وغيره. أما التأويل البيزنطي فينحصر في تفسير النصّ في ثلاثة أشكال : السلسلات التفسيريّة، المذكّرات، مجموعة الأسئلة والأجوبة. أما نهج السلسلات فيعود إلى بروكوبيوس الغزّي (475-538) : يُقرأ المقطع تلو الآخر، ويقدَّم تفسيرُ الآباء. وقد يعطي الكتّاب رأيهم، ولكن نادرًا. قد يرد الكتّاب الاقدمون الواحد بعد الآخر مع اسمائهم. وقد يرد ملخّص لآراء موافقة مع الإشارة إلى التفاسير المغايرة. وهكذا نكتشف وهج آباء القرون الخمسة الأولى، كما نكتشف فضل أصحاب السلسلات الذين نقلوا إلينا مقتطفات من مؤلّفات ضاعت. كما نشاهد الطابع الاصطناعي والآلي لهذا النهج. هنا نذكر انستاسيوس النيقاوي (القرن السابع)، اندراوس (القرن الثامن)، باسيليوس (من نيوبتراس، القرن العاشر)، نيكيتاس التراقي (القرن الثاني عشر). وبجانب نقل آراء الآباء، سعى التفسير البيزنطي إلى التوفيق بين المدارس القديمة : كان للتفسير الانطاكي المقام الأول. ولكن استعمل المعلّمون تمييز المعاني (الحرفي، الادبي، الاستعاري) كما في مدرسة الاسكندريّة. أما أكثر الكتب المدروسة فهي المزامير في العهد القديم والاناجيل ورسائل بولس في العهد الجديد. ومع ذلك نجد بعض التفاسير : أندراوس القيصري قد فسّر سفر الرؤيا سنة 637، واهتمّ اهتمامًا جديًا بأقدم الكتّاب المسيحيين. واستعاد تفسيرَه الحارثُ القيصري (القرن العاشر). استعاد يوحنا الدمشقي (القرن الثامن) يوحنا الذهبيّ الفم حين شرح رسائل القديس بولس. وفعل مثله تيوفيلكت البلغاري (القرن الحادي عشر) وافتيميوس زيغابين في القرن الثاني عشر. ونُشير بشكل عابر إلى تيوفيلك اسقف اخريدا (اهريد في يوغوسلافيا) (1088-1126) الذي ترك تفاسير عدد من اسفار العهد القديم وكل العهد الجديد، ولا سيما تفسير الاناجيل ورسائل بولس مع التوفيق بين الاثنين. ارتبط الكاتب بيوحنا الذهبيّ الفم وغريغوريوس النازيانزي، فاشتهرت تفاسيره في القرن التاسع عشر، وهي تقرأ في الفرض الالهي في بعض الاديرة. وكانت مرحلة هامّة حوالى القرن الحادي عشر : تثبتّت القراءات الليتورجيّة في ذلك الوقت، كما تثبّت قسمٌ كبير من المدائح الليتورجيّة. فالتفسير الذي تقدّمه الليتورجيا أو المدائح لبعض النصوص، بدأ يفرض نفسه. مثلاً، كل شعائر العبادة في العهد القديم قد انطبقت على والدة الاله التي هي الهيكل الحق والمعبد الحقيقيّ والمنارة ومسكن الله... أما أم 9 :1 فيعني الكلمة المتجسّد. والحكمة في حك قد تماهت مع الكلمة في يو 1. وظهرت أيضًا تفاسير بيبلية استعملتها الليتورجيا. مثلا تفاسير افتيميوس زيغابين الذي ذكرناه ونيقافوروس بلاميديس (القرن 13) حول الاوذيات التسع أو الاناشيد البيبليّة في ساعات الصباح، وكانت تفاسير للنصوص الليتورجية فتوسّع تيودورس برودرومس بما تركه كوسمس الاورشليمي ويوحنا الدمشقي. ويُطرح سؤال خاص حول الحقبة البيزنطيّة : قانون (أو لائحة) الاسفار المقدسة. لم يحدّد عدد الاسفار القانونيّة، ولم تحدّد قيمة هذه الاسفار. أما مجمع ترولو، فقد ثبّت في البند الثاني اللوائح القانونيّة السابقة مع أنها متضاربة (85 للرسل، 24 لقرطاجة، 60 للاذقية). في الحقيقة، يعودون إلى التمييز الذي تركه أتناسيوس اسقف الاسكندرية (رسالة العيد، 39 :367) بين الأسفار القانونيّة والأسفار التي تُقرأ في الكنيسة. الفئة الأولى هي التي وصلت في اللغة العبرية (22 كتابًا بحسب العدّ العبري، 39 بحسب العدّ الحديث). والفئة الثانية تتضمّن سي، حك، أس، يه، طو، نح، دا اليوناني (3 :24-90؛ 13-14)، 1و2و3مك. وهكذا تصبح اللائحة الطويلة : 49 كتابًا. فتزيد كتابين على قانون المجمع التريدنتيني، هما : عز؛ 3مك. في العهد الجديد، دخل سفر الرؤيا في القرن 12. وبما أن القراءات الليتورجيّة حدّدت في القرن الحادي عشر، استُبعد سفر الرؤيا. (ب) روسيا. إن تبشير الشعوب السلافيّة على يد مرسلين بيزنطيّين، تضمّن منذ البداية ترجمة النصوص البيبليّة. بالنسبة إلى العهد الجديد، تمت الترجمة إلى السلافية القديمة في بلغاريا حوالي سنة 900، ودلّ على أعمال الرسل والرسائل مخطوطاتٌ تعود إلى القرن 12. هذا يعني أن الترجمة سبقت ذلك الوقت. أما سفر الرؤيا فقد تُرجم في القرن 12. شكلّت البيبليا لدى الشعب الروسي ولمدة طويلة، الأدب الوحيد مع الليتورجيا وبعض النصوص النسكيّة. فاجتياحات الترتر (القرن 13) أخّرت ظهور لاهوت روسيّ. وشكّل القرن 15-16 حركة نقل ونسخ عدد من الكتّاب كالسلسلات وغيرها. قرأوا الكتب المقدسة و"هضموها" وأوردوها في النصوص النسكيّة، دون أن يكون هناك دراسات بيبلية في المعنى الحصري للكلمة. ولم يظهر تعليم لاهوتي إلا في القرن 17، وذلك في مملكة ليتوانيا البولونيّة مع معهد فتحه