1) العهد القديم. الذبيحة عمل طقسيّ يقوم بأن يتخلّى مقدّم الذبيحة للإله عن خير يمتلكه، وهو يتوخّى بذلك أن يقوم بواجب فرضه الله عليه (تك 22) أو فرضه هو على نفسه (عد 6 :14-21). وهو بذلك يطلب رضى الله وبركته (2صم 24 :18-25). يشكره عن خيرات نالها منه (1صم 6 :15-16). يكفّر بعطيّته عن خطيئة اقترفها (لا 4 :1-5 :13)، أو يريد أن يقيم مع الله علاقة خاصّة، في عهد سلام (خر 24 :4-8). فإذا وضعنا جانبًا "ذبح" (الذبح، النحر) التي هي لفظة تدلّ بعض المرّات على العبادة الذبائحيّة بشكل عام وغير واضح (2مل 10 :9)، فاللغة العبريّة لا تمتلك اسم جنس ينطبق بدون تمييز على جميع هذه الذبائح. إنّها تستعمل ست ألفاظ مختلفة تدلّ على الشكل الطقوسيّ للذبيحة مع لفظة إضافيّة تدلّ على خاصيّة كلّ ذبيحة. قيمة الذبيحة وثمنها. إنّ الذبائح المكلفة التي تتضمّن تقدمة من الحيوان، لم تكن في متناول الفقراء، بل في متناول الأغنياء الذين بدأت ثروتهم تتعارض بشكل فادح مع فقر الشعب الكادح، شعب الأرض، كما كانوا يسمّونه، وذلك انطلاقًا من القرن الثامن (هنا نتذكّر نبوءة عاموس). فالأنبياء (وحتّى الحكماء) الذين أرادوا المدافعة عن صغار القوم، ابتعدوا عن مبدإ المجازاة على هذه الأرض (أنت غني، إذن أنت بار. أنت فقير، إذن أنت خاطئ. وهكذا تنال جزاءك على هذه الأرض)، وشدّدوا على أنّ هذا التفاخر بكثرة الذبائح لا فائدة منه إذا تجاهلنا ممارسة الحقّ والعدل (إش 1 :11-17؛ إر 6 :18-20؛ 7 :21-24؛ هو 6 :6-10؛ عا 5 :21-25؛ مي 6 :6-8؛ أم 15 :8؛ 21 :3، 27). مقابل هذا، أبرزوا دور الطاعة لكلمة -الربّ (1صم 15 :22)، والمحبّة، ومعرفة الله (هو 6 :6)، وممارسة الحقّ والعدل (أم 21 :23)، وتتميم مشيئة الله (مز 40 :7،9)، وموقف روح متواضعة، موقف القلب المنكسر المتخشّع (مز 51 :18-19). وكانت الذبائح خاصّة وعامّة. فالغنيّ يقدّم ذبيحته. ولكن الملك يقدّم أيضاً ذبيحة باسم الشعب. وكذلك يفعل رئيس الكهنة. فهناك ذبائح علنيّة جديدة مثل المحرقات التي تحدّث عنها كتاب الطقس اليوميّ في الهيكل. وهناك ذبائح السلامة أو المشاركة. فذبيحة المشاركة كانت ذبيحة خاصّة، شأنها شأن الذبيحة التي تُؤكل في عيد الفصح. وذبيحة التعويض كانت أيضاً ذبيحة خاصّة. غير أن الذبيحة عن الخطيئة قد تكون خاصة أو عامّة. والذبيحة البشريّة (مثلاً، يذبح الإنسان ابنه كما يذبح حملاً من قطيعه كما أراد ابراهيم أن يفعل بابنه اسحق، وكما فعل حيئيل حين بنى أريحا، 1مل 16 :34) كانت ذبيحة خاصة. أما ذبيحة التأسيس التي لا نجدها إلاّ مرّة واحدة في التوراة فتعتبر عامّة. والذبائح اللادمويّة مثل تقدمة القمح والزيت وسكيب الخمر، فقد تكون خاصّة أو عامّة. وتبقى تقدمة البخور المذكورة في العهد القديم، التي تعبّر عن عبادة عامّة في الهيكل. 