1) العهد القديم. مع أن التوراة هي قبل كل شيء تاريخ الشعب المختار الذي يقوده الرب إلهه، ومع أن الأمم الوثنية يُنظر إليها نظرة سلبيّة، فهي تؤكد أن يهوه هو إله الكون، إله المسكونة، الذي يدعو الأمم إلى الاهتداء والخلاص. أولاً : الأدب القديم. إن الشهادات النادرة والمشتّتة (والتي يصعب وضع تأريخ لها) لا تتيح لنا أن نرسم التاريخ الحقيقيّ لهذا الموضوع. فإشعيا الثاني (ف 40-55) الذي يعود إلى زمن المنفى، هو نقطة انطلاق يقبل بها الشرّاح، دون أن نجعله أبا الشموليّة : مع أن المسألة هي موضوع جدال، يبدو أن المزامير سبقت الأنبياء في الاعتراف بملك يهوه الشامل. ثم إن تاريخ البدايات اليهوهي (2 :4ب-11 :9) الذي هو مقدّمة لتاريخ اسرائيل، كان قد طرح سؤالاً حول خلاص الأمم (برج بابل)، وأبرز الأبعاد الكونيّة لتاريخ الخلاص الذي يدشّنه الله مع ابراهيم : "يتبارك بك جميع عشائر الأرض" (تك 12 :3؛ 22 :18؛ سي 44 :21، 22-23). نجد أن هذه الشهادة تبقى وحدها، فما رأى التشريع القبل منفاوي في الأمم إلاّ خطرًا يهدّد أمانة الشعب المختار (خر 23 :22-33؛ 34 :12-16). ثانيًا : الأدب النبويّ. وتبدّل المنظورُ مع أنبياء التوبة الذين يندّدون بالآمال الكاذبة لدى الشعب المختار الذي خان الرب. اختار يهوه اسرائيل. ولكن يهوه ليس بإله وطني يرتبط بشعبه بدون قيد ولا شرط. إن يهوه يوجّه تاريخ جميع الأمم (عا 9 :7) ويعاقبهم على خيانتهم (عا 1-2). إن الأمم هي أداة دينونة في شعبه الخائن (إش 5 :26-30؛ 8 :6-8؛ 10 :6؛ إر 27)، ولكنها ستعاقَب بدورها لأنها تجاوزت الدور الذي كُلّفت به (إش 10 :5-15؛ ف 13-23؛ إر 47-51؛ حز 25-32). ومن خلال العقاب، افهمتنا بعض النصوص أن الرب سيعيد بناء هذه الأمم (إر 12 :14-17؛ حز 29 :13-16) كما سيعيد بناء اسرائيل. غير أن النصوص لا تتحدّث عن اهتداء هذه الأمم إلى الرب، ولا عن مشاركتها في العهد. وراح إش 2 :2-5 ( : مي 4 :1-4) بعيدًا في هذا الخطّ، فرأى الأمم الراغبة في معرفة كلمة الربّ والسير بحسب وصاياه، تصعد إلى أورشليم. ولكن الجدال قائم حول الزمن الذي فيه كُتب هذا النص. والمنظور الكونيّ ليس بغائب من التاريخ الكهنوتي المنفاوي الذي يؤكّد للبشريّة بركة الله (تك 1 :28؛ 9 :1)، وعهدًا أبديًا مع نوح (9 :8-17). ولكن تعليم التحرير من المنفى بما فيه من انتصار (أش 40-57) يفهمنا للمرة الأولى نداء الامم للاهتداء إلى الربّ (44 :22-25). فالمأثرة التي سيتّمها الله من أجل شعبه، سيكون لها صدى في الكون. فأمام خلاص اسرائيل الشعب الشاهد (43 :10-12؛ 44 :8؛ 48 :20؛ 55 :4)، ستعرف الأمم أن يهوه وحده هو الله (40 :18-25؛ 43 :10-12؛ 44 :6-8؛ 45 :3، 5-6، 14، 18-22؛ 46 :5-9؛ 48؛ 11)، ولا شيء أمامه (40 :15-17)، وأن آلهتها عدم (41 :24، 29؛ 45 :6، 14)، لا تستطيع أن تخلّص الذين يثقون بها (44 :9، 20؛ 45 :20؛ 46 :1-2، 7؛ 47 : 12-15). فلا يبقى لهذه الأمم سوى أن تعود إلى الرب الذي يقدر وحده أن يخلّصها (45 :22-25). ولكن يجب أن نلاحظ أن اسرائيل يبقى الأول في اهتمامات النبي (لا نستبعد منه كل فكرة ثأر على مستوى الوطن)، الذي ينظر إلى مشاركة الأمم في الخلاص بشكل خضوع لاسرائيل وسيطرة اسرائيل (45 :14-15؛ 49 :22-23؛ 54 :2-3؛ 55 :4-5). وبدا "عبد الله" مكلّفًا بمهمة شاملة، على مستوى الكون (42 :1، 4، 6؛ 49 :6). ولكنها في الواقع لا تتعدّى مهمّة الشعب الشاهد. والشمولية عينها تلهم زكريا الثاني الذي أعلن، بشكل