متروبوليت كياف، بطرس موغيلا، في دير التيوفانيا (1633). أما هدف هذه المؤسّسة فتثقيف الكهنة ورفع مستواهم ليصيروا على مستوى الكهنة اللاتين. والحذر من السلطة المدنيّة دفعهم إلى أن يعلّموا اللاهوت بتفسير النصوص البيبلية وكتابات الآباء. أما التنظيم المدرسي فقد أخذ عن الآباء اليسوعيّين. مع هذه المدرسة التي هي أولى الاكاديميات الروسيّة، نستخلص سمتين خاصتين بالتعليم اللاهوتي الروسي : تأثير النموذج الغربي، تكوين كهنة مثقّفين. في إطار الدولة الروسيّة، بدأ بطرس الأكبر (1682-1725) فمنح مدرسة كياف مداخيل جديدة، بعد أن رأى انفتاحها على الغرب، ثم اعطاها لقب اكاديمية سنة 1701. بعد ذلك، أعاد تنظيم اكاديمية موسكو في خط كياف بواسطة اسطفان جاورسكي. واخيرًا، جاء "النظام الكنسي" (تيوفان بروكوبوفتش) سنة 1721، فأعدّ العدّة لفتح مدارس كنسيّة في كل أبرشيّة. وقد مثّل هذا الاصلاح الأخير تبدّلاً في روح التعليم : حلّ محلَّ الاتجاه الذي استلهم الكثلكة، تأثير الاصلاح البروتستانتي. وانفتح العلم على الفلسفة المعاصرة، وصار يُعطى في الروسيّة مع تأليف كتب في الروسية بيد افلاطون لوشين (1737-1812) متروبوليت موسكو، وفي أيام كاترين الثانية (1763-1796). وفي بداية القرن 19، أعيد تنظيم الاكاديميات، وبدأت ترجمة الكتاب المقدس إلى الروسيّة. من جهة سُلّمت إلى الاكاديميات الاربع (رُفعت اكليريكية سان بترسبورغ وكازان إلى مستوى اكاديمية، بعد أن أضيفتا إلى كياف وموسكو) مهمّة تنسيق التعليم الدينيّ في كل منطقة، فصارت مدارس من أجل الاكليروس، ومراكز بحث ومراكز اداريّة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ضُمّت الاكاديميات من أجل عمل الترجمة للكتاب المقدس (الترجمة الانكليزية). وكان المسؤولان الرئسيان استاذين من سان بترسبورغ : الارشمندريت فيلاريت دروزدوف والكاهن الأول جيراسيم بفسكي. توقّف العمل بشكل مفاجئ بعد نشر العهد الجديد (1821) والمزامير (1822). لم يكن السبب فقط الامبراطور نقولا الاول (1825-1855) الذي أوقف العمل، بل النقص في الاستعداد لقراءة البيبليا قراءة مباشرة في لغة شعبيّة. وهكذا كان صراع بين متشيّعين للاهوت آبائي والطبقات الحاكمة وما فيها من أصوليّة. مثلاً، وكيل السينودس المقدس، الكونت بروتاسوف الذي عيّن سنة 1836، كان معارضًا كل المعارضة للبيبليا في اللغة الروسيّة : ليكتف المؤمنون بسماعها في اللغة السلافونية في الليتورجيا. فقد كان يحذر النقد الأدبي كما يحذر كل بحث في هذا المجال. وعادت الكنيسة إلى المشروع سنة 1860، بدفع من فيلاريت دروزدوف الذي صار متروبوليت موسكو (1825-1867) وظلّ يعمل عمل المفسّر الكتابي والواعظ. هذه المرة، أخذ السينودس المقدّس الأمر على عاتقه. تمّت الترجمة في الاكاديميّة وكانت النتيجة البيبليا السنودوسيّة. ظهرت الاناجيل سنة 1860. والعهد الجديد سنة 1862. والكتاب المقدس كله سنة 1875. لم يكن العمل مراجعة النسخة السلافية القديمة، بل ترجمة جديدة عن اليونانيّة فيما يخصّ العهد الجديد، وعن العبرانية فيما يخصّ العهد القديم (رغم موقف معارض لدى تيوفان غوفوروف أو تيوفان المتوحّد). في ذلك الوقت بدأ إصلاح جديد حول المهمة التربويّة والطابع العلمي للأكاديميات على ما في الجامعات الألمانيّة (1869) : فتوسّعت الدراسات التاريخيّة. وكان للكتاب المقدس المركز الأول في الاكليريكيات والاكاديميات. غير أنه لم تكن دراسات معمّقة. والسبب هو الرقابة التي منعت كلَّ مناقشة حول أسئلة تتعلّق بالنقد الكتابي، كما منعت تطبيق الاساليب التاريخيّة على الكتاب المقدّس. ونُشرت أيضًا نسخات سلافونية (أو : سلافية قديمة) جديدة للبيبليا (1751). وتألّفت لجنة علميّة لدراسة النص السلافوني (1915)، وكان أمامها 4000 مخطوط للعهد القديم. نُشرت ستة كتب من العهد القديم وثلاثة من العهد الجديد قبل أن يتوقّف عملها بسبب الحرب الاهليّة. ونذكر في هذا المجال، انطلاقة دائرة معارف دينيّة سنة 1900. ظهر منها ثلاثة عشر مجلدًا وأوقفتها الحرب الأهليّة. كان في هذه الانسيكلوبيديا مقالات حول تفسير الكتاب المقدس والتاريخ والآباء والحق القانوني... 