يحدّد التفسيرُ التاريخيّ النقديّ بأنه مجمل محاولات تتوخّى تفسير النص البيبلي بعد أن تحدّد موقعَه في سياقه التاريخيّ. وإذ أخذ بالخيار النقدي (النقد هو الحكم على صحّة نصّ، على قيمته)، فهو يستند إلى العقل، وبالتالي يبتعد عن قراءة "البسطاء" ويصدّق كل شيء عن عدم خبرة وكل قراءة تقليديّة سواء ارتبطت باللاهوت الرسميّ في العالم اليهوديّ، أو بالكنائس المسيحيّة. وإن كان لا يعتبر أنه يستطيع الوصول إلى موضوعيّة تامّة، فهو يحاول أن يقترب من هذه الموضوعيّة باللجوء إلى مناهج مأخوذة من العلوم البشريّة. وإذ أخذ هذا التفسير بالخيار التاريخيّ، أراد أن يكتشف قدر الإمكان ما حاول الكاتب الملهم أن يقوله، وهو الذي عبّر عن فكره في إطار عصره الحضاريّ وبالنظر إلى وضع ملموس. ويعتبر آخر، أن التفسير التاريخيّ النقديّ يهتمّ ببداية النص وتطوّره، بمجمل الوقائع التي عملت على تكوينه. وهو هكذا يتميّز عن التفسيرات البنيويّة وغيرها التي لا تنظر إلاّ إلى النصّ الحالي وبنيته وجماليّته ومضمونه اللاهوتي، دون التوقّف عند أصله وجذوره. مثل هذا التفسير يدرس التوراة كوثيقة تاريخيّة وكشهادة عن فكر مؤمن حمل هذه الشهادة. ما هي أساليب التفسير التاريخيّ النقديّ، وما هو تاريخها؟ ليس التفسير التاريخيّ النقديّ أسلوبًا بالمعنى الحصري للكلمة، بل هو يتعامل مع عدّة أساليب قد عرفت تطوّرًا ونمت انطلاقًا من وجهات مختلفة، فكمّل الواحد الآخر. وها نحن نقدّم هذه الأساليب في ترتيب ليس ترتيب استعمالها الملموس. (أ) النقد النصوصيّ. يتوخّى تثبيت النصّ كاملاً أي في الحالة التي وُجد فيها في نهاية مسيرة تكوينه. وذلك بمساعدة شواهد محفوظة في المخطوطات، في الترجمات القديمة، في الاستشهادات الكتابيّة. ويتوخّى عملُ النقد النصوصيّ أن يحصل على طبعة مبنيّة على الأصول. وفي ما يخصّ البيبليا، هذه المهمّة صعبة جدًّا بسبب العدد الكبير من الشواهد. على سبيل المثال هناك 5000 مخطوط ونيّف للعهد الجديد. (ب) النقد الأدبي الكلاسيكي. يحاول أن يجيب على سؤالين : هل الوثيقة التي بين أيدينا قد صيغت بشكل موحّد؟ هل يمكن أن نحدّد أصلها؟ فإذا أردنا أن نجيب على هذين السؤالين، يدلّنا النقد الأدبيّ أولاً على سمات يُقدّمها تفحّصٌ دقيق للنصّ نفسه : عناصر متضاربة أو لا تتوافق مع بعضها البعض داخل هذا النص. وقفات في السرد. تكرارات تظهر في أشكلة مختلفة. قد يُعاد النصّ ذاته مرّتين مع اختلافات في التفاصيل أو تباعدات أهمّ. في بعض الحالات، نستطيع أن نتساءل : هل نحن أمام الخبر عينه؟ وقد نلاحظ تكرارات عديدة داخل النصّ عينه بحيث نستطيع أن نعيد بناء نصّين كاملين ومتوازيين (في تك 6-8 نجد النص اليهوهي عن الطوفان والنصّ الكهنوتي). وأخيرًا، نستطيع أن نكتشف داخل النصّ الواحد موضوعين يبدوان في الظاهر متعارضين (مثلاً، وجود شجرتين في وسط الجنة في تك 2 : 9؛ 3 : 3). وقد نجد في النصّ خروجًا عن القياس في الإيقاع الشعريّ، أو مقاطع نثريّة داخل قصيدة، كما في قول نبويّ أو مزمور. وقد تُستعمل ألفاظٌ مختلفة للدلالة على أمر واحد (مثلاً، اسم الله : يهوه، الوهيم. هذا ما اكتُشف منذ القرن الثامن عشر في تك). وهناك استعمال الألفاظ والجمل. فقد نجد تعابير خاصة بعصر من العصور أو وسط من الأوساط. وهناك اختلافات في النظرة الدينيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والقانونيّة والاجتماعيّة. وتكتمل هذه الملاحظات المتنوّعة بمعطيات تأتي من خارج النصّ. معطيات التاريخ الذي