تعليم رجاء للعائدين الاولين، عودة الرب إلى أورشليم (زك 8 :3) التي ستصير المركز الديني لاسرائيل وللكون (8 :20-23). وسيصنع الخلاص من اسرائيل بركة للامم (8 :13) التي ترى أن "الله هو مع اسرائيل" (8 :23)، فتأتي في طلبه في أورشليم حيث يقيم (2 :15؛ 8 :22-23). ويعود إلى الزمن عينه إر 16 :19-21 الذي يعلن توبة الأمم. هذه المنظورات الكونيّة سوف تتأخّر في إش 60 :1-16؛ 61 :5-6 (تنسب إلى تلميذ إشعيا الثاني) حيث تصبح الأمم في خدمة اسرائيل، فتحمل إليه عملها وغناها. ثالثًا أدب ما بعد المنفى. كان تحقيق النبوءات تافهًا بالنسبة إلى إعلانها. فقرار كورش سنة 538 (عز 1 :1-4) لم يُعد جمهور المنفيين إلى فلسطين، ولا كان السبب في اهتداء الأمم أو عقابهم. فالعائدون أقاموا بصعوبة حول أورشليم. أعيد بناء الهيكل منذ سنة 515 (عز 5 :1 -6؛ 15)، ولكن أورشليم لن تستعيد أسوارها إلاّ بعد قرن من الزمن (نح 4 :10-17). وما عاد لمملكة اسرائيل من وجود. خضع اسرائيل على المستوى السياسيّ للفرس (ثم لليونان بعد سنة 333)، فأصبح جماعة دينيّة ستجد تنظيمها مع عزرا ونحميا. وهذه الجماعة التي عاشت مرارًا في ظروف صعبة، يحيط بها غرباء يقاومونها أو يحاولون ابتلاعها، وتلاقي المشاكل في حضنها، هذه الجماعة تعلّقت بتقاليدها الدينيّة الخاصة لكي تبقى على قيد الحياة : قواعد الطهارة و السبت (نح 13 :15-22)، اهتمام "بالنسل المقدّس" (عز 9 :2)، وهذا ما يجلب رفض الغرباء (نح 9 :2) ومنع الزواجات المختلطة (عز 9-10؛ نح 13 :23-29). ومحاولة الهلينة التي قام بها أنطيوخس الرابع ابيفانيوس (167 ق.م.) ستجعل هذه الخاصيّة تتحجّر في وسط الحسيديم الفلسطيني الذي سيجد امتداده لدى الاسيانيين و الفريسيين. ونجد هذه الخاصانيّة عند بعض الأنبياء الذين قدّموا جوابًا على خيبات الأمل بعد العودة من المنفى، بإعلان تدخّل أخير ليهوه، وهو تدخّل يتميّز بتدمير الأمم والخلاص النهائي لشعبه : عو، إش 24-27؛ 34-35 (رؤى إش)؛ يوء 4؛ وزك الثاني الذي يُفرد مع ذلك محلاً "لبقيّة الأمم" (زك 9 :7؛ 14 :16-18) التي صارت خاضعة للرب الملك (14 :9، 16، 17) وجاءت تكرمه في أورشليم، في عيد المظال. هذه النبرة الوطنيّة الغريبة في الحكمة التي تتوجّه إلى الجميع (أم 8 :4-8، 18)، سوف نجدها في سي 36 :1-17 (دوّن حوالى سنة 901 ق.م.)، في إطار فلسطيني من اللقاء مع الهلينيّة. وتوجّه دا إلى الجماعة التي يضطهدها أنطيوخس الرابع ابيفانيوس، فحدّد موقعه في المنظور عينه، معلنًا نهاية المضطهد (7 :8، 20، 26؛ 11 :21-45) وخلاص اليهود الأمناء (7 :21-22، 27) الذين سينضمّ إليهم الشهداء بفضل القيامة (12 :1-3). غير أن التيّار الشمولي ظلّ حاضرًا في بعض الأوساط. في يون الذي أرانا يهوه مهتمًا بأهل نينوى لأنهم أهل نينوى، لا لسبب آخر (4 :11). وفي را الذي عارض خاصانية جماعة عزرا ونحميا. وفي عدد من النصوص النبويّة (التي يصعب تحديد الزمن الذي فيه دوِّنت) شهادة عن الاهتمامات عينها (إش 19 :16-25؛ 25 :6-8) وعن قبول المهتدين إلى الله : رج إش 56 :1-7 الذي يفتح جماعة العبادة على الغرباء (كما على الخصيان، تث 23 :2-9) الذين قُبلوا في الهيكل بعد أن صار "بيت صلاة لجميع الشعوب"، شرط الأمانة للعهد (مع تشديد على السبت، إش 56 : 2، 4، 6). رج إش 66 :18-21 الذي يعطي الغرباء مهمّة الشهادة ( آ 19). ويستشفّ وصولهم إلى الوظائف الكهنوتيّة. عند طو، يترافق إعلان خلاص اسرائيل مع إعلان اهتداء