2) سائر البلدان الارثوذكسيّة إن التجديد اللاهوتي تضمّن في البلاد البلقانية خلْق مؤسّسات تعليميّة وترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الوطنيّة (أ) رومانيا. بدأ هذا التجديد في رومانيا بفضل وضع سياسيّ خاص واستقلال مولدافيا وفلاشيا : في نهاية القرن السابع عشر، ظهرت المدرسة الاميريّة في جاسي، والاكاديميّة الاميريّة في بوخارست (1694) اللتين تأسّستا على غرار جامعة بادوا في ايطاليا (كان يؤمّها عدد من طلاّب اليونان والبلقان). ونشير أيضًا إلى مطابع جاسي وبوخارست وبلاج التي عملت من أجل الارثوذكسيّة كلّها (اليونانيّة والرومانية والسلافونيّة والعربية والجيورجيّة). ظهر العهد الجديد الروماني منذ سنة 1648 مع مقدمة من متروبوليت ترسيلفانيا، سمعان اسطفان، الذي نشر أيضًا سفر المزامير (1631). وفي النهاية طُبع الكتاب المقدس كله في بوخارست (1688) في لغة مفهومة أيقظت الوعي الوطني وكوّنت اللغة الأدبيّة الحديثة. وظهرت ترجمات أخرى، وفي النهاية، نسخة السينودوس المقدس أو بيبليا بوخارست (1914). أما فيما يتعلّق بالتفاسير الكتابيّة، فالترجمات عن الكتّاب القدماء هي التي سيطرت. أما ما كُتب فمقدّمات للأسفار القديمة. (ب) اليونان. بين القرن 15 والقرن 17، وُجدت في اليونان "المدرسة الخفيّة" (بسبب السيطرة العثمانيّة) : يعلّم الكاهن في الكنيسة الاولاد في سفر المزامير والأسفار المقدّسة والكتب اللاهوتيّة. أما الدروس اللاهوتيّة فكانت تتمّ في معهد القسطنطينية أو المدرسة البطريركيّة التي يديرها مدرِّس البيان في الكنيسة الكبرى : وقد فرضت الظروفُ على هذا التعليم بأن ينقل الإرث الارثوذكسي. أما اللاهوت في اللغة اليونانيّة فكان يدرَّس بالحريّ في أورشليم وجبل اتوس. بعد القرن السابع عشر، كان جدال طويل بين دعاة وخصوم ترجمة الكتاب المقدس في اللغة المحكيّة : نلاحظ هنا أننا لسنا أمام ترجمة من لغة إلى أخرى، بل من حالة إلى أخرى في اللغة عينها، لأن سواد الشعب لم يعد يفهم اللغة اليونانيّة القديمة. ولما اقتنع البطرك كيرلس لوكارين (1620-1638) بأفكار الاصلاح البروتستانتي، شجّع الترجمات في اللغات المحكيّة. ولكن اصطدمت هذه الأعمال بنصّ من قبل السلطة الكنسيّة : فالعهد الجديد الذي قدّمه الراهب مكسيم من غاليبولي (1638)، اعتبر "غير ضروريّ" في سينودوس اورشليم. وذاك الذي قام به سيرافيم الميتيلاني (1703)، اعتبر نافلاً وبدون فائدة في نظر البطريرك جبرائيل الثالث (1704). أخيرًا حرّكت الطبعة التي تمت في هلّي (المانيا) ردّة فعل دفاعيّة من قبل البطريرك إرميا الثالث ضد الأفكار البروتستانية. فاستعمال الكتب المقدسة محفوظ فقط للمؤمنين الذين يستطيعون أن يلجأوا إلى تفاسير الآباء. وفي الوقت عينه ظهر عدد من التفاسير لسفر الرؤيا : فهذا الكتاب الذي لم يدخل في الاستعمال الليتورجيّ، ألهم سلسلة تأمّلات حول وضع المسيحيين اليونان وما فيه من صعوبات. رأى الكتّاب في هذا السفر وحيًا ذا طابع سياسيّ، فماهوا بين الوحشين (ف 12-13) من جهة وبين الكنيسة اللاتينيّة والاسلام من جهة ثانية. وانتشرت هذه الرسمة انتشارًا واسعًا. وإذ لم يستعملها انتيموس، بطريرك أورشليم (في تفسير نشر سنة 1794)، عُدّ محبًا للاتراك. أما هدفه فكان تهدئة الارثوذكس اليائسين، مقدّمًا لهم مثال الطمأنينة الروحيّة. وهذا الفن الذي أسّسه مكسيموس البيلوبونيزي (في اليونان) ( 1630) سيستمرّ حتى بداية القرن التاسع عشر. في القرن الثامن عشر أسّس البطريرك كيرلس الخامس أكاديمية لاهوتيّة في جبل اتوس (1753). غير أن الأوساط الرهبانيّة قاومت هذا الروح الجديد المطبوع بالفلسفة الغربيّة، وطردت الرئيس (سنة 1757)، اوجان بولفاريس (1716-1806) الذي تعلّم في بادوا (ايطاليا). حينئذ لجأ إلى روسيا، وتبعه إلى هناك تلميذ آخر تعلّم في بادوا هو ناسيغور تيوتوكيس (1731-1805) الذي صار مدير جاسي ثم رئيس أساقفة خرسون قبل أن يعتزل نهائيًا في دير دنانيلوفر في موسكو. ترك شروح الأناجيل التي تقرأ في الآحاد، وهي تستعمل حتى اليوم في أمكنة لا وعّاظ فيها. مع بولغاريس وتيوتوكيس، ظهر اتجاه تجديديّ وغربيّ : لقد أرادا أن يرفعا المستوى الثقافي لدى الكهنة، والمساعدة على نشر الايمان. ولكنهما في الواقع انقطعا عن لاهوت الآباء وأخذا بالتيّار العقلانيّ. فوقف تجاههما المحافظون ومنهم أصحاب المدرسة التأمّلية : فرغم مشاكلهم مع أوساط جبل أتوس أو القسطنطينيّة، فقد اعتبروا أن تجديد الكنيسة لن يأتي إلاّ من أمانة تامّة لتقليد الآباء. أما الشخص المعروف جدًا بينهم فهو نيقوديمس الهجيوري (1731-1805) : جمع "فيلوكاليا" أو الأشياء المحبوبة. وشروح المزامير التي أخذها من كتّاب عديدين (القسطنطينية 1799) وتفسير الرسائل الكاثوليكية (البندقيّة 1806). وترجم تفسير تيوفيلاكت البلغاري حول رسائل القديس بولس (البندقية 1919) وتفسير افتيموس زيغابين حول المزامير (القسطنطينية، 1819-1821) في القرن التاسع عشر طُرحت من جديد مسألة ترجمات الكتاب المقدس في اللغة المحكيّة مع إعادة نشر نسخة هلّي الالمانيّة مع نصّ قديم (لندن 1810؛ ست طبعات حتى سنة 1830). هذه الطبعة الجديدة حرّكت مقاومة الاستاذ مرتيلاوس. أراد البطريرك