الوحدانيّة، الإيمان بإله واحد. يقابل "المونوتاويّة" أي الديانة التي تؤمن بإله واحد، فتنفي الشرك وتعدّد الآلهة وعبادة الأصنام. التوحيد هو الاعتقاد بالله الواحد، وعبادته دون أي إله آخر. فالتوحيد بطابعه المانع يتميّز عن "الهينوتاويّة" والمونولتريا : هذان الخطّان يقرّان بالإله الواحد، ولكنهما لا ينكران وجود آلهة أخرى. الديانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة هي ديانات توحيديّة. أمّا المزديّة فليست بتوحيديّة نقيّة لأنّها تعبد إلهًا ساميًا جدًّا، اهورا مزدا، ولكنّها لا تتبرّأ من عناصر ثنائيّة. كأن هناك إلهًا آخر تجاه هذا الإله العليّ. ماذا يقول العهد القديم؟ لم يكن الاعتقاد التوحيدي في شكل واحد في إسرائيل. هنا نميّز بين توحيد خالص قالت به بعض الأوساط المحدّدة، والديانة الشعبيّة التي امتزج فيها التوحيد مع أعمال السحر والشعوذة وسائر العادات التي أخِذت من الشعوب المجاورة. ونبدأ مع ديانة الآباء، ابراهيم واسحق ويعقوب. قبل موسى، عبد الآباء الله في أسماء مختلفة ولا سيّمَا : ايل، الوهيم، يهوه (ربّما قد يكون بدأ مع موسى الذي أخذه من قبيلة مديان وحملّه معنى جديدًا). أما إيل فقد رافقه اسم آخر : عولم أي إله الأبد (تك 21 : 33). رؤي أي الاله الذي رأى، الذي ظهر (تك 16 : 13). وهناك بيت إيل، بيت الله (تك 2 : 12-22). وإيل عليون أي الإله العليّ (تك 14 : 18-20). إيل شداي أي إله الجبال أو الإله الشديد (تك 17 : 1؛ 35 : 11). وإن اسم شداي هو حسب خر 6 : 3، اللقب الذي به كشف الله عن نفسه للآباء. ونلاحظ أيضاً العلاقة بالأشخاص : إله ابراهيم (تك 24 : 22، 27). إله اسحق (تك 46 : 1، 3). إله أبيك (تك 49 : 25). إله آبائك (خر 3 : 13). قدير (ادير) يعقوب (تك 49 : 12). رعب أو قريب اسحق (تك 31 : 42، 53). لا يفسَّر تعدّد الأسماء هذا في معنى يدلّ على تعدّد الآلهة. فالعهد القديم يقابل عبارة "إله الآباء" بعبارة "سائر الآلهة" (تث 29 : 24-25؛ قض 2 : 12). هي طريقة تعبّر عن التواصل من جيل إلى جيل، وعن ضرورة الطاعة والأمانة لربّ الشعب. فقدرة هذا الإله وسلطانه لا ينحصران في مكان واحد (تك 18 : 25) ولا في مجموعة واحدة (تك 12 : 33) ولو اعتبر الغريب أن هذا الإله هو خاصّ بإسرائيل، ولو لم ينكر العبرانيّون وجود آلهة أخرى في مجموعات غير مجموعتهم (تك 31 : 35). ويشهد على الطابع الأخلاقيّ لهذا الإله، وعلى سلطانه ومحبّته الأبويّة، أخبارٌ عديدة من سفر التكوين وأسماء قديمة ترتبط بالله مثل اسماعيل (الله يسمع)، اسرائيل... وننتقل إلى العالم الموسويّ. لقد لعب موسى دورًا هامًّا