إن تأكيد قيامة يسوع هو في قلب اعتراف الايمان المسيحي وكرازة الكنيسة. وهو في الأصل التاريخيّ للعهد الجديد، يوحّد الكتب المقدسة التي تُقرأ في الايمان بالمسيح (لو 24 :27) وتُؤوّن في الليتورجيا. القيامة هي في الوقت عينه عودة إلى حدث من تاريخ يسوع الناصري، وتعلّق بشهادة الرسل، وإدراك عميق للحياة المسيحيّة. هي تعني أن يسوع يعيش ما وراء الموت فيدلّ هكذا على لاهوته، ويفتح للبشر الطريق للدخول إلى حياة الله الحميمة. كثّف العالم اليهوديّ تعليم العهد القديم في عطيّة منحها الله للانسان، عطيّة الحياة الأبديّة حيث يتمّ الوحي وإيصال اسمه وعهده الخلاصي مع البشر (تلمود بابل، سنهدرين 9). فالايمان الذي يعلنه بقيامة الموتى (2مك 12 :43-45؛ 14 :46؛ دا 12 :1-3) يرتكز على أمانة الله لمواعيده ويتجذّر في الرجاء المسيحانيّ. 1) اعترافات الايمان. تورد النصوص الأولى حدث قيامة يسوع فتبدو في شكل اعتراف إيماني أو تأكيد الكرازة الرسولية التي توسّعت فيها الكنيسة الأولى. وأقدم "نؤمن" نعرفه نجده عند بولس الرسول : المسيح مات من أجل خطايانا، ودُفن، وقام. إذن، هو حيّ بشكل نهائي. وقد تراءى لشهود عديدين (1كور 15 :1-11). واستعملت الكرازة الرسوليّة في أع تعابير مختلفة لتقول لنا ما حصل ليسوع الناصريّ : " الله أقام يسوع هذا... رُفع عن يمين الله، نال الروح القدس، موضوع الوعد، وأفاضه... قال الرب لربي : إجلس عن يميني... الله جعله ربًا ومسيحًا" (أع 2 :22-36). "إله... آبائنا مجّد فتاه يسوع... فقتلتم سيّد الحياة، ولكن الله أقامه من بين الأموات" (أع 3 :13، 15). وأكّد بولس أيضًا : "الله أقامه" (1كور 15 :4). "عاد إلى الحياة" (رو 14 :9). "المسيح... رفعه الله في المجد" (1تم 3 :16). "قام" بالنسبة إلى المسيح، أي استيقظ (اغايرستاي)، وقف (انستناي) وسط الموتى الراقدين. رُفع (هبسوستاي). مجِّد (دوكستازستاي). مجّده الله. رفعه الله. جلس عن يمينه. صار حيًا، استعاد الحياة. أما لفظة "رفْع" (هبسوسيس) فتدلّ على دخول يسوع إلى حياة الله الحميمة، وعلى سلطانه على الكون. لقد أبرزت البُعد السماوي للحدث، حدث القيامة (انستاسيس)، فدلّت على التماهي الشخصي والجسدي بين المسيح القائم من الموت وبين يسوع المائت على الصليب. وتتوضّح لفظة القيامة بتعابير : "عاد إلى الحياة". "الحيّ دائمًا" (رو 14 :9؛ 2كور 13 :4). ولفظة "الحياة الأبديّة" (رو 6 :9؛ عب 7 :24-25؛ رؤ 1 :18) تتيح لنا أن نميّز القيامة عن عودة الروح إلى الانسان. عبرّت الكرازة الفصحيّة والتعابير الايمانيّة أيضًا عمّا يعنيه للبشر الحدثُ الذي حصل ليسوع. هو "سيّد الحياة" أي "منبع الحياة" (ارخيغوس، أع 3 :15). لقد دشّن المسيح للبشر حياة جديدة بعد الموت (رو 8 :10-11)، وجعل فيهم "خليقة جديدة" (2كور 5 :17)، لأنه بكر المائتين (كو 1 :18؛ رج 1كور 15 :20-24؛ أف 5 :14). يتدخّل القائم من الموت تدخّلاً فعليًا في حياة تلاميذه فيحوّلها (كو 3 :1-4). هناك شهود مباشرون لهذه الخبرة الانسانيّة، وبولس واحد