غريغوريوس الخامس أن يقوم بعمل التهدئة فأعلن أن هذه الترجمات هي مفيدة (1820). وسمح بها كيرلس السادس. ولكن المجمع المقدّس ومنذ سنة 1824 أعلن أن هذه القراءة غير مفيدة بدون شروح الآباء. بعد سنة 1830، وفي يونان مستقّل، تعارض المحافظون والغربيّون حول مسألة الترجمات البيبليّة كما حول النظرة إلى المدرسة اللاهوتيّة. أما رائد الغربيين فكان تيوكليتوس فرماكيديس (1785-1860) الذي أسّس تعليمه في جامعة أثينة (تأسّست سنة 1897) على تيوفان بروكوبوفتش. ومعلّم المحافظين قسطنطين إيكونوموس الذي توفّي سنة 1857، عارض ترجمة البيبليا التي قام بها زميله نيوفيتوس فمفا. فهذا نشر سنة 1834 الجزء الأول لترجمة العهد القديم عن العبريّة، فاتّهِم باسم أولويّة الترجمة السبعينيّة، وشُجب في سينودوس اثينة. ونال إيكونوموس والحزب المحافظ من البطريرك غريغوريوس السادس رسالة يمنع فيها قراءة الكتاب المقدس في النسخات البروتستانتية. ومع ذلك، تابع فمفا عمله ونشر ترجمة كاملة للكتاب المقدس (1845). وظلّت المشكلة على حالها حتى بداية القرن العشرين : ففي سنة 1901 ظهرت في لندن ترجمة للاناجيل الأربعة بيد بلِّيس (3 تشرين الأول). وتألف حزبان، وكانت مجابهة بين الطلاب والجيش. واعتبرت الملكة اولغا التي دافعت عن بلِّيس، أنها نحرت اللغة اليونانيّة. وتوجّه حرم في سينودوس اثينة المقدس ضدّ كل من يترجم الكتب المقدسة أو ينشرها أو يستعملها في اللغة المحكيّة. أسباب عديدة على المستوى السيكولوجي، واسباب خاصة باليونان تكاتفت في هذا الجدال مع تصلّب السلطات، فوصلنا إلى "تقديس" النص اليوناني القديم وكأنه منزل. هي : الخوف من الرسالة البروتستانتيّة وسط الاورثوذكس، الخصائص اللغويّة لليونانيّة (وجود مستويين من اللغة، ومحاولات اعادة اللغة العتيقة). تأكيد على قيمة نصّ السبعينيّة في حدّ ذاته. ففي جامعة اثينة، هناك تعليمان متوازيان للعهد القديم : واحد للنصّ العبري وآخر لنصّ السبعينيّة. وفي مجال الدراسات البيبليّة نذكر اسم ابوستولوس مكراكيس (1831-1905) الذي شرح العهد الجديد آية آية، كما شرح المزامير والأناشيد البيبليّة التسعة. شخصيّة كلها حماس، وواعظ شعبي. ولكنه كان في جدال دائم مع كليّة اللاهوت، وقد حكم عليه المجمع المقدس بسبب تجديداته الليتورجيّة (1878). وهو أيضًا بمدرسته الكرازية (مدرسة اللوغوس، الكلمة) في أصل جماعة "زوئي" (الحياة) وبالتالي التجديد البيبلي والروحي في عصرنا. (ج) بلغاريا. السمة الخاصة بالتجديد في بلغاريا، هي ارتباط بالنموذج الروسي. أما ما تبقّى فنجده في اهتمامات وجدناها في رومانيا وفي اليونان : انشاء مدارس كنسيّة، ترجمة البيبليا في اللغة الوطنية، مجموعة عظات من أجل الكرازة. والمدارس الوحيدة التي فيها يتعلّمون اللغة البلغاريّة كانت "مدارس القلايات"، وهي مدارس ابتدائية قرب الكنيسة يقرأون فيها المزامير والكتاب المقدس والكتب الليتورجيّة. وأحد العاملين في هذه اليقظة الوطنيّة البلغارية، والرائد في الدراسة البلغارية، هو سوفرونيي فراشنسكي (1739-1814). كان اسقف فرارسا. خلال منفاه في بوخارست ألّف تفاسير لانجيل الأحد وعظات للاعياد الكبرى، منطلقًا من كتب يونانيّة وسلافيّة، فاشتهرت كتبه بسبب لغتها البسيطة. أما أول ترجمة بلغارية للعهد الجديد فعملُ الراهب نيوفيت رلسكيي (ازمير 1840). أما مدارس اللاهوت البلغاريّة فقد وُلدت بعد اعتراف الدولة بالسلطة الاسقفيّة البلغاريّة (870). وأهم هذه المدارس هي المدرسة اللاهوتية في سوفيا التي هي جزء من الجامعة. يتم التعليم في اللغة الروسيّة. أما ترجمة البيبليا (1901) فقد تأسّست على النص الروسي (1875) لتحارب انتشار الجماعات البروتستانتيّة. (د) صربيا. وكان التأثير الروسي أيضًا واضحًا في صربيا. فالاكليريكيّة الأولى التي فتحها في سرامسكي - كرلوفتسي (1794) عالم كبير بالكتب المقدسة هو المتروبوليت اسطفان ستراتيميروفيك (1757-1836)، استعملت أول ما استعملت الكتب الروسيّة. ونقول الشيء عينه عن مطبعة كرلوفتسي. فقد نشرت البيبليا السلافيّة التي كانت قد ظهرت في موسكو وكياف. ولما صارت كنيسة صربيا مستقلة (1832)، فتحت اكليريكية أخرى في بلغراد سنة 1836. غير أن مستوى الدروس دفع الطلاب للذهاب إلى كياف. وسيقوم أحد طلاّب كياف القدامى، المتروبوليت ميخايلو يوفانوفيك (1859-1898) فيطلق حركة فكريّة واسعة في مجال الكتاب المقدس، وترجمة جديدة ليواجه ترجمة الجمعيّة الكتابيّة البريطانيّة. 3( في النصف الأول من القرن العشرين في روسيا، أغلقت الثورة الروسية سنة 1917 الاكليريكيات والاكاديميات، فهرب المثقَّفون إلى الغرب حيث قاموا بنهضة كبيرة. وهاجر أيضًا كثيرون من بلدان