جدًّا في توسّع التوحيد. فإله الآباء (خر 3 : 13-15) كشف عن نفسه لموسى باسم يهوه، بالإله الذي هو الإله الحقيقيّ (لا كالآلهة الكاذبة)، الذي يُظهر نفسَه من خلال عمله (خر 7 : 27. يخلّص شعبه). فالله حين خلّص بني إسرائيل من مصر، جعل من هذا الشعب خاصته (خر 19 : 5) أو عروسه (هو 2 : 16؛ إر 2 : 2؛ حز 16 : 8-14)، وعقد معه عهدًا (خر 24 : 3-8؛ 34 : 1-35). هكذا صار شعبُ اسرائيل شعبَ الله، شعبًا موحَّدًا يلتئم حول يهوه كما حول راية بها يرتبط بنو إسرائيل بالرب، حول تابوت العهد الذي يضمّ الوصايا العشر. فحين حرّر يهوه بني اسرائيل من النير المصريّ، دلّ على أنّه الإله الحيّ (تجاه الأصنام التي هي آلهة مائتة، لها عيون ولا ترى). وهو يتصرّف كشخص حرّ، كالإله المتعالي (خر 15 : 18؛ 19 : 6؛ عد 23 : 21)، كسيّد شعبه وسيّد البشر جميعًا. وبالأحداث المدهشة التي رافقت "التوقيع" على عهد سيناء (خر 19 : 9، 12-16)، كشف الله عن نفسه أنه الله القدوس والرهيب. مثل هذه الديانة نستطيع أن نعتبرها توحيديّة، وإن كانت أخبار خر لا تنكر بشكل واضح وجود آلهة أخرى (خر 15 : 11). وما كان دور الأنبياء في مجال التوحيد؟ كان التقليد قد جعل بجانب موسى بعض ظواهر الانحطاط مثل عبادة العجل الذهبيّ (خر 32). وبعد احتلال كنعان، أخذ بنو اسرائيل بحضارة المدن الفلسطينيّة، وأخذوا أيضاً بالنظم الدينيّة والعباديّة التي وجدوها في البلاد. عبدوا الربّ كالإله الوطنيّ، والرباط الرئيسيّ بين قبائل مشتّتة. ولكنّهم عبدوا أيضاً بعل وعشتار (في كنعان) ثم آلهة الفينيقيّين والأشوريّين والبابليّين (قض 2 : 11-13؛ 3 : 7؛ 1مل 14 : 22-24؛ 16 : 31-34؛ 2مل 21 : 2-7). وهكذا وُلدت ديانة شعبيّة تلفيقيّة لم يستطع إصلاح حزقيا وإصلاح يوشيا أن يقتلعاها. فاحتجّ الأنبياء بشدّة على هذه الانحرافات. ووضع إيليا الشعب أمام خيارين لا ثالث لهما : يهوه أو بعل (1مل 18 : 21). ونقل عاموس الجدال على مستوى العدالة التي هي نتيجة التوحيد الحقيقيّ (عا 3 : 2؛ 5 : 8؛ 7 : 4؛ 8 : 9). وشدّد هوشع بشكل خاص على علاقة الحبّ بين الرب وشعبه (هو 3 : 1؛ 11 : 1). بعد ذلك، صارت عبادة آلهة أخرى بمثابة زنى وخيانة العروس لعريسها (هو 2 : 2-5). واعتبر أشعيا الثاني أن يهوه هو وحده الاله الحقيقيّ. وهكذا ما اكتفى بأن يُنكر سلطان سائر الآلهة، بل أنكر وجودهم أيضاً (إش 40 : 19-20؛ 41 : 7؛ 44 : 9-20 لا إله سوى الإله الواحد). فالأصنام لا قدرة لها لأنّها صُنعةُ صانع (إش 2 : 8، 20). وحارب إرميا عبادة الأوثان بقوّة وعنف. واستلهمت كرازة الأنبياء التوحيد بكل ما فيه من خلوص