إشعياهو، أي يهوه هو خلاص أو خلاص يهوه. أولاً : شخصه. قال تلمود بابل إن آموص والده كان شقيق الملك أمصيا. لا نعرف الكثير عن حياة إشعيا. بدأ يتنبّأ في السنة التي مات فيها عزيّا (أو عُزريا) (6 :1). إنّه إذًا وُلد بين سنة 770 وسنة 760. وحين جاءته الدعوة كان متزوّجًا، لأنّه حين مَثُل أمام آحاز سنة 735 كان يمسك ابنه بيده (7 :3). تذكر التوراة ولديه : شآر ياشوب (بقية تبقى أو تعود)، مهر شلل حش بز (اسرع إلى السلب بادر إلى النهب) (8 :1). سيكونان علامة ونذيرًا لإسرائيل (8 :18). يظنّ العلماء عامّة أنّ إشعيا انتمى إلى أرستوقراطيّة أورشليم. غير أنّ البراهين عن أصله الرفيع (3 :1-24؛ 7 :3؛ 8 :1ي؛ 22 :15ي؛ 29 :15؛ 36-39) وعن موطنه أورشليم (1 :8، 11-15؛ 5 :1-6؛ 6 :1-7؛ 7 :3؛ 8 :6، 18؛ 28 :16) غير مقنعة. وقد نحاول أن نبيّن ذلك انطلاقًا من لغته وطريقة التعبير عنده. هو يتّخذ صوره من حياة المدينة، واهتمامه لا يتعدّاها : البيوت (9 :9)، اللباس (1 :18)، الزينة (3 :16-23)، الغناء (5 :1). كلّ هذا يذكّرنا بالحياة في المدينة. حين تُقفر المدن والبيوت، تصبح البلاد قفرًا وصحراء (6 :11). خلال فتوّة إشعيا عرفت البلاد الازدهار والسلام : كان أدوم خاضعًا ليهوذا (2مل 14 :22)، وكان غنى الشرق يصبّ في أورشليم (2 :7-16). ولكن تبدّل الوضع في زمن دعوته (6 :11). جاءته الدعوة خلال رؤية (6 :1-7)، شأنه شأن سائر الأنبياء. لم يكن مجبرًا على القبول بها، ولكنه تقدّم إليها طوعًا (6 :8). بدأ عمله النبويّ بعد عاموس وهوشع بزمن قليل. وهو مثل هوشع سيرسل التهديد ضدّ أشورية. واعتباراته عن الحبّ الإلهيّ تشبه اعتبارات هوشع. ولكنّه يقترب بشكل خاص من معاصره ميخا في عدد من الأفكار والصور (ق إش 1 :2ي؛ 7 :14؛ 11 :1؛ 39 :7 مع مي 4 :1ي؛ 5 :2؛ 5 :1، 4 :1). كلاهما يصارعان عدالة اجتماعيّة تهدّد مدينة نامية بأن تختنق بقوّة الأفراد وغناهم. ولكن إشعيا يتفوّق على معاصرَيه تفوّقًا كبيرًا. فهو يُظهر فكرًا مثقّفًا وأصالة عميقة فيقدّم الأشياء القديمة والحديثة لسامعيه. ويعود دومًا وبإلحاح إلى مواضيع كرازته الرئيسيّة مثل : دينونة يهوه القريبة، البقيّة الباقية، الآمال المؤسّسة على بيت داود الملكيّ، قدرة الإيمان الواثق… رافقت رسالتُه ملك عزريا، يوثام، آحاز، حزقيا. وكان حاضرًا وقت حُوصرت أورشليم مرتين : مرّة أولى بيد رصين وفقح (735). ومرّة ثانية بيد سنحاريب (701). وفي الحالتين ساند إشعيا معنويّات الملك والشعب المنهارة (7 :1 ي؛ 38 :31، 36-37). وماذا حدث لإشعيا بعد سنة 701؟ يقول تلمود بابل إنّ إشعيا مات شهيدًا في أيام الملك منسّى (693-639). وهذا ما يقابل 2مل 21 :16؛ إر 2 :30. وهناك تقليد نجده عند الكتّاب المسيحيّين (يوستينوس، ترتليانس) وفي الأدب المنحول وربما في عب 11 :37 يقول إنّ إشعيا نُشر. ويربط تلمود فلسطين هذا الحدث باختباء إشعيا داخل شجرة. ثانيًا : سيرة حياته. روى إشعيا نفسُه كيف أرسل كنبيّ (6 :1-13) : خلال رؤية في الهيكل وعى أنه في حضرة الله الذي هو "قدّوس، قدوس، قدوس" ( آ3). فقدّم نفسه وتطوّع من أجل الرسالة ( آ8). استعدّ ليحمل إلى الشعب القاسي القلب والأعمى، كلمة الله. حصل هذا المشهد في السنة التي فيها مات الملك عزيّا ( آ1). هناك من يجعل الحدث في السنوات 739-742، وهذا ما يتيح لهم أن يتحدّثوا عن حقبة أولى لنشاط النبيّ قبل الحرب الأراميّة الافرائيميّة ضد أورشليم (734)، وهي حقبة تقابل نشاطه في الحياة الاجتماعيّة. وهناك من يجعل موت عزيا يتمّ سنة 734. هكذا نستطيع أن نفهم الرباط الوثيق الذي يجمع مشهد الإرسال إلى ف 7-8 المتعلّقين بالحرب الأراميّة الافرايميّة. عند ذاك تأتي كرازة إشعيا الاجتماعيّة في وقت لاحق. بعد البدايات النبويّة، نتوقّف عند الحرب الأراميّة الافرائيميّة. نحن هنا أمام أول تدخّل علنيّ لإشعيا. كان ذلك سنة 734، يوم هدّدت أورشليمَ جيوشُ دمشق والسامرة، ويوم استغاث آحاز بأشورية. تفوّه النبيّ في تلك المناسبة بثلاثة أقوال نبويّة على الأقلّ (7 :5-8أ؛ 7 :13-17، 20؛ 8 :6أ، 7-8أ) وقام بفعلة ترمز إلى دمار المتحالفين (8 :1-4). وأراد أن يقنع الملك بأن لا يدخل في لعبة الإمبراطوريّات العظيمة لما فيها من خطر. ودعاه إلى أن يجعل ثقته في الله، لأن الله وحده يملك القدرة الحقيقيّة، ووحده يستطيع أن يخلّص يهوذا. في ذلك الوقت نعرف أن إشعيا متزوّج وأنّ له ولدًا اسمه شآر ياشوب (7 :3) وآخر يعني اسمه "أسرع إلى السلب بادر إلى النهب" (8 :1). وتلاحقت الأزمات الخطيرة في المنطقة حتى نهاية القرن 8، وبشكل خاص في نهاية كل ملك أشوريّ. وفي كل أزمة، كان إشعيا يتدخّل فيدعو الملك والشعب إلى سياسة واقعيّة، وفي الوقت عينه موافِقة للإيمان بالربّ. ولما مات تغلث فلاسر الثالث (727) شجّعت مصر هوشع، ملك السامرة، على الثورة ضدّ أشورية. وحاولت أن تجرّ مملكة يهوذا. في هذا الإطار دوّن النبيّ شهادته حول أحداث الحقبة السابقة (كتاب عمّانوئيل، 6 :1-8 :18) ليؤكّد من جديد البلاغ الإلهيّ الواحد : يجب على يهوذا أن لا يخاف جيرانه، لأنّ الربّ وحده يمتلك القدرة، وهو وحده يمنح الغلبة. وعلى المستوى العمليّ، من جعل اتّكاله على الربّ، ظلّ بعيدًا عن سياسة الكتل الكبيرة. ونضع بين الأقوال التي تلفّظ بها النبيّ في هذا السياق : 9 :7-205 :24-29؛ 14 :28-32؛ 28 :1-4. سمع الملك والشعب للنبيّ في هذه المرّة، وهكذا نجت أورشليم من مصير مأساويّ أصاب السامرة. وقيلت