منهم (1كور 15 :8؛ غل 1 :16؛ فل 3 :12). وهم يدلّون بشخصهم وعملهم أن القائم من الموت يقيم فيهم بحيث صار عمله فيهم حاسمًا (فل 3 :20-21؛ تي 2 :3-5). وهكذا يخبرنا بولس سرّه، فيحدّثنا عن لقائه بالرب على طريق دمشق (غل 1 :15-16؛ أف 3 :7-9؛ 1تم 1 :12-14؛ رج أع 9 :4-5 وز)، وكيف التزم بإعلان الانجيل المسيحي، وصوّر بحسب سرّه الفصحيّ الخاص مصير الرسول المضطهد (2كور 1 :5، 2 :14-15؛ 3 :4-4 :6). وكلام الله الذي أعلنه الرسول للبشر، يجعلهم يلامسون القدرة الناشطة للقائم من الموت (فل 3 :10. وخبرة حضوره المحيي، تستضيء بشهادة تقدّمها الكنيسة عبر الأخبار الانجيليّة. 2) أخبار القيامة. بعد الاعترافات الايمانية والكرازة الرسولية كما في أع وفي الرسائل البولسيّة، صيغت أخبارُ إنجيليّة تروي الحدث المؤسِّس للايمان المسيحيّ، وتقدّم تفسيرًا عنه. تشدّد هذه الأخبار أولاً على الحريّة التي بها واجه يسوع آلامه : أعلن موته وقيامته (مت 16 :21 وز؛ 17 :22-23 وز؛ 20 :17-19 وز). وخلال عشائه الأخير، قدّم في الافخارستيا، المعنى الفدائيّ لموته (مت 26 :26-29 وز ). وحمل أمام أبيه ذلك الألم والفشل الظاهر، خلال نزاعه (مر 14 :32-42 وز). وأعلن هويّته اللاهوتيّة أمام المحكمة العليا، السنهدرين (مت 26 :63-64 وز). أسّست الأناجيلُ تاريخيّة الأحداث التي توردها، على سلطة شهود الساعات الأولى. وقد صوّرت الاخبار خبرتهم في ثلاث حقبات : اكتشاف النساء للقبر الفارغ، صباح الفصح (مت 28 :1-8 وز). الظهور للتلاميذ (مت 16 :9-13 وز). ظهورات نعمَ بها الأحدُ عشر (مت 16 :14-18 وز) وانتهت في صعود يسوع. ونجد في هذه الأخبار أيضًا تلميحات إلى عطيّة الروح القدس (لو 24 :49؛ يو 20 :22؛ رج أع 1 :4-5؛ 2 :1-3) الذي يختم صدق الحدث ويثبته، كما يختم الأخبار التي تورده. حين توسّعت الأناجيل في هذه السلسلة من الأحداث، استعملت لغتين : اللغة الأولى جعلت ظهور يسوع الحاسم للرسل، في أورشليم (لو 24 :36-53؛ يو 20 :19-29)، وتوسّعت في موضوع القيامة وخصبها بالنسبة إلى الكنيسة والعالم. واللغة الثانية تجعل الظهور الحاسم في الجليل (مت 28 :16-20؛ رج يو 21)، وتطبعه بالتمجيد وتتمّة السرّ في الله. إن خبر اكتشاف القبر على يد النسوة، صباح القيامة، ينير واقعًا يقول إن يسوع حيّ من خلال موته. واختفاء جثّته لا تفسّره السرقة (يو 20 :2؛ مت 28 :13)، بل تحوّلٌ جسديّ للقائم من الموت في نهاية التاريخ (مر 16 :7). ولكن منذ الآن، طبعت قيامة يسوع بطابعها نهاية الأزمنة (مت 28 :2-5؛ رج 27 :51-54). وفي لو، جعل يسوع التلاميذ يكتشفون معنى حياته (لو 24 :6-8). ودلّ يو على الكنيسة التي تفسّر الحدث (يو 20 :6-9). تدلّ أخبار الظهورات كيف جعل يسوع الشهود الذين اختارهم "يرونه" بحسب رغبته (أع 10 :14)، وكيف ثبّتهم في يقين يقول لهم إنه باقٍ معهم. تراءى يسوع حيًا لتلاميذه ورسله. وقد لاحظوا أن القائم من الموت في أحد الفصح هو مصلوب الجمعة العظيمة (لو 2 :39؛ يو 20 :27). وتجلّى جسده فصار مجيدًا (لو 