يرتبط بناؤه جزئيًّا بتحليل البيبليا الأدبي وإشارات تقدّمها الأركيولوجيا وعلم الاجتماع. وهكذا قد يُبرز التاريخُ أمورًا تحتوي مغالطة تاريخيّة. كما أننا لا نستغني عن التاريخ لكي نحدّد موقع النصوص في محيطها. وهناك مقابلة مع نصوص بيبليّة أخرى، ونصوص لابيبليّة. إن قراءة الهيروغليف المصري (منذ سنة 1822) والمسماريّة الأكاديّة (منذ سنة 1875)، ساعدتنا على اكتشاف أدب شرقيّ غنيّ جدًّا، تبدو بعض نصوصه قريبة من البيبليا. مثل خبر الخلق (انوما إليش)، الطوفان (ملحمة غلغامش)، المجموعات التشريعيّة (شرعة حمورابي). وقد كمّل هذه الوثائق في القرن العشرين نصوصٌ سومريّة واكتشافات في أوغاريت وماري وإيبلا... أما بالنسبة إلى العهد الجديد، فقد جاءنا رفد حاسم من دراسة الأدب اليهوديّ واللابيبليّ القديم : تقاليد الرابينيين، كتابات فلافيوس يوسيفوس وفيلون الاسكندراني، نصوص الاسيانيين في قمران والغنوصيين في نجع حمادي. ودراسة السبعينيّة كقراءة ثانية للتوراة العبريّة، والتراجيم الأراميّة، قدّمت هي أيضاً إسهامًا كبيرًا في دراسة العهد الجديد. كل هذه الملاحظات وهذه المقاربات، يجب أن تفسَّر بفطنة وتمييز. فالطابع غير المتماسك لنصّ من النصوص، يمكن أن نشرحه بطرق عديدة : تقليد شفهي في خلفيّته. استعمال مرجع مكتوب. إعادة الصياغة الأدبيّة. ثمّ إنه ليس لسمة تؤخذ وحدها، قيمةٌ مطلقة. وعدد من السمات المتلاقية قد تعطي درجة عالية من المعقوليّة. فبما أنّ المسألة متشعّبة جدًّا في أغلب الأحيان، وبما أنّ العناصر مرتبطة بعضها ببعض، نعمل بطريقة تجريبيّة، مبنيّة على الملاحظة والاختبار، مستندين إلى المعطيات الأكيدة لكي نبني فرضيّة إجماليّة نعود فنتحقّق من تفاصيلها ونعمّمها. وبعد أن قدّمنا المبادئ، نتساءل : كيف نطبّقها بشكل عمليّ؟ مثل هذا النمط من النقد، قاد الشرّاح إلى أن يتخلّوا عن القراءة التقليديّة. فمعظم الأسفار البيبليّة هي مركّبة من عدّة عناصر. وقد جاء تدوينها الأخير أحدث ممّا كنا نتصوّر في الماضي. ولقد مارس النقدُ عملَه بشكل خاص في البنتاتوكس مع النظريّة المراجعيّة وامتداداتها. وفي الأناجيل الإزائيّة مع المسألة الإزائيّة. وفي سائر أسفار البيبليا. فالنقد الأدبيّ للأسفار النبويّة اهتمّ بفرز الأقوال "الصحيحة" التي تعود إلى النبيّ نفسه، من مواد أخرى جاءت من منابع مختلفة. وقد اعتُبرت هذه العناصر "اللا صحيحة" في الماضي، كأنها بلا أهميّة. ففي إشعيا مثلاً، نميّز عادة ثلاثة أقسام. فمنذ سنة 1775 نسب دودرلاين ف 40-66 إلى "إشعيا الثاني"، إلى نبيّ نجهل اسمه قد مارس رسالته في بابل في نهاية حقبة الجلاء. وتحدّث دوم سنة 1892 عن "إشعيا الثالث" الذي يتضمّن ف 56-66. وضمّت ف 1-39 مواد كثيرة لا تعود إلى إشعيا مثل "رؤيا إشعيا" (من 24-27). وبالنسبة إلى إرميا، ميّز موفنك كل أربعة أنماط من المواد : أقوال إرميائيّة في صيغة شعريّة (المرجع أ). أخبار نثريّة منسوبة إلى باروك (مرجع ب). أخبار نثريّة منسوبة إلى المدرسة الاشتراعيّة (مرجع ج). المواعيد (مرجع د). وفي ما يتعلّق بالمجموعة البولسيّة، سعى النقد الأدبي إلى تحديد موقع كل رسالة (يبدو أن 2كور تألّفت من أكثر من "رسالة" ضمّت إلى بعضها) في سياق حياة بولس والجماعات التي كتب إليها. "دوّن" بولس 1تس، 1-2كور، فل، غل، فلم، روم. و"دوّن" تلاميذه 2 تس، كو، أف، 1-2تم، تي. وهكذا برز دور "المدرسة البولسيّة". (ج) التاريخ التكويني والفنون الأدبيّة. ما هي مبادئ التاريخ التكويني (أو تاريخ تكوين النصوص) ؟ إنه يستند إلى حصيلة النقد الأدبيّ، ويهتمّ بالتقاليد الشفهيّة التي سبقت تدوين النصوص. ينطلق من وحدات نصوصيّة بسيطة (خبَر قصير، مثَل) فيتفحّص الشكل الأدبي، وهذا ما يساعد على تحديد الفنّ الأدبيّ للمقطوعة، والموقع الجماعي الملموس الذي دخلت فيه. هذا ما يُسمّى المحيط الحياتي. ينطلق هذا البحث من فرضيّة تقول برابط بين فنّ أدبيّ معيّن والوضع الذي وُلد فيه هذا الفن. ويتوخّى، عبر نصوص خالصة، أن يعيد بناء التاريخ العام للأشكال والفنون الأدبيّة. ويتأسّس نهج التاريخ التكويني على ملاحظة أمور ثابتة في الفنون الأدبيّة. ففي عدد من المقطوعات نجد بنية مشتركة نكتشفها بفضل مشاهد تقطع الخبر، بفضل وصلات (مقدّمة، خاتمة)، باستعمال عبارات نموذجيّة أو إيقاع شعريّ مميّز. إذن، من الممكن أن نرتّب الوحدات الأدبيّة في عدد من الأسر تخضع لقواعد ضمنيّة : هذا ما نسمّيه الفنون الأدبيّة التي نجدها أيضاً في آداب الشعوب المجاورة. وهذا ما يثبت النظريّة. كل فن أدبيّ يتجذّر في محيط حياتي أي في وضع جماعي، في إطار اجتماعيّ، حضاريّ، نظميّ أو دينيّ محدّد. غير أن الرباط لا يكون آليًّا، لأنّ فنًّا أدبيًّا معيّنًا قد يكون "جُلب" إلى سياق جديد. وتحديدُ المحيط الحياتي يفترض دراسة للنصوص ومعرفة كافية بالتاريخ الحضاريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والعلميّ والدينيّ في إسرائيل، في الكنيسة، في الشرق القديم. وفي ما يتعلّق بقراءة النصوص، فالأسئلة المطروحة هي التالية : من يتكلّم؟ إلى من يوجّه كلامه؟ ما هو الهدف الذي يتوخّاه من خطابه؟ في أي مناخ يتكلّم؟ إلى أي أوضاع (داخل المؤسّسات) يلمّح؟ وقد عرفت الفنون الأدبيّة تطوّرًا نستطيع أن نرسم تاريخه عن طريق الفنون اللابيبليّة القريبة. ونعتبر بشكل عام أن أقدم الفنون الأدبيّة هي أبسط الفنون وأكثرها استقلاليّة. وإنّ عددًا كبيرًا منها يعود في شكله البسيط إلى إلتقليد الشفهيّ. وفي التاريخ اللاحق، قد يكون فنّ انضمّ إلى آخر في فنّ أدبي فشكّل إطارًا أوسع مثل "الليتورجيا" أو "دورة الاخبار". وفي خط هذا البحث، نجد "التاريخ التسليمي" أو "تاريخ تسليم النص الشفهي". هو يدرس المرحلة القبل أدبيّة، المرحلة التي تسبق ولادة نصّ من النصوص، فلا يتوقّف عند الفنّ الأدبي بحدّ ذاته، بل عند كلّ من القطعات الخاصة، المواضيع، عند تقديم الأشخاص. إذن، مركز اهتماماته هو المضمون قبل أن يكون الشكل. والحالة الأبسط هي تلك التي يكون فيها ذات العنصر الأدبي موضوع نسختين مستقلّتين (مثلاً، الصلاة الربيّة، الأبانا، في كل من مت ولو). والمقابلة المتنبّهة بين نصيّن تتيح لنا مبدئيًّا أن نجد شكلاً مشتركًا (يكون بسيطًا جدًا على العموم) انطلق منه التقليد وتطوّر في اتجاهين مختلفين. غير أن النصّ البيبلي لا يتضمّن في حالات عديدة سوى نسخة واحدة للتقليد (أي النصّ الذي تسلّمه، الذي وصل إليه). فيبقى على المفسّر أن يكتشف النتوءات البارزة في النصّ، أي العناصر التي لا تتوافق مع السياق الحاليّ، بل تلعب دورها في سياق سابق. لا شكّ في أنّ مثل هذا البحث الذي نقوم به بكثير من الفطنة، لا يصل بنا دومًا إلى نتائج واضحة. وقد يغشّنا وجودُ نصوص موازية في بعض المرات : ففي وضع يرتبط فيه نصّ بآخر، لا نستطيع دومًا أن ننطلق من المقابلة لنعيد بناء الجذر المشترك لتقليد وصل إلينا. وكانت تطبيقات عمليّة. غونكل الألماني (1862-1932) هو أول من طبّق مبادئ التاريخ التكويني على سفر