وصفاء. وعى الأنبياء أنهم لا يحملون تعليمًا جديدًا، فاستندوا إلى الوحي الذي وصل إلى الشعب في زمن موسى. واعتبروا ذاك الزمن زمن العلاقة المثاليّة والكاملة مع الربّ، زمن الحبّ الأول بين الله وشعبه (إر 2 : 2؛ حز 16 : 3-14؛ هو 2 : 14-24). وانتهى قتال الأنبياء ضدّ هذا الوضع إلى الحديث عن البعد الشامل لإيمان إسرائيل، وذلك كجواب جديد على مسألة عبادة الأوثان ومحاولة التوفيق بين عبادة الله وعبادة الآلهة. إن سلطان يهوه يمتدّ إلى جميع الشعوب، وهو يستطيع أن يفعل من أجل خلاصهم (إش 7 : 18-20؛ 8 : 7-10؛ إر 46-47). وقد توخّت التحريضات النبويّة العودة إلى عمق التقوى وشعائر العبادة : مراعاة العهد والصدق مع متطلّباته (إش 1 : 17؛ 11 : 9؛ هو 6 : 6؛ عا 5 : 21-24؛ مي 6 : 8). ونصل إلى المزامير والأدب الحكميّ. دخل تعليم الأنبياء في جميع أسفار العهد القديم التي جاءت بعدهم. وهكذا وجدنا نفوسنا أمام مزامير عديدة وأسفار حكميّة تُنشد يهوه، خالقَ السماء والأرض (يه 9 : 5؛ 16 : 14؛ أي 38؛ مز 8؛ 96 : 10؛ أم 8 : 23-30؛ حك 9 : 1-3؛ سي 24 : 3-8). فقدرة الله وعظمته وقداسته وتعليمه الأخلاقيّ، كل هذه أمور يُقرّ بها الجميع (مز 40 : 7-10؛ 50 : 14-15؛ 51 : 17-18؛ 69؛ 93؛ 95 : 3-5). لا وجود لإله خارج يهوه (مز 96 : 5؛ 97 : 7). ولكن حتى في الكتب التي تؤكّد بقوّة عقيدة التوحيد، عقيدة الإله الواحد الذي لا إله سواه، فنحن نجد عبارات تدلّ كأن الكاتب يقبل بوجود آلهة أخرى (تث 14 : 9؛ مز 95 : 3؛ 96 : 4؛ 97 : 7، 9). هذا القول الذي يطرح سؤالاً، يفسَّر بوجود الأصنام في أوساط تتعدّد آلهتها، أوساط تحيط بشعب اسرائيل. فالتوحيد ليس مدلولاً يعيش خارج الزمن، بل هو موضوع تفكير وحياة بالنظر إلى محيط تاريخيّ وظروف واقعيّة. وهكذا يبدو التوحيد يقينًا حين لا يطرح الشعب بعدُ مسألة وجود آلهة أخرى. ويصبح عنصرًا يُجادَل فيه في مناخ تتعدّد آلهته أو تتركّز عبادته في موضع واحد. في هذا الإطار نفهم غيرة الله التي تشبه غيرة المحبوب. كما نفهم أن التوحيد في أرض اسرائيل ليس نتيجة نهج فلسفيّ تطوّر مع الزمان، بل نتيجة اختبارات عاش منها الشعب والأفراد فأوصلوا عقيدة التوحيد إلى المسيحيّة وإلى الإسلام. وأخذ العهد الجديد بعقيدة التوحيد من العهد القديم، فاستند إلى كلمات تث 4 : 35؛ 6 : 4 (رج مر 12 : 29، 32). وبحسب أع 14 : 15، حضّ بولس الوثنيّين في لسترة على الاهتداء إلى الاله الحيّ وترك الأصنام الباطلة. فهذه الآلهة المزعومة ليست بإله (غل 4 : 8؛ رج رو 1 : 23، 25؛ 11 : 33-36؛ 1كور 8 : 4-6؛ 1 تم 6 : 16؛ يع 2 : 19؛ عب 11 : 6).