حسب التوراة، نزل بنو يعقوب إلى مصر، في زمن يوسف، وأقاموا فيها. وبعد إقامة قيل فيها أنها كانت طويلة (تك 15 :13؛ خر 12 :14)، عرف نسلهم العبوديّة ولكنهم بعد ذلك عرفوا تحرّرًا عجيبًا يؤسّس إيمان اسرائيل "على الربّ الذي أخرجه من مصر". وهكذا نتوقّف عند قسمين : الإقامة في مصر، التحرّر من العبودية. أولاً : الاقامة في مصر (تك 37 :39-48 :50). ماذا يقول الخبر البيبلي؟ إن يوسف، ابن يعقوب وراحيل (تك 30 :22-24)، قد باعه إخوته عبدًا في مصر (تك 37). وبعد بدايات صعبة (يوسف وامرأة فوطيفار، يوسف في السجن، تك 39-40)، توصّل يوسف (الذي نجح في كل شيء، تك 39 :2) إلى أرفع وظيفة في البلاط المصريّ. صار يوسف الوزير الأول في مصر، فخلّص البلاد من المجاعة (تك 41 :33-56) ووهبها سياسة زراعيّة (تك 47 :13-26). وأتاح له مركزه الرفيع، وهو الأخ الحنون، أن يخلّص عائلته من الجوع ويؤمّن لها إقامة في مصر (تك 42 :47) في أرض جاسان (تك 47 :4، 6، 27)، في أرض رعمسيس (تك 47 :11). هناك توفّي يعقوب (تك 47 :28-31) بعد أن تبنّى ابنَي يوسف (تك 48). ولما عاد يوسف واخوته إلى أرض كنعان لكي يدفنوا فيها أباهم (تك 50 :1-3)، رجعوا بعد ذلك إلى مصر ليعيشوا فيها (تك 50 :14). وينتهي الخبر بغفران يوسف لإخوته، وهو غفران يستخرج العبرةَ من هذا الخبر (تك 50 :19-20). ويُذكر موتُ يوسف وهو بعمر 110 سنوات (تك 50 :22-26، مثال مصري). كما تُعلن العودة إلى أرض الميعاد (تك 50 :24-25). وماذا يقول التاريخ عن الخروج؟ إن خبر يوسف (المرجع الوحيد المباشر ) في موقعه داخل البنتاتوكس، يؤمّن الانتقال من زمن الآباء إلى الخروج الذي منه يولد اسرائيل بقبائله الاثنتي عشرة. غير أن خبر يوسف يبدو مختلفًا جدًا عن أخبار الآباء (تك 12-36)، وقد كان له، على ما يبدو، وجود مستقلّ قبل أن يدرجه المدوِّن في نهاية خبر يعقوب. يعتبره مجمل الشرّاح "حكاية" وقصّة صغيرة بُنيت بناء محكمًا مع البطل والعقدة. وهكذا جاء هذا الخبر قريبًا من تعليم الحكمة. وهو يُنسب عادة إلى كاتب عاش في زمن سليمان. ولكن لا شيء يمنع أن يكون كُتب فيـما بعد (يعني دُوّن وأعيد تدوينه ربما بعد المنفى). كما لا يمكن أن ننطلق من "لونه المصري" لنجعله خبرًا قديمًا جدًا. لا شك في أن الخبر يدلّ على معرفة كبيرة بمصر، ولكن المعلومات التي فيه لا تتعدّى ما يعرفه حكيم يعيش في بلاط سليمان. وهذا التأليف الأدبي (الذي يستلهم مواضيع لااسرائيلية، مثلاً خبر الاخوين القريب من تك 39 :7-20) ليس كله اختراعًا. فهناك تفاصيل تدلّ على أن الكاتب مزج خبرين ليوسف : يوسف، ابن اسرائيل (تك 37 :4، 13) الذي دافع عنه يهوذا (37 :26-27) وبيع للاسماعيليين (37 :25-28) الذين اقتادوه إلى مصر حيث اشتراه رجل مصري (37 :28-36). ويوسف، ابن يعقوب (37 :34) الذي دافع عنه