التكوين، ثمّ على الأسفار النبويّة، وأخيرًا على المزامير. وبعد الحرب العالميّة الأولى طُبّقت على الأناجيل. ونأخذ أمثلة على ذلك. حين درس غونكل سفر التكوين اكتشف بين الفنون الأدبيّة "الخبر الملحمي"، والسطرة، والرواية، والخبر المأثور، والسيرة المختلقة، والحكاية، والأقصوصة. أما أهمّها فالخبر الملحميّ (والملحمة خبر شعري أو نثري يروي مآثر الابطال ويدخل عالم الآلهة العجيب) الذي سمّي أيضاً "الأسطورة" (خبر ذو طابع عجيب تسيطر فيه المخيّلة الشعبيّة على الوقائع التاريخيّة) الايتيولوجيّة (تدرس الأسباب). إنّ مثل هذا الخبر يلعب دورًا تفسيريًّا : يتحدّث عن أصل ومدلول طقس من الطقوس، مكان من الأمكنة، إسم شخص من الأشخاص. هذا الخبر يروي في شكله الأول، عملاً بسيطًا وحيًّا، فيه يتدخّل شخص أو شخصان أو ثلاثة أشخاص رئيسيّون. مثلاً، حدّثنا تك 19 عن السبب لوجود هذا المنظر المقفر على شاطئ البحر الميت (سدوم وعمورة). وقدّم تك 16 : 1-14 أصل العرب في الصحراء : إنهم نسل اسماعيل. أمّا القيمة التاريخيّة لهذا النمط من الأخبار فضئيلة جدًّا. ولكن جاءت سلسلة من الدراسات اللاحقة فدلّت على أنّ العنصر الايتيولوجي يقوم مرارًا في حاشية هامشيّة بالنسبة إلى المرمى الرئيسيّ للخبر. ويرى عدد من الكتّاب أن الخبر البيبلي يجيب قبل كل شيء على اهتمام الأبناء بحفظ ذكرى الآباء. سيطرت نظريّة غونكل مدّة طويلة، في دراسته للفنون الأدبيّة في سفر التكوين، ولكنّ العلماء تخلّوا عنها اليوم. والبحث حول "تاريخ التقليد" في البنتاتوكس، قد دشّنه فون راد سنة 1938 ومرتين نوت سنة 1948. درس نوت توسّع المواضيع الكبرى (التي كانت في الأصل مستقلّة، في نظره) مثل الخروج من مصر، والدخول إلى الأرض المزروعة، والإقامة في البريّة، والتجلّي الإلهيّ على سيناء. واحتفظ بنو اسرائيل بأقدم "نؤمن" (قانون الإيمان) عندهم في تث 6 : 21-24؛ 26 : 5-9؛ يش 24 : 3-13. واغتنى الخبر شيئًا فشيئًا بعدد كبير من المواد الأخرى إلى أن شكّل مادة البنتاتوكس كلّه. أمّا على مستوى المزامير، فتأثير غونكل كان وما يزال كبيرًا، بل هو أساس تفسير المزامير لدى عدد من الشرّاح. هناك فنون أدبيّة ثانويّة مثل نشيد الحجّاج، مزامير حكميّة... ولكن هناك خمس فئات رئيسيّة : المدائح أو صلوات الحمد المجرّدة عن كل "مصلحة" وطلب، التي تُنشد مجد الله. محيطها الحياتي هو شعائر العبادة في الأعياد الكبرى. ثمّ التوسّلات الجماعيّة التي كان إطارها احتفالات توبة يأمر بها (الملك...) ساعة تحلّ بالبلاد كارثة جماعيّة (الحرب، الجوع، الوباء). ثمّ المزامير الملوكيّة التي ألّفت من أجل حفلة تنصيب الملك. وبعدها، التوسّلات الفرديّة التي كان محيطها الحياتي تتميم نذر أمام الجماعة وشكرًا لله أمامها على نعمه. وأخيرًا مزامير الشكر التي ينشدها الفرد فتأخذ مكانها في الاحتفال بذبيحة الشكر. وجدّدت المدرسة التكوينيّة مع ديباليوس وبولتمان، دراسة الأناجيل الإزائيّة، فحاولت بناء تاريخ تكوين الإنجيل حتى في مراحله الشفهيّة. هي تستند إلى مسلّمة لم يبرهن عنها : إنّ إطار الخبر الإنجيلي هو مصطنع. والإنجيليّون جمعوا بواسطة مواد وُجدت قبلهم بواسطة -إلحامات واجمالات. جمعوا وحدات صغيرة (خبر معجزة، مثَل) صيغت صياغة شفهيّة في الجماعة المسيحيّة. وميّز ديباليوس خمسة فنون أدبيّة رئيسيّة : الأقصوصة، الحكاية، الأسطورة، السطرة، الإرشاد. الأقصوصة هي خبر بسيط وموجز، داخل أسلوب محدّد ومن أجل بناء الجماعة، يُبرز كلمة من