أولاً : مكانه بين الأسفار القانونيّة. سفر دانيال هو في السبعينيّة واللاتينيّة رابع الأنبياء الكبار (أش، إر، حز). أمّا في اللائحة اليهوديّة فهو بين الكتب التقويّة، في الفئة الثالثة من الأسفار المقدّسة (كتوبيم). لا نجد في النصّ الماسوري : صلاة عزريا (2 :25-45)، نشيد الشبان الثلاثة (3 :51-90) وبعض آيات اخباريّة عن نجاة الشبّان من النار (3 :24، 46، 50). وهناك خبران : خبر سوسنة (ف 13) وخبر بال والتنين (ف 14) لا نجدهما في النصّ العبريّ بل في السبعينيّة وتيودوسيون. زيدت هذه المقاطع فيما بعد. ومع هذا اعتبرهما التقليد الكنسيّ كلامًا ملهمًا. ثانيًا : لغة دا. هناك السفر القانونيّ الأول (ف 1-12). إنّه محفوظ في العبريّة ما عدا 2 :4ب-7 :28 الذي دُوّن في الآراميّة. قال بعض الشرّاح : دوّن دا كلّه في العبريّة، ثمّ نُقل إلى الأراميّة من أجل الشعب (لم يعد يفهم العبريّة). في أيام أنطيوخس الرابع ابيفانيوس، ضاع قسم كبير من النص العبريّ، فأكمل بالنصّ الأراميّ. ولكن لا يبدو أن 2 :4ب-7 :28 هو ترجمة. ثمّ إنّ عدد العبارات الأراميّة تدلّ على أنّ النصّ كتب كلّه في الأراميّة. ولهذا يقول شرّاح آخرون : دوّن دا في الآراميّة ونقل القسم الأكبر منه إلى العبريّة. وقال آخرون : نحن أمام مؤلّفين مختلفين. واحد(ف 1-6) دُوّن في الآراميّة، وآخر (ف 7-12) دوّن في العبريّة. وحين جاء من يجمع النصّين ترجم إلى العبريّة المقدّمة (ف 1-2) والوحي الأوّل في ف 7-12 إلى الآراميّة. ويمكن أن يكون شخص واحد كتب سفر دانيال كلّه. بدأ عمله في الآراميّة. وبعد ثورة المكابيّين والثورة الوطنيّة عاد إلى العبريّة. أمّا المقاطع اليونانيّة فدوّنت في الآراميّة أو العبريّة ونقلت إلى اليونانيّة. ثالثًا : تأليف الكتاب. يتألّف السفر القانونيّ من قسمين. الأوّل (ف 1-6) يرتبط بفنّ السيرة. الثاني (ف 7-12) يرتبط بالفنّ الجلياني (أو الرؤيويّ). فالأسلوب وطريقة معالجة الموضوع يدلاّن على أنّ القسم الأوّل ألّفه كاتب واحد، ثمّ جمع فصوله وأسبقها بمقدّمة (ف 1). أما في القسم الجلياني فيتكلّم دانيال نفسه. يروي للقارئ حلمًا (ف 7) وثلاث رؤى (ف 8، 9، 10، 12). إطارُ هذه الفصول هو رسمة للتاريخ العام حدّد ف 2 سماتهِ الجوهريّة. ويعتبر الكاتب الملهم أنّ هذا الخبر يتبع طريقًا إلى الانحطاط نتلّمسه في تعاقب ممالك أربع ستزداد قساوتها وكفرها. في ف 2 تبرز هذه الرسمة برمز تمثال مؤلّف من أربعة معادن مختلفة. تبدأ الصورة بالرأس وتنتهي بالرجلين. وحين ينزل الرائي من الرأس إلى الرجلين تخفّ متانة المعادن ونبلها. في ف 7 تأخذ الحيوانات رمز التعبير عن الفكرة عينها. ويعالج ف 10-12 الحقبة نفسها دون أن يعود إلى الصور فيكتفي بالتلميح المبهم. أما ف 9 فيحدّد زمن تطوّر التاريخ هذا. أما دا 13 (يو) (نجاة سوسن بفضل تدخّل واع من قبل دانيال الفتى) ودا 14 (يو) (الكشف عن كهنة بال وإفناء التنين) فهما