الأمم (طو 14 :6-7). وقصة يهوديت اليهوديّة تستقبل في اسرائيل أحيور العمونيّ (14 :5-9؛ ق تث 23 :4-5). وأخيرًا، نذكر العالم اليهوديّ الاسكندراني الذي أعطانا السبعينية وأدبًا دفاعيًا يعرّف اليهود المهلينين واليونان المتعاطفين، مضمون إيمان اسرائيل وسموَّه (رسالة ارستيس؛ سيب؛ مؤلّفات فيلون). والشاهد الوحيد على هذا الانتاج الذي احتفظت به التوراة هو حك بنبرتها الكونيّة الشاملة التي لا شكّ فيها (11 :23-12 :2؛ 16 :7ب). تميّزت الاوساط الفلسطينيّة التقيّة برفض الوثنيين، عند عتبة المسيحيّة. ولكن كان موقف يهوديّ يتقبّلهم ويهتمّ بتقديم الخلاص لهم بفضل الرجوع إلى الديانة اليهوديّة. 2) العهد الجديد. هذا التيّار الشموليّ وجد كماله (تواصلَه وجدّته) في العهد الجديد وفي نهاية مسيرة طويلة. حدّد يسوع رسالته (مت 15 :24؛ مر 7 :27) ورسالة الاثني عشر (مت 10 :1-5) في "الخراف الضالّة من بيت اسرائيل". ولكنه امتدح ايمان قائد المئة (مت 8 :10)؛ والكنعانيّة (مت 15 :28؛ مر 7 :29) والأبرص السامريّ (لو 17 :15، 19)، وندَّد بلا إيمان اسرائيل الذي سيُستبعد من الملكوت (مت 21 :43) ومن الوليمة (13 :22-30)، فيترك المكان للغرباء الذين يؤمنون بكلمته. وخلال ظهوره الأخير، سلّم المسيحُ القائم من الموت رسلَه مهمّة اعلان الانجيل في الكون كله (مت 28 :19؛ مر 16 :15؛ لو 24 :47؛ أع 1 :8). والتبشير الذي بدأ في العنصرة، يتوجّه أولاً إلى اليهود، في أورشليم (أع 2 :14-36؛ 5 :42) حيث تُولد الكنيسة الأولى بالتوبة وروح المعموديّة والايمان (2 :37-41، 47؛ 6 :7). والاضطهاد (6 :8-8 :1) مع التشتّت الذي تبعه، يدلّ على بداية الانتشار الرسالي. بشَّر فيلبس السامرة (8 :4-8)، وكان بطرس في اللد ويافا (9 :32-42)، وعمّد، في قيصرية، كورنيليوس، خائف الله مع الوثنيين الذين في بيته (ف 10). وانطلق آخرون إلى أنطاكية حيث اهتدى عدد كبير من الوثنيين (11 :19-24). وعمل بولس المضطهِد المهتدي (9 :1-30) في هذه الرسالة مع برنابا (11 :25-26). وانطلق الاثنان من هناك في أول رحلة رسوليّة (13-14). توجّها أولاً إلى اليهود فلقيا بعض النجاح (13 :43؛ 14 :1). ولكنهما لقيا بشكل خاص المعارضة، وهذا ما دفعهما للتوجّه إلى الوثنيين (13 :14-15) الذين اعتنقوا الايمان بأعداد كبيرة (13 :48-49؛ 14 :1، 21-27). واهتداء الوثنيين هذا طرح أسئلة على الجماعة المسيحيّة الأولى الخارجة من العالم اليهودي (11 :1-18). أما يجب أن نجبرهم على أن يصيروا يهودًا على مثال المهتدين إلى اليهودية (15 :1، 5)؟ أما يجب أن نفرض عليهم الختان؟ سمعت جماعة أورشليم ما فعله بولس وبرنابا، وما قاله بطرس (15 :7-11)، فكان جوابها : لا يجب أن يُختنوا (15 :13-29؛ رج غل 2 :1-10). يكفي الايمان بيسوع. وسيقوم بولس، "رسول الانجيل لكرازة طاعة الايمان وسط الوثنيين" (رو 1 :1-15)، الذي عارض مرارًا المتهوّدين، بإبراز "سرّ" (رو 16 :26؛ 11 :25؛ أف 3 :5-6؛ كو 1 :26-27) خلاص الوثنيين. ما أنكر الرسول المكانة المميّزة لاسرائيل في تاريخ الخلاص (رو 1 :16؛ 2 :9-10؛ 3 :1؛ 9 :4-5)، وما فتئ يهتمّ بمصير شعبه (رو 10-11). لهذا كشف مخطّط الله الأبدي في أن يجمع كلَّ البشر في المسيح. ففيه لا يهوديّ ولا وثنيّ (رو 10 :12؛ 1كور 12 :13؛ غل 3 :28؛ أف 2 :11-14). كلهم يخلصون في الايمان بيسوع المسيح وعطيّة الروح، كلهم أبناء الله ووارثو المواعيد (غل 3 :26-29؛ رو 4 : 1ي؛ 8 :14-17؛ أف 3 :6).