كلمات يسوع. قد وُجد هذا الفنّ الأدبيّ من أجل ضرورات الكرازة المسيحيّة في الوسط الفلسطيني. أما الحكاية فتبدو كخبر ظرفيّ، مليء بالتفاصيل المشوّقة، يدلّ على قوّة الله في يسوع، صانع المعجزات. هي تفترض وجود "الحكواتي"، وقد تكوّنت في محيط هلنستي. والأسطورة هي خبر لبناء الجماعة يلبّي حاجة سيرويّة أو إيتيلوجيّة. أمّا السطرة فتعبّر بشكل خبر عن اعتقاد جوهريّ في الجماعة. هي تلبّي ضرورة لاهوتيّة. والإرشاد يقابل أقوال يسوع التي جُمعت في المعين (استقى منه مت ولو). وقدّم بولتمان تقسيمًا مختلفًا، فميّز مجالين : تقليد الأقوال، تقليد الأخبار. فالأقوال تتضمّن كلمات يسوع التي يحيط بها خبر، كما تتضمّن الخطب من أمثال وعظات جليانيّة وقواعد حياة من أجل الجماعة. أما الأخبار فتُقسم إلى أساطير سيرويّة وأخبار معجزات. ظلّ ديباليوس فطنًا يقظًا في نظرته. أما بولتمان فاستخرج من بحثه حكمًا على القيمة التاريخيّة للتقاليد : واعتبر في عدد كبير من الحالات، أن كلّ هذا هو نتاج إيمان الجماعة، ولا يعود إلى زمن يسوع. وجاء بعده من لم يقدّم حلولاً جذريّة كحلوله. فاعتبر أنّ الجماعة انطلقت من حياة يسوع وأقواله وأعماله لتخلق نصًّا كتابيًّا. هي لم تخلق كل شيء وكأنّ يسوع لم يكن. (د) مدرسة التقاليد التاريخيّة، أو تاريخ التقليد. هذه المدرسة السكندينافيّة جاءت كردّة فعل على ما سبقها. فاهتمّت خصوصًا بالبنتاتوكس، ودرست تقاليده المتعدّدة. رفض كتّاب هذه المدرسة النقد الأدبيّ الكلاسيكي الذي يعكس في نظرهم مقاربة للنصوص معروفة في الغرب لا في الشرق، وينسى الحضارة القديمة. كما رفضوا أيضاً مسيرة المدرسة التكوينيّة (أو مدرسة تكوين النصوص)، والمدرسة التسليمية (التي تنظر إلى نصّ أول تسلّمته الجماعة)، لأنهما تستندان إلى مبدإ يقول بتطوّر مستمرّ للتقليد الشفهيّ. أما المدرسة السكندينافية فشدّدت بالأحرى على أمانة شبه مطلقة للنقل الشفهيّ في حضارة كانت فيه الكتابة على هامش المجتمع. إذن، نستطيع أن نثق بالنصوص ثقة واسعة على مستوى الأمانة التاريخيّة، حتى لو كُتبت بعد الأحداث بزمن طويل. غير أن الثقة المطلقة في مصداقيّة التقليد الشفهيّ، قد وجدت من ينتقدها من داخل المدرسة. قال : نجد في الشرق الأوسط اتجاهًا قويًّا لتكوين تقاليد يتهدّدها الضياع أو التلف أو النسيان. وكانت فئة ثالثة وقفت بين هذين الموقفين المتطرّفين، فشدّدت على التقليد الشفهي ولم تنسَ الكتابة. (هـ) التاريخ التدويني أو تاريخ تدوين النصوص. ما هي مبادئ هذه المدرسة؟ اهتمّ النقد الأدبيّ (أو تحليل النص تحليلاً أدبيًّا) والمدرسة التكوينيّة (كيف تكوّنت النصوص) بشكل خاص، بالمراجع التي سبقت التاريخ الأدبيّ لنصّ من النصوص، كما اهتمّت بالتقاليد الشفهيّة. جعلت نفسها قبل تدوين النصّ في صيغته النهائيّة. فجاء اللوم بأنّ هاتين المدرستين لم تأخذا بعين الاعتبار تكوين النصّ كنصّ. فجاء من يردم هذه الهوّة مع التاريخ التدويني أو تاريخ تدوين النصوص. تسعى هذه المحاولة إلى درس ظاهرة التدوين في حدّ ذاته : لم يكتفِ المدوّنون بشكل عام بأن يجمعوا أو ينسخوا مراجع شفهيّة أو مكتوبة كانت في يدهم، بل عملوا عمل الكتّاب (لا عمل النسّاخ أو الجمّاع). استعملوا مواد وُجدت قبلهم، فاختاروا منها ما اختاروا. ورتّبوا ما اختاروه ترتيبًا خاصًّا بهم، وفسّروه وصحّحوه وأعادوا صياغته من وجهة خاصة بهم. فدلّ كل هذا النشاط على هدف لاهوتي (أو عملي، على مستوى الممارسة) حاولت مدرسة تدوين النصوص أن تحدّده. ما هي عناصر الأسلوب الذي أخذوا به؟ توقّفت هذه المدرسة على مستوى النصّ المدوّن، فارتبطت في عملها ارتباطًا عميقًا بالنقد الأدبي، واستعملت ملاحظاته الدقيقة. غير أنّ مدرسة النقد انطبعت مسبقًا بمسلّمة تقول إنّ قيمة عنصر من العناصر ترتبط بقدمه. في هذا المنظار كان البحث عن المراجع أوليًّا، وجُعل عملُ التدوين في درجة متأخّرة. مثل هذا الحكم الاعتباطي يؤثّر على قراءة النصّ، بحيث إنّ عناصر التحليل أعيد تفسيرها مرّات عديدة في التاريخ التدويني. فإذا أردنا أن نكتشف هدف المدوّن، يجب أن نميّز قدر المستطاع، بين التقليد والتدوين. ويبدو هذا التمييز في المبدأ سهلاً حين يكون العنصر التقليدي قد سبق وتثبّت في وثيقة مكتوبة. في أي حال، يجب أن نهتمّ اهتمامًا خاصًّا بالعناصر التي يبدو أن المدوّن جاء بها : بنية مؤلّفة مع مواضيعه المحببة، والانتقالات من مقطع إلى آخر، والتقابلات اللفظيّة والإجمالات. وحين نصل إلى ما يتعلّق بتفسير المواد التقليديّة، ستقدّم لنا حالات الارتباط الأدبيّ معلومات ثمينة جدًّا. مثلاً، حين نقابل بين مر ومت (مت يرتبط بمرقس حسب نظريّة المرجعين كما في المسألة الإزائيّة)، نستطيع أن نبرز ما حمله مت كشيء خاص به (تحويل بنية الإنجيل، زيادة أو تنقيص، ألفاظ خاصة)، كما نبرز لاهوته. وهكذا نجد نفوسنا أمام "قراءة ثانية" أو "إعادة قراءة" نصّ سابق، أو تفسير جديد لمادة وُجدت من قبل وقد وصلت إلى المدوّن الأخير. إذا وضعنا جانبًا بعض رسائل العهد الجديد، فجمعُ أسفار التوراة عرف (على ما يبدو) تاريخًا تدوينيًّا في مراحل عديدة. فأول تدوين للتقليد الشفهي تبعته تدوينات لاحقة عكست في كل مرّة وجهات مختلفة. لهذا حاولت هذه المدرسة أن ترسم تاريخ هذه التدوينات المتعاقبة. أكملت بحثًا قامت به مدرسة تكوين النصوص وتسليمها، فتوخّت بناء تاريخ لاهوت إسرائيل وإيمانه، ولاهوت الكنيسة وإيمانها. ولكن كيف طبِّقت عمليًّا هذه المبادئ؟ بدأت مسيرة المدرسة التدوينيّة منذ القرن التاسع عشر وخلال النصف الأول من القرن العشرين. وها هي قد توسّعت الآن، ولكنّها لم تنته بعد، لأنّ أجزاء عديدة من التوراة مثل الأسفار الحكميّة، لم تُستكَشف بعد. فبالنسبة إلى البنتاتوكس، قد بدأت دراسته كمجموعة من الوجهة التدوينيّة، سنة 1975، وبعد أزمة "نظريّة المراجع". فارتأى عدد من الكتّاب أن يفسّروا نصوص التقليد الالوهيمي على أنها إعادة قراءة النص اليهوهيّ القديم. وأن يفسّروا التقليد الكهنوتي كإعادة قراءة نصوص وُجدت قبله. هذه المقاربة للبنتاتوكس أتاحت لنا بأن نجد فيه "مدارس" لاهوتيّة وأساليب تدوينيّة سوف نجدها في سائر أجزاء العهد القديم. والتدوين الاشتراعي لمجموعة تمتدّ من يش إلى 2مل قد درسها نوت منذ سنة 1943. وتابع العلماء الدراسة فخلصوا إلى القول بأننا لسنا أمام تدوين واحد، بل أمام تدوينات اشتراعيّة، حاولت أن تجيب على مسائل حياتيّة في إيمان اسرائيل، في القرن السادس، وإبّان حقبة من التقلّبات الدراماتيكيّة. وفي مجال الأدب النبويّ، كانت بعض المجموعات موضوع دراسة معمّقة مثل أشعيا الأول أو حزقيال أو ميخا. أما أشعيا الثاني فلم يُدرس بما فيه الكفاية من ناحية مدرسة التدوين. ثمّ إنّ الأسفار النبويّة تبدو صعبة في مثل هذه الدراسة، لأنّ نصوصها قُرئت وأعيدت قراءتُها مرارًا، ولأنّ نقاط الاستدلال تنقصنا مرارًا. ودُرست الأناجيل الإزائيّة منذ الخمسينات، فاكتشفنا المسائل المختلفة. فكلّ إنجيل يتجذّر في محيط تاريخيّ محدّد، ويجيب