24 :36؛ يو 20 :19-26)، "روحيًا" (1كور 15 :44، 46). وهكذا نحن أمام شكل جديد من حضور المسيح ذاته، ولسنا أمام إعادة الروح إلى جثّة. وإن أعطي لهؤلاء الشهود أن "يلمسوه" فلكي يتعرّفوا إليه، لا ليتحقّقوا من واقعه الجسديّ (مت 28 :9؛ يو 20 :17، 28 :1يو 1 :1). وحين أظهر يسوع القائم من الموت نفسه لتلاميذه، أرسلهم إلى العالم (مت 28 :16-20) : يبقى عليهم أن يجعلوا من البشرية "جسد المسيح" الذي هو الكنيسة. وبجانب الرسل الذين تبدو شهادتهم مؤسِّسة للايمان الكنسي (لو 24 :34)، تحدّثت الأناجيل أيضًا عن خبرة التلاميذ من نساء ورجال : لقد أعطاهم يسوع أن يفهموا الحدث في العودة إلى الكتب المقدسة والعمل الأسراري (لو 24 :25-27، 30، 35). لقد صارت النسوة محرّكات للجماعات (لو 24 :22؛ يو20 :17-18). والذين لم يعرفوا يسوع، أعطي لهم حضورُ القائم من الموت عبر إعلان الشهود الأولين، كما ثبّتته الكتب وحقّقته الافخارستيا (يو 20 :29). والروح القدس الذي أفيض على الجماعة الأولى في العنصرة، والحاضر منذ الآن كقوّة لا تُقهر بها يواصل المسيح انعاش كنيسته حتى نهاية الأزمنة، هو ختم حقيقة القيامة وكفالتها الملموسة (أع 2 :33؛ 2 ور 1 :22؛ 5 : 5). 3) المسألة التاريخية. حوالى سنة 1960، وداخل جدال حول "يسوع التاريخ ويسوع الإيمان"، كان نقدٌ حول تاريخيّة قيامة المسيح. انطلق التفسير التاريخيّ النقدي من النصوص فبيّن أن تحليل هذه النصوص يتيح لنا لا أن نثبت الحدث الذي حصل يسوع، بل حدث إيمان الجماعة التي تعلن أن يسوع حيّ. وتدخّلت العلوم البشريّة بدورها : استنتجت البيولوجيا أنه يستحيل إحياء جثة من جديد. وندّدت السيكولوجيا بلعبة اللاوعي، فأنكرت الموت لتؤكّد بقوة رغبة الحياة المطلقة. وكشفت السيكولوجيا القناع عن ايديولوجية الاستعفاء الخفيّ في اسقاط محاولات (فشلت) تبديل الكون في العالم الآخر. هذه التساؤلات دفعت الإيمان المسيحي إلى أن يوضح ذاته : هو لا يؤكد إعادة الروح إلى جثة ميت، بل عبور الله في يسوع عبورًا يجتذب البشرية في خطاه. هذا الإيمان لا ينفي انكار الموت فيلعب لعبة اللاوعي البشري، بل يقرّ أن الموت ليس له الكلمة الأخيرة. لا يتوخى الإيمان اليوتوبيا، بل يعيدنا إلى هذا العالم كموضع ظهور ملكوت الله. وينطلق السؤال المطروح إلى أبعد من ذلك : كيف يرتبط التاريخ والإيمان؟ حصر بعض اللاهوتيين الواقع التاريخيّ للقيامة في ظهور إيمان المسيحيين الأوليّن. قال بولتمان : "ليس الإيمان بالقيامة سوى الإيمان بالصليب كحدث خلاص". توقّف عند المعنى الوجوديّ للقيامة، فجعل بُعدها بُعدًا فرديًا، ورفض أن ينظر نظرة موضوعيّة إلى الحدث الفصحيّ، لا يشدّد على برهانه بل على تعليمه. وأبرز كارل بارت عموديّة الوحي الالهي الذي يشهد بنفسه لنفسه. عند ذاك ألغى أهمية الوساطة التاريخيّة... نظريات عديدة، ولكن يبقى أن ننظر إلى القيامة كحدث تاريخي وواقع ايماني. إن قيامة يسوع تتم كواقع تاريخي في الايمان الذي تحرّكه في قلب الشهود، وهذا الإيمان هو اعلان يهب الحياة.