البلقان، بسبب الظروف الاقتصاديّة، إلى أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة، فكان اتصال بين معاهد اللاهوت الارثوذكسي والعالم الغربيّ. كانت باريس مركز الحركة الروسيّة، وفيها تأسّس معهد القديس سركيس سنة 1926. سمّي "معهد اللاهوت الارثوذكسي" ليكون استمرارًا لمعهد بترسبورغ (أو : بتروغراد) الذي أسّس بعد مجمع 1917. أما هدف تأسيس معهد القديس سركيس فحوار مع الغرب باسم الارثوذكسيّة. نذكر بعض الاسماء اللاهوتية سرج بولغاكوف (1871-1944)، وكاسيان بزوبرازوف (1892-1965)، وانطوان كرتاشوف (1875-1960). في اليونان، وُلدت كلية لاهوت في جامعة سالونيك (1942) مع معلّمين شبّان ولكن محافظين وأكثر عددًا ممّا في أثينة. وهذا ما ساعد على انفتاح الكنيسة اليونانيّة بعض الشيء. أما الهدف فتكوين لاهوتيين من العوام ليدرّسوا التعليم الديني في المدارس الثانويّة، ليلقوا المواعظ في الابرشيّات، ليقوموا بأعمال الادارة في الاسقفيّات. أما في ما يخصّ الكتاب المقدس، فهناك قراءة النصّ، دراسة المواقف التقليديّة، شروح الآباء، وهكذا ظل الدارسون منقطعين عن الأبحاث التي تتمّ في الخارج. 4) النصف الثاني من القرن العشرين بعد الحرب العالميّة الثانية، وُلد التقليد اللاهوتي من جديد في روسيا، وبدأ في الولايات المتحدة. أما الهدف فتكوين كهنة من أجل الرعايا. كان تقارب في روسيا بين الكنيسة والسلطة. فأعيد نشر "جريدة بطريركية موسكو" (1943). ثم فُتحت أكاديمية في موسكو ولنينغراد وثماني اكليريكيات (1945). بعد ذلك، أغلقت اكليريكيات فلم يبق هناك إلاّ اكليريكية اوديسا، واكليركيتان أخريان. وقد تفوّقت أكاديمية لنينغراد على أكاديمية موسكو بسبب نوعيّة أساتذتها وغنى مكتبتها بالنسبة إلى تعليم تقليديّ يُعطى في موسكو. نذكر أستاذ العهد الجديد في لنينغراد (ايفانوف). ولكن أكثر الدراسات تتطرّق إلى التاريخ واللاهوت. يتعلّم التلاميذ بشكل خاص اللغة السلافونيّة. أما العبريّة فتدرَّس في الاكاديميّة. في الولايات المتّحدة تأسّس معهدان لاهوتيان ارثوذكسيان. الأول أسّسه الأسقف اليوناني سنة 1937 واسمه : اكليريكيّة الصليب المقدس اللاهوتية. هو اليوم في جامعة اميركا الهلينيّة. والثاني أسّسه مطران اميركا الشماليّة في نيويورك سنة 1948 واسمه : معهد القديس فلاديمير اللاهوتي الارثوذكسي. هدف هذين المعهدين تأمين كهنة للرعايا الارثوذكسيّة. ومع ذلك فهما يقومان بعمل علمي مع ما ينشران من مجلاّت وكتب : مجلة اليونان الارثوذكس اللاهوتيّة. فصول اكليريكية القديس فلاديمير. من معلمي الكتاب المقدس : تيودور ستيليانوبولوس، بولس طرزي، فاسلان كاسيش. ونذكر بشكل خاص بالنسبة إلى العهد القديم الكسي كنيازيف الذي يبني تعليمًا يأخذ بعين الاعتبار التفسير الحرفي الحديث، والمعنى الروحي لدى الآباء، واستعمال النصوص استعمالا ليتورجيًا وعقائديًا. في رومانيا احتفظت الكنيسة بمعهدين لاهوتيين في سيبيو وبوخارست مع 600 طالب في كل منهما وثلاثين استاذًا. في بلغاريا، ظلّ التعليم مرتبطًا بالكنيسة الروسية، وإن ظهرت بعض المقدمات والشروح مثل غل، أف. وفي يوغوسلافيا فُتحت اكليريكيات. وقدّمت كليّة بلغراد تعليمًا يمتدّ على أربع سنوات. وبدأت الكتب حول المزامير والقديس بولس ونصوص قمران... وفي اليونان ظهرت الترجمة الشعبيّة للعهد الجديد، مع حواشٍ مأخوذة من الآباء. كما ظهرت تفاسير لأسفار العهد القديم. 5) مكانة الكتاب المقدّس في اللاهوت بيّنت هذه الدراسةُ التاريخيّة المشاكلَ التي يطرحها اللاهوتُ الارثوذكسي، والطريقة التي بها حُلَّت أو لم تحلّ : من جهة اقتداء بالغرب، ومن جهة أخرى تواصلٌ حيّ مع آباء الكنيسة (أ) اللائحة القانونيّة والالهام هناك خطان حول الكتب القانونية الثانية. خط أول يميّز بين الثانية والأولى. وخط ثان يجعل القانونية الثانية على مستوى الأولى. هذا على المستوى النظري. أما على المستوى العملي، فالآباء يستشهدون بالأسفار القانونيّة الثانية. لهذا يعود الشارحون إلى هذه الأسفار وإن ميّزوا بين قانونيّة أولى وقانونيّة ثانية. وفي خطّ قانونيّة الأسفار، نصل إلى الالهام الذي هو تدخّل خاص من الله بالنسبة إلى تأليف سفر من الأسفار. فاللاهوتيون يوردون 2تم 3 :16؛ 2بط 1 :19-21. ثم يفسّرون هذه الصفة المرتبطة بالكتب البيبليّة بشكل سلبيّ وإيجابيّ معًا. بشكل سلبيّ : كلّهم يرتضون التفسير الآلي (بشكل أداة)، والتفسير الطبيعي (على مثال الالهام الشعري)، والتفسير الأدبي (أي تأثير خارجي). وبشكل إيجابي : في التفسير المواهبي والديناميكيّ، هناك مشاركة بين الانسان والروح القدس. فالروح القدس قد أعطى عونه للكاتب الملهم بشكل ناشط وفاعل (لا