على موضوع لاهوتيّ خاص به. قدّم مر بشكل خاص كرستولوجيا تُفرد مكانةً خاصة للصليب. وتوجّه مت إلى جماعة مسيحيّة متهوّدة، فأرانا يسوع يدعو تلاميذه إلى الانفتاح على الوثنيّين. وأراد لوقا في الإنجيل وأعمال الرسل، أن يحدّد موضع كنيسة عصره، بالنسبة إلى أصولها التوراتيّة وإلى ما أراده يسوع. إنّ التفسير الحالي للأناجيل الإزائيّة يحاول أن يعيد بالنسبة إلى كل وحدة أدبيّة، تاريخها التدويني، أي معنى الحدث (أو الخطبة) بالنسبة إلى يسوع، وتفسيره في كل من الأناجيل الثلاثة. (و) مدرستان : القراءة الماديّة والنقد القانونيّ. إنّ "المدرسة الماديّة" تشدّد على الوجهة الاجتماعيّة والسياسيّة للنصوص، التي ليست فقط تعبيرًا عن جدل فكري، بل نتاجًا يتسجّل في سياق اجتماعيّ اقتصاديّ وسياسيّ. وتلفت هذه المدرسة انتباهَنا إلى بُعد أهمل مرارًا في الدراسات السابقة، وهو التجذّر التاريخيّ للنصوص. أمّا "النقد القانونيّ" (نسبة إلى قانون العهد القديم أي لائحة العهد القديم)، فينطلق من واقع يقول إنّ النصوص الحاليّة يجب أن تُقرأ في علاقتها المتبادلة داخل قانون (أو : لائحة) الأسفار المقدسة. فيدعونا إلى أن لا ننسى "تتمّة الكتب المقدّسة" : فكلّ نصّ من النصوص لا يجد معناه النهائي ساعة دوّن. بل هو يتّخذ معنًى جديدًا في السياق الإجمالي للكتاب المقدّس كلّه. (ز) مفترضات لا بدّ منها. البيبليا هي عمل البشر. تلك هي المفترضة الأولى. فالقراءة النقديّة للكتاب المقدّس لا تكون ممكنة إلا شرط أن نقبل بلا تردّد بأصله البشريّ. فالتفسير التاريخيّ النقديّ يطبّق على النصّ البيبلي أساليب تحليل معروفة في النقد الأدبيّ لكلّ نصّ قديم. لهذا، فهو لا يتردّد أن يشير إلى توتّرات في النص البيبلي، بل تناقضات داخليّة وأمور تاريخيّة غير معقولة وربّما مغلوطة. كما لا يتردّد بأن يقابل البيبليا مع الآداب القديمة في الشرق الأوسط. وبعبارة أخرى، إنّ التفسير التاريخيّ النقدي يأخذ على محمل الجدّ الطابع البشري للبيبليا التي هي محدّدة في الزمان والمكان. لهذا، فهو لا يعتبرها شيئًا "مقدّسًا" لا يجوز الاقتراب منه، بل يجب أن نبعده عن الأسئلة الـ "بشريّة". هذا الموقف لا يعني أننا ننكر على البيبليا صفتها ككلمة الله. وهو يفهمنا أن لا تزاحم بين عمل الله وعمل الإنسان. فكل يتحدّد موقعه في نظامه الخاص. فإذا اعتبرنا أنّ الله هو وحده كاتب البيبليا، وأن الكاتب الملهم هو أداة منفعلة (كالقلم في يد الكاتب لا يفعل، بل يترك اليد تفعل فيه) بين يديه، يصبح التفسير التاريخيّ النقديّ سلاحًا نحارب به الإيمان. فالتمييز بين نظام وآخر، يتيح للمؤمن أن ينظر إلى كلمة البيبليا البشريّة كواسطة لكلمة الله السامية. بهذه الكلمة البشريّة يكلّمنا الله. عنذذاك تصبح القراءة النقديّة ممكنة للمفسّر المؤمن. البيبليا هي تعبير عن خبرة دينيّة محدّدة في التاريخ. يعتبر التفسير التاريخي النقدي النصوص البيبليّة على أنها "بلاغات" يحملها أشخاص محدّدون في التاريخ، وهي تتوجّه إلى قرّاء معيّنين. وبعبارة أخرى، لا يتوخّى هذا التفسير أن ينظر إلى النصّ في ذاته. بل كواقع مستقلّ يستطيع أن ينتج عددًا من المعاني، بل كوسيلة تعبير عن خبرة أو فكرة. ما يهمّ هذا النهج هو المعنى الذي كان للنصّ بالنسبة إلى كاتبه الذي كان في أغلب الأحيان متكلّمًا باسم جماعته. هذا يفترض أننا نحاول أن نتعرّف إلى الأوضاع (الحضاريّة، السياسيّة، الاجتماعيّة...) التي فيها تجسّد النصّ، كما نتعرّف إلى هويّة