2) في العهد الجديد. إنّ لفظة ذبيحة (في اليونانيّة : تيسيا) لم تستعمل مرّات عديدة في العهد الجديد. نجدها 28 مرّة. 5 مرات في الأناجيل الإزائيّة. 5 مرات في الرسائل البولسيّة. مرّتين في أع. مرّة واحدة في 1بط. 15 مرّة في عب. وغابت لفظة "ذبيحة" كليًّا عن الأدب اليوحنّاوي. هل يعني هذا أنّ العهد الجديد أراد أن يستغني عن هذا البُعد الدينيّ الحاضر بكثافة في العهد القديم؟ وحتى الرسالة إلى العبرانيّين، فهي ما تحدّثت عن الذبائح التوراتيّة إلاّ لتدلّ على عدم جدواها. نشير هنا إلى أنّ كتّاب العهد الجديد يفضّلون عبارات أخرى مأخوذة من العهد القديم، مثل "حمل الفصح"،"دم العهد"، الذبيحة المقدّمة للتكفير... وكلّ هذا من أجل التعبير عن موت يسوع. إنّ الاستعمالات الخمسة للفظة "ذبيحة" في الأناجيل الإزائيّة، تعود إلى الذبيحة في العهد القديم، ولا تعني موت يسوع : تقدمة ذبيحة حين قدّم الطفل يسوع في الهيكل بحسب شريعة لا 5 :7؛ 12 :8 (لو 2 :24). وقد ذكّر يسوع أنّ العواطف الباطنيّة، مثل الرحمة، تفضّل على الذبائح (هو 6 :6؛ رج مت 9 :13؛ 12 :7). وأنّ محبّة الله والقريب تفوق "جميع المحرقات والذبائح" (عا 5 :21 ي؛ رج مر 12 :34). ويذكر لو 13 :1 ذبائح دمويّة قدّمها أهل الجليل. ونقول الشيء عينه عن أع 7 :41-42. أما فعل "تيو" في مت 22 :4؛ لو 15 :23، 27، 30؛ يو 10 :10 (رج أيضاً أع 10 :13؛ 11 :7)، فهو يستعمل للحمل الفصحيّ الذي يُذبح. وهذه الإشارة لا ترد بالصدفة، وهذا ما نراه حين نتحدّث عن يوحنا. ونذكر هنا أيضاً وجهة ذبائحيّة أخرى : تقدمة على المذبح (مت 5 :23-24) أو للكهنة بمناسبة شفاء من الأشفية (مر 1 :44 وز ). ولكن مع كل هذا، قدّم الإزائيّون آلام يسوع وموته كأنّها ذبيحة. فابن الإنسان جاء ليخدم ويبذل حياته فدية عن الكثيرين (مر 10 :45؛ مت 20 :28). هذا ما قاله يسوع. ففي العهد الجديد، لا تظهر لفظة فدية (ليترون) إلاّ هنا وفي 1تم 2 :6 (انتيليترون). تعود الفكرة بلا شكّ إلى إش 53 :11-12 وتدلّ على ذبيحة تكفيريّة. أمّا بولس فيتكلّم عادة عن "الفداء"، عن "الشراء" (اشتريتُم ودُفع الثمن)، ما عدا في 1تم 2 :6. ثمّ إنّ صورة عبد الله المتألّم (إش 52 :13-53 :12) التي تكتمل مع صورة البار المتألّم (مز 22)، فهي تكوّن خلفيّة خبر الآلام. وأخيرًا إنّ خبر تأسيس الافخارستيّا يُقدَّم في عبارات ذبائحيّة : لقد قدّم يسوع جسده ليؤكل ودمه ليُشرب، فاعتبر أنّه عمل الفصح الجديد. قدّم دمه على أنّه دم العهد الجديد، فعاد إلى عهد سيناء (خر 24 :8)، إلى العهد الذي أعلن الأنبياء تجديده النهائيّ (إر 31 :31-32). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تكلّم يسوع عن جسده المعطى، المبذول، وعن دمه المراق لمغفرة الخطايا. إذن، رأى في العشاء السرّيّ صورة مسبقة عن آلامه، رأى فيه ذبيحة تكفيريّة (مر 14 :22-25 وز؛ 1كور 11 :23-26). وماذا تقول الكتابات اليوحناويّة؟ في يو بدا يسوع كالراعي الصالح الذي يبذل حياته من أجل خرافه (10 :15). ويبذلها طوعًا (10 :18). ونلاحظ التشديد على حريّة يسوع أمام الألم والموت (13 :1؛ 18 :4؛ 19 :28). ولكن العودة إلى الحمل الفصحيّ هي التي تتيح بشكل أساسيّ للإنجيليّ بأن يقدّم موت يسوع على أنّه ذبيحة. فيسوع الحمل الفصحيّ الحقيقيّ مات في الساعة التي فيها تُذبح الحملان في الهيكل، حسب فرائض الشريعة (18 :28؛ 19 :14، 31. هذا حسب كرونولوجيا يوحنا). ثمّ إنّه لم يُكسر له عظم : هكذا تُراعى القاعدة المتعلّقة بالحمل الفصحيّ (يو 19 :36؛ رج خر 12 :46؛ عد 9 :12). هذا التقليد عرفه بولس (1كور 5 :7)، كما عرفه بطرس (1بط 1 :19) الذي ذكر الصفات الضروريّة لهذا الحمل : "بلا عيب ولا لوم" (رج خر 12 :5؛ لا 1 :3، 10؛ ق عب 4 :15؛ 7 :26؛ 9 :14). لم تكن ذبيحة الحمل الفصحيّ في الأصل ذبيحة تكفير، بل ذبيحة تكريس وتقديس (خر 19 :6؛ رج يو 17 :18؛ 1بط 2 :9؛ رؤ 5 :9-10). ولكن صارت كذلك فيما بعد بالنظر إلى العلاقة مع ذبيحة اسحق. وما يثبت هذا، هو نص يو 1 :29، حيث يقدّم المعمدان يسوع على أنّه "حمل الله الذي يرفع (ايراين) خطيئة العالم". يجب أن نقرّب هذا النصّ من يو 3 :5، ونقرأه في خطّ إش 52 :13-53 :12. عند ذلك نفهم ذكر "التكفير عن الخطايا" (1يو 2 :2؛ 4 :10، هيلسموس)، وذكر الدم المراق الذي ينقّي (1يو 1 :7؛ 5 :6؛ رؤ 5 :9 : 7 :14)، وصورة الحمل المذبوح (رؤ 5 :6-9؛ 13 :8). وهكذا يجب أن نحافظ على الوجهتين : وجهة التكريس والتقديس، ووجهة التكفير. والرسائل البولسيّة. ما اكتفى بولس بأن يعلن بوضوح في أف 5 :2 أنّ موت يسوع هو "ذبيحة لله طيّبة الرائحة"، بل ما فتئ يقول هذه الحقيقة بأشكال عديدة مستعملاً الألفاظ الذبائحيّة في العهد القديم، ومطبّقًا إيّاها على موت يسوع، ودالاًّ هكذا على التواصل مع التوراة وتجاوز التوراة في الوقت عينه. يسوع هو الحمل الفصحيّ (1كور 5 :7)، الذي جعل من الشعب المسيحيّ "إسرائيلَ الله" (غل 6 :16). ففي دمه المراق، قد خُتم العهد (الميثاق) الجديد (1كور 11 :25). وموتُه هو موت تكفيريّ. "إنّه هو الذي جعله الله كفّارة في دمه" (هيلستريون، رو 3 :25). إنّ لفظة "كفّارة" يجب أن تُفهم في معنى "غفران"، حلّ من الخطايا (رج حز 16 :63؛ مز 65 :4؛ 78 :38؛ 79 :9) بحسب النظرة اليهوديّة (رج عب 2 :17)، لا في معنى "تهدئة" الإله وخطب ودّه كما في العالم الوثنيّ. أما يقول بولس إنّ يسوع مات لأجلنا، لأجل خطايانا (1كور 15 :3؛ رو 5 :6، 8؛ أف 1 :7) ؟ أن دمه المراق قد نال لنا المصالحة (رو 5 :8-10؛ كو 1 :19-22)، والسلام مع الله ( كو 1 : 20)، وجعلنا قريبين منه (أف 2 :13)؟ وبمختصر الكلام، إنّ يسوع قد حمل بموته الخلاص، الفداء (رو 3 :24؛ 8 :23؛ 1كور 1 :30؛ أف 1 :7، 14؛ 4 :30؛ كو 1 :14). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يتردّد بولس في التكلّم عن موت يسوع بلفظة "الشراء" و"الفداء" (1كور 6 :20؛ 7 :23؛ غل 3 :23؛ 4 :5؛ تي 2 :14). إذا كانت هذه العبارة تدلّ على الطابع الثقيل لموت يسوع، فهي لا تتوخّى أن تقدّم لنا هذا الموت "كثمن قدّم للشيطان مقابل تحريرنا" كما قال لاهوت غربيّ وصلت آثاره إلينا. بل اعتبر بولس هذا الموت في شكله الإيجابيّ كتحرير من أجل عهد، كثمرة مجانيّة إلهيّة (رج خر 6 :6-7؛ تث 7 :6-8؛ حز 36 :21-26؛ مز 130 :7-8). فموت المسيح هو تقدمة حرّة وطوعيّة، ودلالة على حبّه للآب ولنا. "أحبّني وضحى بنفسه من أجلي" (غل 2 :20؛ رج 1 :4؛ أف 5 :2، 25؛ تي 2 :14). وفي الرسالة إلى العبرانيّين. إنّ موت يسوع في نظر عب هو ذبيحة (تيسيا، ترد 15 مرّة) سامية جدًّا، تحوّلٌ يربطنا بالله. أمّا جوهر البرهان فنجده في ف 8-10 ويمكن أن يلخّص في المعارضة التالية : تمّت الذبائح اليهوديّة (عطايا، تقدمات، ذبائح) في الخارج، وبحسب طقوس بشريّة (من لحم ودم). هي ذبائح العجول والتيوس (9 :9-10) فلم تفعل على مستوى الضمير (9 :9؛ رج 8 :7؛ 10 :4، 11). أمّا ذبيحة يسوع فهي تقدمة شخصيّة، وجوديّة (حياتيّة) (9 :14) بالروح الأبديّ (9 :14). لهذا، فهي تمنح التطهير (9 :14) والتقديس (10 :10، 14). إنّ موت يسوع هو تقدمة (5 :7؛ 9 :14، 25) تجعله وسيط عهد جديد (8 :6-13؛ 9 :15؛ 10 :16-18) في دمه الخاص (تلميح إلى الإفخارستيّا، 10 :19-20، 29؛ 13 :20). مات يسوع مرّة واحدة (10 :10، 12، 14)، فلم يتكرّر موته. أمّا الذبائح القديمة فتتكرّر باستمرار. كان موت يسوع فاعلاً بسبب طاعته (10 :5-9؛ رج مز 40 :7-9؛ 10 :10-14)، فاعلاً من أجل إخوته الذين تضامن معهم (2 :14-18؛ 4 :15؛ 5 :7-9). فوصل إلى ضمائرهم، ومحا خطاياهم، وقادهم هكذا إلى التمام، الى الكمال (تلايوسيس، 10 :1-18). ففي معنى قياسيّ واسع، صار المسيحيّ هو أيضاً معنيًّا بالذبيحة. وكاتب عب لا يهمل هذا السؤال. فذبيحة يسوع التي ألغت نظام الذبائح الطقوسيّة في العهد القديم، تعطي المؤمن "الدخول إلى المعبد" (10 :19)، وتتيح له هكذا أن يقدّم بفاعليّة لله "ذبيحة الحمد" (13 :15) و"الخير" (13 :16). ونظرَ بولس أيضاً إلى ذبيحة يسوع بالطريقة عينها : مُتنا عن الخطيئة وحيينا لله (رو 6 :13). فالمسيحيّون مدعوّون ليقدّموا ذواتهم "ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند لله" (رو 12 :1؛ رج 6 :13). وهذا الاستعداد بالروح نعبّر عنه في حياتنا الملموسة. نستطيع ذلك، بل يجب علينا. والمساعدة الماديّة التي أوصلها أهل فيلبي هي "تقدمة لله طيّبة الرائحة" (فل 4 :18). وحرّض بطرس بطريقته المؤمنين لكي يكونوا حجارة حيّة لبناء مسكن روحيّ... ليقدّموا ذبائح روحيّة يقبلها لله بيسوع المسيح (1بط 2 :5).