منفعل، بمعنى أن الروح اكتفى بأن يقيه الضلال على مستوى الايمان). وهذا يتضمّن درجات في هذا العون : إن الاختلافات بين الأسفار البيبليّة في موضوعها وأهميتها بالنسبة إلينا، تقود إلى هذه النتيجة، لأن الالهام يُعطى بالنظر إلى الضعف البشريّ، (وهكذا يدافعون عن الالهام في الأسفار القانونيّة الثانية). وتُعطى تشبيهات لتلقي الضوء على موضوع الالهام. كان مكسيموس المعترف قد عرض تشبيهًا أنتروبولوجيًا : الحرف التاريخيّ الذي يحمل الكتب المقدسة هو الجسد. أما معنى ما كُتب، والهدف الذي لأجله كتب، فهو نفس الكتاب المقدس. وكان كرتاشوف قد أبرز بشكل خاص صورة التياندرية (المشاركة بين الله والانسان) : المشاركة بين الكاتب الملهم والروح القدس تشبه وحدة الطبيعتين في المسيح. واعتبر افدوكيموف أننا نستطيع أن نترجم جميع المشاكل اللاهوتيّة في ألفاظ مجمع خلقيدونية. أي اتحاد بدون مزج ولا فصل لواقع بشريّ وواقع إلهيّ. وتحدّث آخرون عن مضمون إلهي وقشرة بشريّة، يتركّز فيه الالهام على الجوهر (يظهر الشعاع في الشكل). وآخرون عن "التلاشي" (كينوسيس) : الحقيقة الالهيّة تلاشت في الشكل البشري، كما تلاشى مجد الله في الانسان يسوع. وأخيرًا هناك تشبيه مع الايقونة على أساس التقابل بين الانجيل والايقونات كما قال المجمع المسكوني السابع (نيقية الثاني، 787) : إن التمثّل لا ينفصل عن الخبر الانجيليّ، والكتاب البيبليّ هو تمثّل لواقع الوحي بواسطة ألفاظ بشريّة، كما الايقونة بواسطة الالوان. أو : الكتاب رمز أي موضع لقاء بين الإلهيّ والانسانيّ. وماذا عن الترجمة السبعينيّة؟ هي قانونيّة، شأنها شأن الاصل العبريّ. وهي تُستعمل كنصّ رسميّ في الليتورجيا وفي الفكر العقائدي لأنها ملهمة أو أقله "مرتّبة ترتيبًا إلهيًا" كما قال أوسابيوس القيصري. فالعهد الجديد فضّل السبعينيّة التي لعبت دورًا كبيرًا في نقل نور العهد القديم إلى العالم. إن السبعينيّة هي بناء شاهق في تاريخ التفسير. هكذا اعتبرها فيلون والتلمود. وحين تكون السبعينيّة مع النص الماسوريّ، نحتاج إلى العبريّ للوصول إلى النص الاصليّ وإلى المعنى حين يكون اليونانيّ غامضًا. ولكن المقام الأول يبقى للسبعينيّة، لأنها وسيلة لا تثمَّن لتصحيح النصّ العبريّ. (ب) الكتاب والتقليد نشير أولاً إلى حذر العالم الارثوذكسي من النقد النصوصي، لئلا يمسّ الطابع الالهيّ والبشريّ للكتاب المقدّس. وإن كانت هناك من حاجة إلى النقد، فالفطنة هي الفضيلة الأولى، لأن العقل البشري لا يستطيع أن يقف أمام كلمة الله، ولأن المفسّر أضعف من أن يفهم كلام الله. ثم إن التأويل لا يتوقّف عند النقد، بل يصل اللاهوت والرمز. وبما أن الآباء اختلفوا في تفاسيرهم، لماذا لا يكون تنوّع في المقاربات من النصّ الكتابي؟ وما هو مركز الكتاب المقدس في تقليد الكنيسة؟ إن اللاهوت الارثوذكسي يقدّم مبدأ قراءة البيبليا فيقول : "يجب أن نسمع (ونفهم) الكتاب المقدس بالنظر إلى التقليد المقدّس". فمفهوم التقليد الأساسي في المعنى الواسع : إن مجمل اللاهوتيّين يؤكّدون أن هناك تقليدًا واحدًا يتضمّن الكتاب المقدس وإن كان هناك بعض منهم يتبع الطريقة الغربيّة فيتحدّث عن ينبوعَي الوحي، حيث للتقليد سلطة توازي سلطة الكتاب المقدّس. هناك مساواة عمليّة بين الكتاب والتقليد. وبما أننا لا نستطيع أن نتكلّم عنهما دون أن نذكر الروح القدس الذي ينعشهما كما ينعش الكنيسة التي سُلِّما إليها، حُددت ثلاثة أقطاب للاهوت : الروح القدس، الوحي والتقليد، الكنيسة. أعطي الوحي للكنيسة وحفظه الروح، فشكّل التقليد. فمن جهة طبيعته، لسنا أمام معارف مجرّدة بالنسبة إلى الذاكرة، بل أمام حقيقة حيّة نهضمها بعون النعمة فتصبح المعرفة التي تسلّمناها من الأجيال الاخرى معرفتنا. ومن جهة المضمون، يحتوي التقليدُ الكتابَ المقدس والتحديداتِ المجمعيّة والليتورجيّا وقوانينَ الكنيسة وكتابات الآباء واللاهوت والكرازة. هو تقديم شامل يشدّد على الطابع الحيّ والتاريخيّ للتقليد. لا شكّ في أنه لا يضع كل شيء على مستوى واحد، بل هو يميّز بين قسم ثابت وقسم ما زال موضوع بحث. غير أن الجوهر هو في تحديد التقليد لذاكرة حيّة في الكنيسة، كقوّة حيّة خاصة بجسم حيّ، كاستمرارية إرث يُدعى كل واحد منا ليجعله إرثه وينقله إلى الآخرين. لهذا، وعكس فكرة مسبقة عن الترف البشريّ ووعي الكنيسة لذاتها : فمقدار القداسة يحدّد التقليد من الداخل، لأن الحياة الكنسيّة واحدة والايمان بالتقليد ينبع من الايمان بالكنيسة. ما هو خاصّ بهذه النظرة اللاهوتيّة هو تقديم البيبليا داخل التقليد، والتذكير بالموهبة الالهيّة التي تمثّل : فالبيبليا والتقليد يعودان إلى الحياة الواحدة في الكنيسة، يحرّكها