رأوبين (37 :21-22) واختطفه المديانيّون (37 :28-36) الذين باعوه لفوطيفار. هذان الخبران في شكلهما المرتبط بفلسطين الجنوبيّة (اسرائيل - يهوذا) وقلب فلسطين (يعقوب، رأوبين) يعودان إلى تقليد قديم ارتبط ببيت يهوذا وربّما بعشيرة ماكير التي اتخذت اسمها من جدّها الذي بيع في مصر (37 :28؛ 45 :5، رج فعل "م ك ر" العبري الذي يعني اشترى). لا تبرهن الوثائق المصريّة على خبر يوسف، ولكنها تعطيه طابعًا معقولاً. كانت الدلتا المصريّة نقطة الاتصال مع آسية، وقد عرفت عددًا من هجرات البدو إليها طلبًا للمراعي. كما عرفت اجتياحات كان أهمها اجتياح الهكسوس الذين حكموا شمالي مصر قرنين من الزمن (1720-1550). وتتحدّث هذه الوثائق عن هذه التسلّلات الأسيوية وعن محاولات الفراعنة لمراقبتها منذ نهاية الألف الثالث (نشو 416ب؛ 441أ؛ 442أ). وحسب نبوءة نيفرتي، بنى أمينيميمس الأول (1991-1962) "جدار (أو سور ) الأمير" ليوقف زحف الاسيويين الذين كان يُسمح لهم فقط بعبور ليسقوا قطعانهم (نشو 446أ). واللوحة التي على مدفن كنوم حوتف في بني حسن، تدلّ على وصول (على أيام سيوستريس الثاني، حوالي 1890) 37 بدويًا يقودهم رئيسهم إبشا ( أبي شار )، فسجَّل دخولَهم أحدُ الكتبة (نشو 229أ؛ حشو 3). وذُكر اسيويون عديدون في وثائق السلالتين الثانية عشرة والثالثة عشرة. كانت هذه التسلّلات في ايام الهكسوس، وبعد أيامهم. وفي نهاية القرن 14، عاد السوريون إلى التقليد وطلبوا الدخول إلى مصر "لكي ينجوا بحياتهم"، فنالوا أرضاً لا يتجاوزونها (مدفن حورمحب). في أيام منفتاح (1224-1204) سجّل أحد الضبّاط على الحدود : "أنهينا عمليّة عبور "شاشو أدوم" بقلعة منفتاح التي هي في تاكو، نحو محطات فيتوم... لكي نحفظهم في الحياة هم وقطعانهم" (نشو 259أ). ونعرف أيضاً أن الفراعنة استعملوا، منذ المملكة الوسيطة (2030-1720) موظّفين آسيويين. وكثُر عدد هؤلاء الموظفين في أيام الهكسوس. ولكن معلوماتنا ضئيلة عن تلك الحقبة. وبالرغم من طرد الهكسوس، نجد ساميّين في خدمة الفراعنة، في المملكة الحديثة، مع السلالة السابعة عشرة (1552-1310) والتاسعة عشرة (1310-1184) والحادية والعشرين (1184-1070). في أيام سيتي الأول ورعمسيس الثاني تلقّى عدد من الغرباء (ومنهم الساميّون) تربية مصريّة من أجل وظائف رسميّة. وبعض هؤلاء الاسيويين تسلّموا وظائف رفيعة جدًا. فهناك شخص اسمه "توكو" (وُجد قبره في العمارنة) نال لقب "الفم الرفيع" في كل البلاد، وذلك في بلاط امينوفيس الرابع. وفي الوقت عينه، قام ساميّ آخر اسمه "ينحانو" (يُذكر مرارًا في رسائل تل العمارنة) بوظائف هامّة في فلسطين. أما "بن أزن" الذي كان من شمال شرقيّ الاردن، فنال اسمين مصريين : "المنادي الاول" في أيام رعمسيس الثاني ومنفتاح. وكلِّف مع الوزير الأول بأن يهيِّئ مدفن