أقوال نبويّة عديدة خلال ثورة الفلسطيّين، أي في أزمة السنوات 714-712، ساعة اتّخذت الحواضر الفلسطيّة مبادرة حلف بوجه أشور (10 :5-1414 :24-25؛ 18 :1-2، 4؛ 22 :1-14؛ 22 :15-18). أنبأ إشعيا مرّة أخرى بأن الحلفاء سيدمَّرون : أعلنه بكلامه، كما أعلنه بفعلة رمزيّة نجدها في 20 :1-6 (مشى عاريًا حافيًا)، ودعا الجميع إلى سياسة تتحلّى بالفطنة والحكمة. كان حزقيا قد دخل في المغامرة. ولكنه عاد وقدّم خضوعه في الوقت المناسب لسرجون الثاني بناء على دعوة النبيّ. وهكذا نجا الملك ونجت أورشليم ساعة سحقت أشورية المتمرّدين. في السياق عينه أعلن إشعيا سقوط شبنا "سيّد القصر" أو الموظّف (الوزير) الأول في المملكة، لأنه كان يساير الحزب المعارض لأشورية. ولكن سيُعاد إلى مركزه خلال ثورة 705. أما أقوال إشعيا الأخيرة (30 :1-5؛ 30 :6-8؛ 31 :1، 3؛ 31 :4؛ 32 :9-14؛ 33 :1)، فقد تفوّه بها النبيّ في إطار الأزمة التي فُتحت مع موت سرجون الثاني سنة 705. وكانت هذه مناسبة لتمرّد عام من قبل تابعي أشورية بقيادة حزقيا. ورغم التقليد اللاحق الذي نسب إلى إشعيا دورًا لم يلعبه (37 :6-7، 21-35)، فهو ما زال يعارض السياسة المقاومة للأشوريّين وينبئ بهزيمة المتمرّدين. وفي سنة 701، حاصر سنحاريب أورشليم التي استسلمت بشكل مخزٍ بعد أن اشترت سلاحها بمبلغ كبير من المال. ثالثًا : لاهوت إشعيا. تحدّث أشعيا عن قداسة الله. أمامه وهو القدوس، يحسّ الإنسان وكأنه صار إلى العدم (5 :19؛ 6 :3-5؛ 8 :13). كما تحدّث عن مجد الله ربّ الجنود (ربّ الكون) وقدرته التي لا تضاهيها قدرة (2 :12؛ 3 :1، 15) لا في أرض يهوذا وحسب، بل لدى الأمم الوثنيّة أيضاً (5 :26-29). وشدّد إشعيا على وحدانيّة الله. يهوه هو الإله الواحد. وما يعارض هذه الوحدانيّة ليس عبادة الأوثان كما قال هوشع، بل الكبرياء البشريّة (2 :12-17) بجميع مظاهرها : من تمجيد الحكمة البشريّة (5 :20-21) إلى الأبنية الفخمة (22 :16) والظلم الاجتماعي والمشاريع الدبلوماسيّة الحربيّة الكبيرة. هذا الإله الواحد والقدوس لا يساوم. يُعلن النبيّ عقاب الله ويُبرز السبب العميق لهذا التهديد : كبرياء يهوذا ورؤسائه المتعدّدة الأشكال. فالتهديد يدلّ على متطلّبات الله. ومتطلّباته تدلّ على أنه يتعامل بجديّة مع الإنسان، مع المواقف التي يتّخذها من خلال أعمال يقوم بها. إنّ كلمة إشعيا تدعو الشعب إلى قرار حاسم، إلى تبديل في السلوك، إلى موقف إيمان وثقة : "إن لم تؤمنوا لن تأمنوا". إن كان لا إيمان عندكم فلا يكون لكم أمان (7 :9ب). مثل هذه الثقة لا تسمح لنا بأن نرتجف أمام العدوّ البشريّ، كما تجعلنا نعي الواقع ونتعامل معه بهدوء. أما الكبرياء فهي رفيقة العمى والجهل (5 :12؛ 6 :9؛ 22 :13). غير أن إيماننا بالله يظهر في التزام ملموس على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ. ويهوه هو الإله العادل. يتّخذ قراره حاسبًا حساب مواقف البشر وبحسب قواعد المجازاة المنصفة. أما عقاب الله فسببه خطيئة الإنسان. ثمّ إنّ الربّ يفرض احترام الحقوق الأولى للإنسان ولا سيّما الضعيف (3 :12-15؛ 10-2). وهو في ذلك لا يميّز بين يهوديّ ووثنيّ (10 :7). ويهوه هو إله صالح. يطلب خلاص شعبه (8 :18). وإن أعلن إشعيا الشرّ، فهو لا يفعل لكي يغرق يهوذا في الشرّ، بل ليفتح له عينيه ويتيح له أن يتّخذ القرار المناسب. ومهما اسودّت أقوال النبيّ، فهو يبقى ذاك الداعي إلى الرجاء رغم الأزمات التي تعصف بالبلاد. رابعًا : أعماله : (أ) أول كتب الأنبياء الكبار : سفر إشعيا. (ب) استشهاد إشعيا. أبوكريف (كتاب منحول) من العهد القديم. يذكره للمرّة الأولى أوريجانس. وهو يعود إلى القرن الأول ق.م. ألّف في العبريّة وبقي في الحبشيّة مع أجزاء منه في اليونانيّة واللاتينيّة. ما هو مدى اتساعه؟ 2 :1-3 :12 و5 :1ب-14 تنتمي إلى المؤلّف الأصلي. أمّا المضمون فهو توسيع في حاشية 2مل 21 :1-18 : منسّى يضطهد الأنبياء. ألقيَ إشعيا في السجن ونُشر. الموضوع المركزي هو تكريم الأنبياء. لهذا يُقال إنّ الكتاب وُلد في زمن المكابيّين. (ج) صعود إشعيا. أبوكريف مسيحيّ متأثّر بالعالم اليهوديّ. يروي كيف أنّ النبيّ صعد إلى السماء السابعة وتأمّل تجسّد ابن الله وصعوده. عرف أبيفانيوس وإيرونيموس عنوان الكتاب. قد يعود نصُّه إلى القرن 2 ب.م. وهو يدلّ على تأثير التيّار الظاهري (أو : الدوسيتي). وينعته إيرونيموس بالغنوصيّ. يتّفق العلماء على القول إنّ الأصل تضمّن فقط ف 6-11. وصل الكتاب إلينا كلّه في الحبشيّة واللاتينيّة وفي ثلاث ترجمات سلافية. هناك تعليم عن الثالوث الأقدس وعن الملائكة. يُسمّى الأقنوم الثاني : الحبيب أو الابن (الوحيد) أو المختار (المصطفى). (د) رؤيا إشعيا : هي جزء من استشهاد إشعيا (3 :13-4 :18)، بشكل زيادة وضعها كاتب مسيحيّ. تشير أوّلاً إلى صعود إشعيا، ثمّ تقدّم تعليمًا آخر عن موت المسيح وقيامته، عن كرازة الإنجيل وانحطاط الكنيسة. وبعد 4 :1 يبدأ النبيّ فيصوّر زمن النهاية : اضطهاد الانتيكرست (ضدّ المسيح أو المسيح الدجّال) الذي هو نيرون. ولكن المسيح سيتغلّب عليه. بقي النصّ كلّه في الحبشيّة وجزئيًّا في اللاتينيّة واليونانيّة. (هـ) إذا عدنا إلى التوراة، نعرف أنّ إشعيا كتب تاريخ عزيّا (2أخ 26 :22)، ولكن هذا الكتاب لم يصل إلينا. وسيرة حزقيا التي نقدر أن نجدها في "رؤيا إشعيا النبيّ" (2أخ 32 :32)، وقد تكون حُفظت في الملحق التاريخيّ (ف 36-39؛ رج 2مل 18-20).1