الروح الواحد الذي يعمل فيها، الذي يتجلّى في تقليدها ويُلهم كتبها المقدسة. ويُذكر بإلحاح دورُ الكنيسة بالنسبة إلى الكتاب المقدس : إن الكنيسة أعطت الكتاب بتقليدها، وهذا ما يحدّد مهمّة المؤمنين تجاه الكتب المقدّسة : على كل واحد أن يكتشفها لنفسه، متغذِّيًا من كلمة الله. لهذا، هو يتقبّلها كما هي من الكنيسة التي تتكلّم بواسطة التقليد المقدّس. كما يحدّد مهمّة اللاهوتيّ : يربط رأيه مع التقليد ويثبِّته على التقليد. ويلخّصه بشكل خلاّق ويتركه يقوده من الداخل بدلاً من أن يقبله كقاعدة خارجيّة أو قرار يُفرض عليه. ما يحيِّر القارئ الذي اعتاد على التفسير الغربي، هو التأكيدات المتعلّقة بمضمون التقليد حيث يبدو الكتاب المقدس عنصرًا بين عناصر أخرى، لا العنصر الرئيسيّ. فالارثوذكسيّة تتحدّث أولاً عن القوانين الكنسية والمجامع قبل أن تتحدّث عن الكتاب المقدس. ففي التعبير الروسي، يأتي سؤال حول حقيقة الايمان ونقاوة الاسرار. ثم الاسئلة التالية : هل تؤمن بالقوانين الرسولية والمجامع المسكونيّة السبعة والمجامع الاقليميّة التسعة وسائر التقاليد وقواعد الكنيسة الارثوذكسية؟ هل تقرّ بأن أسفار الكتاب المقدّس يجب أن تُقبل وتفسّر بالمعنى الذي تعلّمه الكنيسة الارثوذكسيّة؟ لا شكّ في أنه يجب أن نرى في النصّ الروسي تطوّرًا من العام إلى الخاصّ، الايمان أولاً، ثم التقليد الذي يغذّي هذا الايمان، وبعدها الكتاب المقدس الذي هو قلب الايمان. نحن نجد اعلانات حول ضرورة الكتب المقدّسة وسلطتها، وحول حضور الربّ في الكتب المقدسة : يسوع هو قلب الكتاب، والروح هو وحدته. هذا لا يعني أن العهد القديم هو على مستوى العهد الجديد، بل أن هناك علاقة بين النبوءة وتحقيق النبوءة، بين الصورة والواقع. لهذا، نعود إلى التعليم عن الروح القدس : في نظر الكنيسة، الجوهر هو الروح القدس الذي يقيم فيها، لا هذا التجلّي أو ذاك. وما تختصّ به الرؤية الارثوذكسيّة هو أنها تقف عند الوجهة الكنسيّة وفي إطار تاريخ الخلاص لتقرأ الكتاب. لهذا فهي تذكّرنا مرارًا بوجود الوحي والتقليد بشكل شفهي قبل أن يصبح مكتوبًا في الأسفار المقدّسة. هذه الطريقة بتحديد موقع الكتب المقدسة، تقود إلى ممارسة خاصة لقراءة البيبليا : فالقراءة البيبليّة تتمّ دومًا في الكنيسة. هذا يعني أننا لا نستطيع أن نعزلها عن باقي الكنيسة لكي نجعل منها عملاً فرديًا. فالكنيسة كلها هي التي تقرأ الكتاب. فالقارئ جزء لا يتجزّأ من الكنيسة، ومنها ينال البيبليا وطريقة تفسيرها في الليتورجيا. نحن هنا أمام واقعيّة تاريخ الخلاص : فوحدة البيبليا هي في قصد الآب الخلاصيّ. وشخصُ يسوع وعملُه الخلاصي يصبحان حاضرين في عالمنا بالروح القدس : هذا يجعل من كل قراءة لقاء وحوارًا شخصيّين يمتدان في (ويهيّئانها) الأسرار التي نعيش منها. والوحدة العميقة لحياة الكنيسة تُمسك بالقارئ وتوجّهه حتى في قراءته الشخصيّة. أما نموذج كل قراءة فهو القراءة الليتورجيّة على أنها عمل تقوم به الكنيسة كلها. 6) الكتاب المقدس في حياة الجماعة (أ) القراءة الليتورجيّة هناك قراءة تُتلى في الطقس البيزنطي، ولكن لا يُتلى النصُّ كله إلا في ما يخصّ سفر المزامير الذي يتلوه الرهبان كله. أما العهد القديم فتؤخذ منه نصوص مُختارة لصلاة المساء في ليلة الاعياد. أما العهد الجديد فيُقرأ كله ما عدا سفر الرؤيا (الذي لم تعترف جميع الكنائس بقانونيّته إلاّ بعد أن نظّم كتاب القراءات) في الليتورجيا، أي في الاحتفال الافخارستي. أما صلاة الأبانا (متى 6 :9-13) فتُتلى أكثر من مرة في كل صلاة فرضيّة. نشير هنا إلى أن الفرض البيزنطيّ هو من أصل رهبانيّ وقد تأثّر كثيرًا بما كان في أديرة فلسطين ولا سيّما دير مار سابا وفيه توضع المزامير بحسب السبعينيّة والأناشيد التسعة المأخوذة من العهد القديم (خر 15 :1-29؛ تث 32 :1-43؛ 1مل 2 :1-10؛ حب 3 :2-19؛ إش 26 :9-20؛ يون 2 :3-10؛ دا (يون) 3 :26-56؛ دا 3 :57-88) والعهد الجديد (لو 1 :46-55، 68-79). أما الليتورجيا (أو القداس) فتتبع عادة الكنيسة الكبرى في القسطنطينية. فليتورجية الكلمة تتضمّن قراءة من الرسائل أو أعمال الرسل، وقراءة من الأناجيل. أما المزامير فتُقرأ مرة واحدة كل اسبوع من اسابيع السنة، ومرتين في كل أسبوع من زمن الصوم. خلال الصوم يقرأون خر وأم في صلاة المساء، أش في الساعة الثالثة - السادسة، عب ومر في ليتورجية السبت والأحد. في الزمن الفصحي، أع ويو في الليتورجيا. أما اختيار القراءات لليلة عيد القيامة (7 قراءات من العهد القديم) وعيد الميلاد وعيد الظهور فقد تمّ بحسب عيد القيامة. في عيد البشارة 5 قراءات. سائر الاعياد 3 قراءات. وكانت لائحة إضافيّة ساعة يُحتفل