نموذجان عن حرب اليهود ضدّ الوثنيّة. وقد وضعهما الكاتب بعد هذه الفصول، فلم يربطهما بسائر الكتاب إلاّ اسمُ دانيال. ونشير الى اختلاف بين النصّ اليونانيّ عند تيودوسيون وفي السبعينيّة. رابعًا : تفسير الكتاب. هناك آراء عديدة حول الممالك المختلفة. إذا عدنا إلى 2 :37 نرى أنّ الرأس الذهبيّ يمثّل مملكة بابل الجديدة التي نراها أيضاً في الأسد (ف 7). ان التيس في ف 8 يمثّل المملكة الهلينيّة (آ21). وبسبب التقارب مع القرن الصغير (7 :8؛ 8 :9) والوقاحة الكبرى (7 :8، 20، 25؛ 8 :9-11،5) ومعارضة شعب القدّيسين (7 :21، 8 :10ي) وتدنيس الهيكل (7 :25؛ 8 :11ي)، نقابل بين هذا الحيوان والوحش الرابع الذي لا اسم له في ف 7 ومع ساقَي الحديد في ف 2. إنّ القرن الصغير يمثّل أنطيوخس الرابع. ويبرهن على هذا مقابلة الآيات التي تعنيه مع الصورة الموجودة في 1مك 1-2، ومقابلة 8 :9-14 مع 11 :21-45 (ق 11 :41 مع 8 :9؛ ق 11 :36ي مع 8 :10ي و2مك 9 :10؛ ق 11 :31 مع 8 :11؛ ق 11 :21 مع 8 :23)، حيث الملك الذي لا اسم له هو أنطيوخس الرابع. إذًا آخر أسبوع لنبوءة السبعين أسبوعًا من السنين في ف 9 ينطبق على حكم هذا الملك. أما هويّة المملكة الثانية والمملكة الثالثة، فمن الصعب أن نتعرّف إليها. بما أن المملكة اليونانيّة جاءت بعد المملكة الفارسيّة (11 :2 ي)، من الممكن أن يكون الكاتب الملهم رأى في المملكة الثالثة مملكة فارس. وبما أنّه يجعل بين آخر ملوك بابل وأوّل ملوك فارس ملكا مادايا (رج 6 :1، 29 وتسلسل التواريخ في 8 :1؛ 9 :1؛ 10 :1)، فمن المعقول أن تكون المملكة الثانية هي مملكة ماداي، وأن تكون مملكة فارس جاءت بعد مملكة ماداي، فهذا ما يفترضه 8 :3 حيث القرن الكبير (مملكة فارس) يرتفع في النهاية. ويتثبّت نظامُ التسلسل بواقع يقول إن التاريخ كان ينظر بهذه الطريقة إلى تسلسل الممالك الشاملة : أشورية (حلت محلّها بابلونية في دا)، ماداي، فارس، مكدونية. هذا رأي. وهناك رأي آخر يجعل التسلسل على النحو التالي : بابلونية، ماداي، فارس، الاسكندر الكبير، خلفاء الاسكندر، السلوقيون. يسمّى هذا التفسير "النظام اليونانيّ"، ويمثّله افرام وكوسماس انديكوبلوسيس ويتبعه عدد كبير من الشرّاح. وهناك "النظام الروماني" الذي يمثّله 4 عزرا (كان عارفًا أن ليس هذا هو التفسير التقليدي) : المملكة الرابعة في ف 7 هي المملكة الرومانيّة. الثالثة : اليونانيّة. الثانية : ماداي وفارس. خامسًا : متى دوّن دانيال؟ انطلق الرأي التقليديّ لدى اليهود والمسيحيّين من صيغة المتكلّم في الرؤى، فاعتبر أنّ بطل الكتاب هو مؤلّف الكتاب. ولكننا أمام أسلوب أدبيّ. ثمّ إن وجود الكلمات الفارسيّة العديدة يدلّ على أنّ دا دوّن بعد سبي بابل بزمن طويل. ونجد كلمات يونانيّة في 3 :5 (القيثارة، المزمار، والكنارة)، وهذا ما ينقلنا إلى الزمن الهلينيّ. هذا في ما يخصّ القسم الأرامي. أمّا مضمون القسم العبريّ (وهو جلياني) فيقودنا