منفتاح. وحسب بردية "هاريس"، استفاد سوري اسمه "إرسو" من القلاقل (نشو 260أ) في نهاية السلالة التاسعة عشرة (حوالي سنة 1200) فأعلن نفسه أميرًا، وأخضع البلاد له، ومارس وصاية على المملكة خلال طفولة "سفتاح" الفرعون الاخير في هذه السلالة. اذن، يبدو من المعقول أن يكون خبر يوسف (مع الاخذ بعين الاعتبار الفن الادبي وإبراز البطل في وجه مثاليّ) قد احتفظ بتذكّر تاريخي : شاب عبري اسمه يوسف، وصل إلى مركز عالٍ في مصر، فساعد اخوته على الاقامة معه. ولكن يستحيل علينا أن نحدّد زمن مجيء يوسف ومجموعته إلى مصر، أو أن نصوّر هذا الزمن. فنحن أمام عنصر بسيط يدخل في ظاهرة متشعّبة. يبدو أن المؤرّخين تركوا الكلام عن "نزول" العبرانيين إلى مصر، وهو نزول ارتبط بتحركات الهكسوس، فعاد إلى زمن تل العمارنة، وظنوا أننا أمام أكثر من دخول (وخروج) لبعض مجموعات تشكّل ما سيصير شعب اسرائيل (بعض القبائل لم تنزل أبدًا إلى مصر) في أرض مصر، وهذا على مدى قرون عديدة، منذ اجتياح الهكسوس حتى زمن الخروج. أما تقديم خبر يوسف في حقبة كوّنت فيها القبائل شعبَ اسرائيل، فهو نظرة لاهوتيّة، شأنها شأن تقديم الخروج وسيناء والاحتلال، حيث ارتبط الخبر بكل اسرائيل (مع أنه لم يكن في الأصل كذلك). فالرب حرّر من مصر، أخرج من مصر، كلّ اسرائيل، القبائل الاثنتي عشرة. واسرائيل كله قد دخل إلى مصر مع يوسف، في أجداده الاثني عشر الذين منحهم الرب أن ينموا نموًا عجيبًا أمانة لمواعيده (خر 1 :1-7). ثانيًا : التحرّر من العبودية (خر 1-15). ونبدأ بالخبر كما في البيبليا. أقام نسل يعقوب في مصر، وكثروا جدًا (خر 1 :1-7). فجاء فرعون جديد "لم يعرف يوسف" (1 :8) فاستعبدهم (1 :9-22). أراد موسى أن يأخذ على عاتقه قضيّة شعبه، ولكن محاولة التحرير الأولى انتهت بالفشل. فأجبر على الهرب إلى مديان (2 :1-22). حينئذ تدخّل ا، وكان قد بدا غائبًا من التاريخ منذ الآباء، فدعا موسى وأرسله إلى فرعون طالبًا إطلاق العبرانيين (2 :23-4 :17). فعاد موسى إلى مصر. ولكن تدخّله كان فشلاً (4 :18-6 :1). فتثبّت موسى في رسالته (6 :7-7)، ورافقه هرون، فعاد إلى فرعون وحاول أن يقنعه بعدد من المعجزات (7 :8-10 :29 هي ضربات مصر). ولكنها انتهت بتصلّب الملك وبقطع المحادثات (10 :28-29). بعد هذا الفشل الجديد، قرّر ا أن يضرب الضربة القاضية (11 :1-12 :30). ففي ليلة الفصح، ضرب الربّ جميع الأبكار في مصر، فطرد الفرعونُ العبرانيين طردًا سريعًا من مصر (12 :31-34، 37-39). فوصلوا إلى البحر (13 :17-14 :4). ولكن لحق بهم الجيش المصري. غير أن ا خلّصهم بتدخّل عجيب (ف 14-15). وماذا يقول التاريخ؟ هذا الخبر البيبلي (هو المرجع الأدبي المباشر الوحيد) يجد وراءه خبرًا أدبيًا (بل قبل أن يدوَّن) متشعبًا (سفر الخروج). نقطة الانطلاق تقاليد قديمة جدًا قد احتفظت بتذكّرات عن الخروج. وهناك اتفاق عام حول تاريخية الوقائع الجوهريّة : الانطلاق من مصر، بقيادة موسى، لجماعة من الساميّين كانوا هناك عبيدًا. وهذه الخبرة التي عاشوها كانت حاسمة بالنسبة إلى إيمان اسرائيل. غير أن استنتاجات تاريخ التقاليد تبقى غير أكيدة من أجل إعادة تكوين الحدث. فظروف الخروج من مصر، قد عاشها الشعب تحرّرًا عجيبًا، خلاصاً منحه الرب. وهذه الوجهة هي التي حُفرت في الذاكرة فاحتفظ بها التقليد وأنشدها في طقوسه واحتفالاته. وسقطت التفاصيل الملموسة (التاريخية، الجغرافيّة) في عالم النسيان. وما احتُفظ من الحدث إلا بما يميّز إيمان اسرائيل : "مأثرة" من مآثر يهوه الذي حرّر اسرائيل من مصر. يستشفّ المؤرّخ واقعًا أكثر بساطة وأكثر تشعبًا. وإن هو حاول أن يقدّم عنه رسمة سريعة، تكون الفرضيات والتخمينات كثيرة. إن الوثائق المصرية لا تقدّم أيّة معلومة مباشرة عن هذا "الحدث المفتاح" في تاريخ اسرائيل، الذي كان في تاريخ اسرائيل واقعًا عاديًا باهتًا (هرب مجموعة من العبيد). ولكنها تكشف عالمًا تبدو فيه المعطيات البيبليّة معقولة. (1) هناك مجموعات من اسرائيل المستقبل قد دخلوا إلى مصر وخرجوا منها في أوقات من الالف الثاني. (2) إن فراعنة السلالة الثامنة عشرة أعادوا إلى مصر قوّتها، فطردوا الهكسوس (حوالى سنة 1550) وأكّدوا سلطانهم على سورية ولبنان وفلسطين : امتدّ تحوتمس الأول حتى الفرات (سنة 1500). وقام تحوتمس الثالث بحملة على كنعان (1468). وبعد أزمة العمارنة (القرن 14)، استعاد الفراعنة (السلالة التاسعة عشرة، القرن 13) سياستهم في آسية : سيتي الأول، رعمسيس الثاني الذي بنى مواقع عسكريّة في الدلتا الشرقي (خر 1 :11)، وقام بحملة على الحثيّين (معاهدة 1270 التي تركت لمصر المنطقة الجنوبيّة في لبنان)، منفتاح الذي قاد حملة إلى كنعان سنة 1220، عُرفت بمسلّة نجد عليها لائحة بالشعوب المقهورة مع شعب "اسرائيل" (دون أن نعرف ما تدلّ عليه هذه اللفظة). (3) ويبدو أن الاركيولوجيا تعرّفت إلى بعض مواقع الخروج : مدينة رعمسيس الثاني هي على ما يبدو قنطير الواقعة على الذراع الشرقيّة للنيل، لا تانيس (صوعن، واليوم، صان الحجر) التي ستحلّ محلّها في نهاية السلالة العشرين. فيثوم (خر 1 :11) : لم يحدّد موقعها بدقة (تل الرطابة أو تل المسخوطة) هي في وادي طوميلات. بعل صفون (خر 14 :2-9) هو جبل كاسيوس (راس كسرون)، على الشاطئ الشمالي لبحيرة سربونيس. أما متى حدث الخروج؟ فهذا ما لا نستطيع أن نحدّده بيقين. هناك من جعله في القرن 15. مع السلالة الثامنة عشرة المصرية التي طردت الهكسوس، والتي انحطّت في زمن العمارنة (القرن 14) فسمحت لهم بالإقامة في كنعان. وقد تسند التوراةُ هذه الفرضية، وهي تقول إن هيكل سليمان شيِّد في السنة 480 للخروج من مصر (1مل 6 :1). ولكن هذه الكرونولوجيا تبدو مصطنعة، لأنها تجعل الهيكل الأول في مسافة متساوية (12 جيلاً من عظماء الكهنة، 1أخ 5 :30-41) بين المعبد الأول في البريّة والهيكل الثاني. مثل هذا التاريخ لا يسنده إلا عدد قليل من الشرّاح يجعلون الخروج في عهد تحوتمس الثالث، حوالى سنة 1470. ولكن مجمل الشرّاح الحاليين يجعلون الخروج في القرن 13، مع السلالة التاسعة عشرة : سيتي الأول (1309-1290). رعمسيس الثاني (1290-1224). إن بناء مدينة رعمسيس (خر 1 :11) التي هي "في رعمسيس"، قد شيّدها رعمسيس الثاني، ولكن زال اسمها من الوثائق المصرية منذ منتصف القرن 12. غير أن خبر بنائها ينتمى إلى التقاليد القديمة في الخروج. والمسيرة في البرية (عد 20 :14-21؛ 21 :4، 26) التي تفترض وجود مملكتي أدوم وموآب اللتين تكوّنتا في القرن 13 (تك 36 :31-39)، قد تسند هذا القول. فالعودة إلى الاركيولوجيا الفلسطينية التي تجعل احتلال كنعان في القرن 13، تبدو مثار جدل (رج يشوع). فحسب هذه الفرضيّة، يتحدّد زمنُ بداية الضيق في أيام سيتي الأول وفي بداية مُلك رعمسيس الثاني. أما الخروج فيأتي في أيام رعمسيس الثاني. ولكن هذا التاريخ لا يلغي إمكانيّة انطلاقات سابقة. من المعقول أن تكون هناك عدّة "خروجات" من مصر (ودخولات عديدة إلى كنعان) نجد تذكّرًا لها في تقاليد الخروج (هناك الطرد : خر 12 :29-32؛ والهرب : 14 :5) ومسيرته (12 :37؛ 13 :20؛ 13 :17-18؛ 14 :2). كل هذا دمجه اسرائيل في إجمالة لاهوتيّة، في الخروج الموسويّ، الذي منه وُلد شعب ا. فهناك عناصر من اسرائيل المستقبل (مجموعات ليئة) طُردت من مصر، خلال ردّة الفعل على الهكسوس، فجاءت في طريق الشمال ووصلت إلى منطقة قادش. بعد ذلك، هربت عبر الجنوب الشرقيّ، وبقيادة موسى، عناصرُ أخرى (مجموعات راحيل). استُعبدت فما وجدت حلاً لوضعها، فعاشت معجزة البحر، التي هي أساس إيمان اسرائيل. هذه الفرضيّة تحصر بشكل بارز وُسع مجموعة الخروج. فمهما يكن من أمر الحواشي اللاهوتيّة في 1 :7 (مرجع كهنوتيّ) و 1 :9 (مرجع يهوهي)، يبدو أن العبرانيين كانوا دومًا أقليّة في مصر (التي كانت تعدّ ثلاثة ملايين). ومجموعة الخروج كانوا من الرعاع (12 :38) لا شعبًا مرصوصاً للقتال (12 :37 : 600000 رجل حرب وعائلاتهم. هذا يعني مليونين أو ثلاثة ملايين من المهاجرين) تستحيل قيادته في الصحراء وتأمين الحياة له. أما العبودية (خر 1) فتعود إلى المملكة الحديثة وبالأخص في عهد رعمسيس الثاني الذي بنى في الدلتا المدن من أجل المؤن (1 :11) الضرورية لتأمين عمليّاته العسكريّة في آسية. هذه الاقليات الاسيويّة كانت تشكّل خطرًا (خر 1 :9-10) في الأزمات، وذلك بسبب أصلها وأهمّيتها في هذه المنطقة. وهذا ما يفسِّر سياسة الفرعون تجاهها. خضعت لأعمال السخرة (1 :8-14؛ 2 :11؛ 5 :6-14)، وتماهت مع عابيرو، أسرى الحرب الذين استعملهم رعمسيس الثاني من أجل أشغاله. هؤلاء الرعاة الذين دخلوا بحرّية إلى مصر، شعروا بوضعهم وكأنه عبوديّة، فتاقوا إلى استعادة الحياة الحرّة في الصحراء. ونفهم أيضاً أن يكون المصريون حاولوا أن يحتفظوا بهذه اليد العاملة، وعارضوا ذهابهم. هناك من تساءل حول دور موسى التاريخيّ. ولكن يبدو أن الخروج لا يُفهم بدونه. وسيكون من الصعب دومًا أن نكوّن وجهه التاريخيّ دون العودة إلى ما تحمله التقاليد. ولكننا نستطيع أن نعتبر أنه تربّى في البلاط المصريّ (فاقتنى المعارف، وكانت له علاقات ستفيده فيما بعد) لخدمة سياسة فرعون الاسيويّة. بهذه الصفة أرسِل إلى الدلتا الشرقيّ، فرأى عبوديّة اخوته، وأراد أن يمسك قضيّتهم بيده (2 :11-15). ومزج خبر الخروج من مصر نسخات مختلفة للحدث. (1) حسب اليهوهي، خرج العبرانيون بسرعة من مصر (12 :33-34)، وتوجّهوا (كما في تطواف عظيم، 12 :37-38) من رعمسيس (قنطير ) إلى سكوت (ربما تاكو في وادي الطوميلات)، وذهبوا من هناك إلى إيتام (مجهولة) على حدود البرية. علم فرعونُ بهرب العبرانيين (14 :5أ، 6)، فانطلق في إثرهم. (2) وتحدّث الالوهيمي (13 :17-19) عن الاسرائيليين الذين كانوا مجّهزين، منظّمين (آ18). حملوا عظام يوسف (آ19)، ولم يأخذوا طريق الفلسطيين، بل طريق الصحراء (أضيفت هنا عبارة "البحر الاحمر"). ندم المصريون حين رأوهم يذهبون (14 :5ب، 7). فوصلوا إليهم "وهم خارجون برأس مرفوع" على شاطئ البحر (14 :8ب، 9أ). (3). لم يحدّد المرجع الكهنوتيّ (14 :1-4) الطريق الأولى التي أخذها العبرانيون، ولكنه أشار إلى تبدّل في الطريق. لقد أمر يهوه بني اسرائيل أن يعودوا أدراجهم ويخيّموا أمام "فم الحيروث" (مجهول) بين مجدل (مجهول) والبحر. وهناك سيتمجَّد الربّ على حساب المصريين، تجاه بعل صفون (الجهة الشمالية لبحيرة سربونيس). (4) واستعادت لائحة كهنوتيّة متأخّرة المراحل في البرية (عد 33 :1ي)، فذكرت جميع هذه الاسماء (آ5-8) في مسيرة إلى سيناء، مرّت فترة بجانب البحر الاحمر (آ10-11). (5) ذكرت جميع التقاليد البحر، ولكنها لم تُتح لنا أن نتعرّف إليه. فالمرجع الكهنوتي الذي يشير إلى بحيرة سربونيس (14 :2) لا يتوافق مع اليهوهي، ويبدو بعيدًا عن الالوهيمي (13 :17-18). وتسمية بحر القصب أو البحر الاحمر (يم سوف) (يم سوف، 15 :4، 22؛ تث 11 :4؛ يش 2 :10؛ 4 :23؛ 24 :6؛ نح 9 :9؛ مز 106 :7، 9،22؛ 136 :13-15)، لا تتيح لنا أن نحدّد المكان. بعضهم تحدّث عن "فا سوفي"، الذي هو بحيرة منزله. ولكن قد نكون أمام البحيرات المرة أو بحيرة بلاّح أو تمساح. إن التسمية البيبليّة "بحر سوف" ملتبسة بالنسبة إلينا، فتدلّ في مكان آخر على خليج السويس (عد 33 :10-11) أو خليج العقبة (عد 14 :25؛ 21 :4؛ تث 1 :40؛ 2 :1؛ 1مل 9 :26؛ إر 49 :21) (بحر القصب). إذن، بدت المعطيات البيبليّة مجزّأة وغير أكيدة من أجل بناء مسيرة الخروج من مصر. فهناك عناصر تقودنا إلى طريق الشمال (الكهنوتي)، وأخرى إلى طريق الشرق (اليهوهي والالوهيمي) مع امتداد نحو سيناء. هذه الاختلافات تُفهم أفضل ما تُفهم إذا كان هناك أكثر من خروج من مصر. فبجانب الذين خرجوا، هناك مجموعات طُردت من مصر طردًا (خر 6 :1؛ 11 :1؛ 12 :31، 33، 39) فسارت في طريق الشمال التي يراقبها المصريون. وهربت مجموعة موسى نحو البرية. ولكن ما عتّم أن لحق بها المصريون، فعاشت معجزة البحر. وتبقى معجزة البحر، قمّة مآثر الربّ من أجل اسرائيل. نحن نعرفها عبر خبر ملحميّ (خر 14)، وعبر نشيد يعود إلى الزمن الملكي (ف 15) وان تجذّر ربّما في الوقت الذي تمّ فيه الحدث. استند الشرّاح إلى تفاصيل الخبر، فقدّموا الشروح العديدة : استفاد العبرانيون من الجزر الذي جعلته ريح الشرق مؤاتيًا جدًا. ولكن مركبات فرعون غرقت فيه (وقد نزيد العاصفة والمطر، مز 77 :17-19) حين عاد المدّ. وتحدّث آخرون عن الرمال المتحرّكة، عن تحرّك أمواج البحر، عن زلزال (مز 141 :7). ولكن إلى أي مدى تنتمي هذه التفاصيل إلى الحدث أو إلى تقديمه تقديمًا ملحميًا؟ قبل أن نعطي رأينا، نلاحظ أن خر 14 يمزج مزجًا حميمًا طريقتين مختلفتين جدًا في تقديم معجزة البحر. (1) حسب الأولى والتي تبدو الأقدم (وقد نكون في المرجع اليهوهي)، عمل ا وحده. خاف الهاربون حين اقترب المصريون، فصرخوا إلى الرب (آ10). هدّأ موسى روعهم ودعاهم إلى الإيمان بالربّ الذي سيفعل (آ13-14) : "الرب يحارب عنكم وأنتم لا تحركون ساكنًا". ما قال النص إن اسرائيل عبر البحر، بل شهد انتصار الربّ على المصريّين (آ19 :20، 21ب، 24-25، 27ب ح، 28ج، 30). فالمنظار هو ذاك الذي نجده في نشيد موسى (15 :1-18، من الواضح أن عبور البحر ألغي، فزيدت عليه إضافة تدوينية نثريّة نقرأها في آ9)، ونشيد مريم (15 :21) كما في تث 11 :4؛ يش 24 :7. (2) حسب الطريقة الثانية (تعود إلى المرجع الكهنوتي)، عمل موسى باسم ا (الذي يريد أن يتمجّد على حساب المصريين، 14 :4، 17-18). مدّ موسى يده على البحر فشقّه (آ15، 16، 21أ، 1أ) بحيث عبر بنو اسرائيل كأنما على أرض يابسة (آ22، 29)، ثم أغلق البحر على المصريين الجادين في اللحاق بهم (آ23، 26، 27أ، 28أ ب). يبقى أن نحدّد أصلَ هذه النسخة الثانية وهدفها. إن هاتين الطريقتين المختلفتين في تقديم الحدث بطابع ملحميّ، تدلاّن أنه من العبث أن نحاول إعادة بناء حدث البحر. لا يستطيع المؤرّخ إلاّ أن يستنتج بكل بساطة : وُجد الفارون في وضع ميأوس منه. خلِّصوا في ظروف بدت لهم وكأنها تدخّل عجيب من قبل ا. وعملُ الخلاص هذا ثبّت إيمانَهم با (خر 14 :31) فصار بندًا أساسيًا من بنود الإيمان للذين ارتبطوا بعبادة يهوه.