بالمعمودية في هذه الاعياد الكبرى. فصارت قراءات عيد الفصح 15، وعيد الميلاد 8، وعيد الظهور 13. ثم ظهر مبدأ القراءة المتواصلة لنصّ واحد. أما الأسفار التي يقرأون منها في العهد القديم فهي : تك، خر، لا، عد، تث، يش، قض، 1صم، 1-2مل، أي، أم، حك، أش، إر، با، حز، دا، يوء، يون، مي، صف، زك، ملا. يزاد نشيد من حب. غابت قراءة العهد القديم من الليتورجيا في القرن 6 أو السابع. أما العهد الجديد فيُقرأ بشكل رئيسيّ في الليتورجيا (أي : القداس). أما التنظيم الاجماليّ فقد تمّ في القرن 7-8. اجمالاً، لا نجد توافقًا بين القراءتين في القداس ما عدا عيد الصعود، عيد العنصرة ومناسبات أخرى قليلة. وهناك ايرادات الكتاب المقدّس في النصوص الليتورجيّة. ولا سيّما في المدائح التي تشير إلى نشيد بيبلي أو نصّ من النصوص الكتابيّة أو سرّ العيد. مثلاً، تُطبّق على المسيح في الميلاد نبوءتا ملا 3 :20 وزك 3 :9... وحين يذكر النصّ الكتابي فهو يؤوّن، أي يصبح الحدث الذي نحتفل به حاضرًا لدى كنيسة اليوم. وهناك النظرة الاسكاتولوجيّة، بمعنى أن ملكوت الله حاضر رمزيًا منذ الآن وإن كان في ملئه ما زال يتابع مسيرته. وهناك الفرح، بمعنى أن الكنيسة تبتهج لأنها تعرف أنّ الله أحبّها وخلّصها. وقد نظنّ هنا أننا أمام هرب من الواقع، أمام تاريخ خلاص كونيّ، وعالم حضاري عفّاه الزمان، وقراءة أصوليّة لم تعرف النقد الكتابيّ. ولكننا في الواقع أمام خبرة عميقة هي امتداد لخبرة الرجال الذين يتحدّث عنهم الكتاب، وأمام تبسيط لفكر الآباء يلتقي وعمق المسيحيّة. (ب) القراءة الشخصيّة يُدعى المسيحيون كلّهم لقراءة الكتاب المقدس في كل يوم. وهذا واجب على الرهبان كما على العوام. هذا ما قاله اوريجانس ويوحنا فم الذهب ومجمع ترولو (قانون 19) وافدوكيموف. إذن، في كل العصور. والمثال هو قراءة منتظمة تقيّة وواعية، تتذوّق النصّ، تتعلّمه عن ظهر القلب، وتواصل تكراره في حوار مع الربّ. ليس اكتشافُ معنى النصّ قضيّة نظرية أو بحثًا وتفتيشًا، بل سماعًا طويلاً يتجذّر في التقليد. سماعٌ طويل يتطلّب الصبر، لأن هناك كلمات تبقى مغلقة. فنحملها في قلبنا إلى أن تلامسنا وتشعّ فينا. وتجذر في التقليد، لأن القراءة تدخلنا في شركة صلاة مع جميع المصلّين في البيبليا، تدخلنا في وسع تاريخ الخلاص : في البيبليا يكلّمنا المسيح عن قصد الآب الخلاصي. لهذا لا فرق كبيرًا بين القراءة الليتورجيّة والقراءة الشخصيّة : فنحن نقرأ دومًا في "الكنيسة"، نقرأ الكتاب اليوم ونطبعه على نفوسنا. نقرأ البيبليا في المسيح، في الكنيسة التي هي جسد المسيح، لأنها وحدها تجعل الوثيقة التاريخيّة كتابًا مقدّسًا يملأه حضور الله. وحين نطبع قراءتنا بالروح الكنسيّة، ننتقل من الكلمة المقروءة أو المسموعة إلى الكلمة الحيّة، من المعرفة الخارجيّة إلى هضم الكلمة فتصبح جزءًا منا. وهذا الشكل من القراءة لا ينحصر في النصوص البيبليّة، كما لا يفصل هذه النصوصَ عن سائر الواقع الكنسي. فكما أن الليتورجيا تجعل قراءةَ النص مع التأمّل به في النشيد أو العظة، يُنصح المؤمن بأن يقرأ الآباء ليستطيع أن يقرأ البيبليا معهم ومثلهم. ولا نهمل التفسير البيبلي الذي نجده في الايقونات، في المدائح، في الأسرار. فعلى ضوء كل حياة الكنيسة نقرأ البيبليا باتحاد مع جميع القدّيسين. والامثلة عديدة عن تطبيق مباشر للنصّ على حياة السامع : صار انطونيوس راهبًا بعد أن سمع قراءة الانجيل (مت 19 :21؛ 6 :34) في الليتورجيا. والقديس تيودوسيوس حين سمع مت 10 :17؛ 11 :28-29. والسائح الروسيّ (حوالي 1860) حاول أن يضع قيد العمل 1تس 5 :17 الذي سمعه في الليتورجيا. فهدفُ القراءة الليتورجيّة وبالتالي القراءة الشخصيّة، هو تطبيق كلمة الله على حياة المؤمن اليوم. وقد تتّخذ هذه القراءة الشخصيّة أشكالاً متنوّعة : شكل نصائح يقدّمها الرجل لعائلته بعد سماع العظة. شكل استعداد للنصّ الذي سيُقرأ في الكنيسة. شكل تربية الأولاد على القراءة اليوميّة كما كان يقول يوحنا الذهبيّ الفم. وهناك من ينصح اليوم بقراءة نص مع تفسيره، بالتوقف عند آية أو آيتين يكررّونهما طوال النهار، أو بقراءة سفر كامل على التوالي للدخول في جوّه. وتوسّعت القراءة الشخصيّة أكثر ما توسّعت في الحياة الرهبانيّة : فقد طلب باخوميوس من الرهبان أن يتلوا الكتاب المقدس غيبًا خلال ساعات العمل. وكان رؤساء الأديار يقدمّون مجموعة من النصوص من أجل اخوتهم. واهتمّ المبتدئون بقراءة البيبليا والآباء. وهذه القراءة يرافقها "التأمّل الخفي" والذي هو صلاة نردّدها فتنقّي الذاكرة من سائر الأفكار. وأشهر هذه الصلوات هي "صلاة يسوع" (مت 9 :27؛ لو 18 :13) التي تستطيع أن تنطبق على كل صلاة.