إلى زمن التأليف نفسه. ثمّ التشديد على شخص أنطيوخس الرابع والتفاصيل المذكورة تجعلنا نفكّر أن الكاتب عاش في عصر أنطيوخس الرابع. وما يُثبت هذا الرأيَ هو الدقّة في تصوير زمن السلوقيّين واللاجيّين (أو البطالسة) في 11 :5-39 بينما يبتعد 11 :40-45 عن سيرة الأحداث التاريخيّة ويوضع على مستوى التصاوير الرمزيّة لأحداث مستقبليّة، وهذا ما نجده عند أنبياء القرنين الثامن والسابع (مثلا : إش 10 :27-32). كل هذا يجعلنا نقول إن دا 1-12 يعود إلى زمن أنطيوخس الرابع. وهذا ما يفسّر لماذا لم يدخل دانيال مع الآباء الذين امتدحهم سي 44-49 المكتوب حوالي سنة 180 ق. م. هذا لا يمنع أن تكون هناك تفاصيل قديمة أدرجت في متن الكتاب. سادسًا : الفنّ الأدبيّ. إنّ استعمال كلمات مأخوذة من العالم الحكميّ يدلّ على أنّ دا وُلد في محيط الحكماء. إن دا 1-6 ينتمي إلى فنّ الاخبار الحرّ الذي يهدف إلى التعليم. هذا الفنّ وُلد في القرن الخامس (رج أحيقار). أدخل الكاتب في مؤلّفه مادّة تاريخيّة مهمّة (عوائد العصر)، ولكنه لم يهتم بتاريخيّة الأمور. هنا نفهم الأخطاء التاريخيّة مثل ملك بلشصر، وذكر ملك ماداي بين نبونيد وكورش، وعبادة الملك كورش. لم يُرد الكاتب أن يشدّد على التفاصيل التاريخيّة التي هي عناصر ثانويّة في إطار مؤلّفه الجليانيّ. ثمّ تنتمي ف 7-12 إلى الفنّ الجليانيّ المعروف، وقد انتشر انتشارًا واسعًا بين القرن الثاني ق.م. والقرن الثالث ب.م. يئس الكاتب من ممالك بشريّة تسير بلا مقاومة حسب مسيرة انحطاطيّة، فرأى فيها قوى معارضة للدين وانتظر الخلاص الآتي من العليّ : يوم يهوه الذي ترافقه كوارث كونيّة سيحمل الدينونة والعقاب لكلّ أعداء الشعب المختار الذي سينال مُلك الأبد. وهناك ظاهرة إخفاء الاسم في الفن الجلياني. ينسب الكاتب إيحاءاته إلى شخص من الماضي : اخنوخ، موسى، باروك. وهنا : دانيال البطل الذي عاش في التقليد وصار شعبيًّا بفضل أخبار دانيال (ف 1-6) المنشورة سابقًا. سابعًا : لاهوت الكتاب ألّف قسمَي الكتاب يهودٌ عاشوا في أيام أنطيوخس الرابع القاتمة، فبحثوا عن جواب لأسئلة تقلقهم وتضايقهم. تصدّى دانيال لإشعاع الآلهة اليونانيّة فدافع عن إله اسرائيل الذي يمسك بيده ملك العالم. إنّ لله مخططا : هو يوجّه مسيرة التاريخ نحو إقامة مملكة الله (ف 2،7). وهذه المملكة لن تكون نتيجة لجهود شعب إسرائيل كدولة (لا ينتظر دا من ثورة المكابيّين تجديد القداسة. رج 11 :34). إنّها عطيّة من فوق، ويرمز إليها تنصيب صورة ابن الإنسان السرّيّة (7 :13ي). ويسبق مجيء هذه المملكة اليتوقراطيّة زمن أزمة (آلام المسيح)، وتدشّنه قيامة قسم من الموتى : بعضهم يقوم للحياة (جزاء الشهداء على استحقاقاتهم) والآخرون للعار (عقاب الأشرار لخطاياهم التي لم تنل عقابها) (2مل :1-4). ما هي طبيعة هذه المملكة؟ هذا ما لا يوضحه النصّ (9 :24). وسننتظر العهد الجديد لنكتشف المعنى الكامل لهذا الكتاب.