إلى أرض الموعد تبقى إقامة بني إسرائيل في أرض كنعان، إحدى المسائل التاريخيّة التي ما زالت مثارًا للجدل. فهناك معطيات جاءت من يش، تفهمنا أن كل شيء لم يتمّ بالاحتلال (يش 9)، وأن هذا الاحتلال لم يكن شاملاً أرض كنعان كلها (13 :1-6؛ 15 :13؛ 16 :10؛ 17 :12-13). بالإضافة إلى ذلك، فإن قض 1 الذي لا يذكر يشوع إلا في حاشية تدوينيّة (آ1)، يقدّم نسخة مختلفة جدًا عن الاحتلال، فنجد القبائل تقاتل كل بمفردها، فتقيم في الجبال دون أن تتوصّل إلى الإقامة في السهل (آ19، 34). ويُفرض عليها مرارًا أن تقيم مع الكنعانيين (آ21، 27-35). فعلى المؤرّخ أن يأخذ بعين الاعتبار كل هذه النصوص البيبليّة، التي هي مرجعنا الوحيد، ويقيّم شهادتها بالنقد الأدبي وتمحيص التقاليد. ومع ذلك، تبقى نتيجة بحثه غير أكيدة، فنبقى أمام الفرضيّات المختلفة. 1) دخول بشكل تسلّل. هذه هي الفرضيّة الأولى. يرى مؤرّخو التقاليد أن أولى إقامة القبائل في كنعان تمّت بواسطة تسلّل مسالم (عدا استثناءات محليّة). هم رعاة وأنصاف بدو أقاموا في مناطق غير مأهولة. ودامت هذه الإقامة فترة طويلة. وبدأ النزاع ساعة أرادت القبائل أن تقيم بشكل نهائيّ، أو أن تمتدّ على حساب المدن الكنعانيّة. فالاحتلال مع قائد حربيّ هو يشوع، صياغة لاحقة تدلّ عليها أخبار ايتيولوجيّة نجدها في يش. ولكن يبقى سؤال : هل الايتيولوجيا تستبعد بالضرورة كل أساس تاريخيّ؟ 2) دخول بشكل احتلال. هذه الفرضيّة تجد من يعارضها، رغم لايقين المراجع البيبليّة على المستوى التاريخيّ. فالشهادات الاركيولوجيّة تتيح لنا أن نؤكّد وجود احتلال (مع العلم أنه كانت إقامات سلميّة، وأن شهرة يشوع نسبت إليه انتصارات لم يَحُزها)، وأن نحدّد تاريخ هذا الاحتلال بين سنة 1250 وسنة 1200. فنحن نلاحظ في هذه الفترة، تدمير أهمّ المدن الكنعانيّة، ثم إقامة تدلّ على فقر الاحتلال، على ما في النصوص البيبليّة حول الاحتلال. فيعارض الآخذون بفرضيّة الاقامة المتدرّجة أن الاركيولوجيا لا تقول شيئًا عن أسباب هذه الدمارات ولا عن مسبّبيها. أما الاعتراض الأهم فيقدّمه أولئك الذين نقّبوا المواقع، فما تركت استنتاجاتهم موضعًا لاحتلال حدث في حقبة يفترض أن تكون حقبة يشوع. ما هو أكيد، هو أن حاصور قد دمِّرت في القرن 13 دون أن نعرف ذاك الذي دمّرها. 3) ثورة فلاّحين. وكان حلّ مبتكر في هذه الفرضيّة التالية : لم يكن أجداد اسرائيل أنصاف بدو تواجهوا مع الحضر، بل رعاة شاركوا في حياة القرية، في وجه المدينة (كما كان الأمر في اوغاريت). فما شكّل "احتلال كنعان" هجرة شعب جديد، بل ثورة فلاحين على مدن - دويلات كنعانية، وقد بدأت هذه الثورة بوصول أسرى أفلتوا من مصر، وجاؤوا إلى غرب الأردن، فاتحدوا في إيمان واحد بإله جديد هو يهوه، قد أقاموا معه عهدًا واعتبروه ملكهم. هذه النظرية التي تقدّمها الأركيولوجيا، لا تستطيع أن تستند إلى الشهادات البيبليّة. ولكن قد يكون حصل شيء مشابه في قبائل الشمال مع وصول مجموعة الخروج إلى فلسطين الوسطى. 4) دخولات متعدّدة. هذه هي الفرضيّة الرابعة التي تتحدّث عن أكثر من دخول إلى أرض كنعان. وقد لا نُجبر على استبعاد فرضيّة الاحتلال أو فرضيّة الإقامة المسالمة. فحسب قض 1 :1-20 (الذي يحتفظ بتقاليد من جنوب فلسطين)، دخلت عناصر متعددة (شمعونيون، لاويّون، مجموعة أصيلة من يهوذا)، وعناصر أخرى (الكالبيون، القينيون، القنزيون، اليرحمئيليون) ستُكوّن فيما بعد قبيلة يهوذا. دخلوا من الجنوب بشكل مسالم، إلى أن اصطدموا بالكنعانيين المقيمين في حرمة (عد 21 :1-3؛ قض 1 :17) أو حبرون (قض 1 :10-13). وهذا التغلغل الذي قد يكون امتدّ زمنًا طويلاً، قد انحصر في المنطقة الجبليّة (قض 1 :19)، دون أن يعبر خطّ الحصون الكنعانيّة (أورشليم، قض 1 :21؛ جازر، يش 16 :10؛ أيالون، قض 1 :35) التي فرضت على يهوذا أن يمتد نحو شفاله (زواج مع الكنعانيات، تك 38). مع وصول مجموعة موسى والانتصار على سيحون، أقام رأويين وجاد في شرق الأردن (عد 32؛ يش 13 :8-29). وحسب يش 2-9 الذي يرتبط بتقاليد معبد الجلجال، قاد يشوع جماعة راحيل، فعبروا الأردن، وأقاموا في فلسطين الوسطى. وقد يكونون انتصروا في أريحا (يش 2-6؛ 24 :11)، وفي جبعون (10 :1-5)، لا في الجنوب (10 :16-43)، ولا في عايّ (الخراب، منذ سنة 2400). إذا وضعنا هذه المعارك جانبًا، نقول إن المجموعة اقامت بطريقة مسالمة في جبل قليل السكان. وقد يكون هناك اتفاق مع الكنعانيين الذين أقاموا في البلاد (يش 9)، أو مع مجموعات سبقتهم إلى كنعان. هذه الإقامة قد تكون حصلت في نهاية القرن 13، وانحصرت في فلسطين الوسطى، أما السهل الساحليّ وسهل يزرعيل، فظلاّ في يد الكنعانيين. أما مجموعات الاخوّة في الشمال (زبولون ونفتالي : ليئة. اشير : زلفة. نفتالي : بلهة) التي لم تنزل أبدًا إلى مصر، فقد تكون تخلّصت من النير الكنعانيّ (يش 11). ومن المعقول أن يكون يشوع عرض الايمان اليهوي مع عهد شكيم (يش 24) على قبائل الشمال هذه التي لم تعرف يهوه لأنها لم تختبر مسيرة العبور والحياة في البريّة.