سامعيه. فالمسافة الحضاريّة التي تفصلنا عن كتّاب البيبليا تفرض علينا الفطنة أمام الصعوبات القاسية التي تواجهنا. ومع ذلك، فالتفسير التاريخيّ النقدي يعتبر أن المحاولة ممكنة، وإن تكن عملاً لا نهاية له. وهناك عدد كبير من المؤمنين يرونها ضروريّة بقدر ما لا تنحصر قراءة الكتاب المقدس في نظرهم، في اندهاش أمام جمال عمل أدبيّ، أو في إسقاط فكرهم على النصّ (فيوجّه فكرهم النص ولا يتركه يوجّهه). بل تصبح هذه القراءة استماعًا إلى شهادة إيمان عبرها نتقبّل في النهاية كلمة الله. خاتمة : خلال أجيال طويلة غذّت القراءات التقليديّة للبيبليا إيمان المؤمنين : في الأجيال الأولى، في القرون الوسطى، في مختلف الكنائس الأرثوذكسيّة، الحبشيّة، القبطيّة، السريانيّة، البروتستانتيّة، الكاثوليكيّة (أو بالأحرى اللاتينيّة). لهذا، يجب أن لا نرى في القراء ة التاريخيّة النقديّة محاولة تُناقض القراءات السابقة أو تهدم الإيمان، بل مسعى لنجيب على أسئلة يطرحها القارئ اليوم، الغائص في إطار حضاريّ جديد، يطرحها على البيبليا. وهذا التفسير التاريخيّ النقديّ هو في الواقع امتداد للبحث التقليديّ عن المعنى الحرفيّ للنصّ، ولكن بواسطة أدوات قدّمتها العلوم الإنسانيّة مثل التاريخ وعلم الاجتماع... غير أنه يقلب بنتائجه عددًا من التمثّلات التي اعتُبرت يقينًا في الماضي، وحُسبت مرتبطة بأسس الإيمان نفسه (إن سقطت النظريّة سقط الإيمان معها!). قام بهذا التفسير مسيحيّون كاثوليك وبرتستانت، فواجهوا عداوة الرأي العامّ في كنائسهم. ولكن استعملت الأوساط العقلانيّة (التي تأخذ بالعقل ولا تريد أن تصل إلى الوحي) هذا المنهج كسلاح ضدّ المسيحيّة. وحاول المؤمنون شيئًا فشيئًا أن يوفّقوا بين العلم والإيمان. وبعد حقبة طويلة من المقاومة، لم يعد بالإمكان إنكار تقدّم العلوم التاريخيّة ومتطلّباتها. واعتبرت البروتستانيّة الليبراليّة الألمانيّة في القرن التاسع عشر، أن التفسير التاريخيّ النقديّ هو وسيلة هامّة تساعدنا على التحقق من الإيمان، وتقدّم ركيزة للإيمان. ومن الجهة الكاثوليكيّة، جرّت الأزمة التجديديّة (حركة حاولت تأويل تعاليم الكنيسة على ضوء المفاهيم الفلسفيّة والتاريخيّة العصريّة) إلى محاربة كل تفسير نقديّ. وسوف ننتظر رسالة "بفيض من الروح القدس" (1943) لنرى قبولاً بشرعيّة قراءة النصوص مع الأخذ بعين الاعتبار فنّها الأدبي وتجذّرها التاريخيّ. وقد ثبّت هذه الشرعيّة "تعليمُ اللجنة البيبليّة حول تاريخيّة الأناجيل" (1946)، ووثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني عن الوحي (كلمة الله) سنة 1965. وهكذا دلّ التفسير التاريخيّ النقديّ أخيرًا على أنه رفد لا يستهان به في خدمة فهم الإيمان المسيحيّ. فهو يحاول أن يجيب على أسئلة تُطرح على عدد كبير من قرّاء البيبليا : فالقراءة المبسّطة أو الأصوليّة للكتاب المقدس هي اليوم في أساس سوء تفاهم يصيب مصداقيّة المسيحيّة. والتفسير التاريخيّ النقديّ يدعونا إلى استماع متنبّه إلى شهود الوحي الذين عبّروا عن خبرتهم عبر النصّ البيبليّ، عن اكتشاف للإيمان في تفجّره الأول، وعن نموّه في شعب إسرائيل ثمّ في الكنيسة. فإذا مارسنا هذا التفسير بالفطنة والتمييز، فهو يساعدنا على أن نفهم فهمًا أفضل ما عاشه يسوع في الحقيقة، والطريقة التي بها فسّر التلاميذ الأولون خبرة إيمانهم. فالكنيسة لن تستطيع يومًا أن تتنكّر لهذه العودة إلى الينابيع. إن كان التفسير التاريخيّ النقدي ضروريًّا لفهم البيبليا، إلاّ أنه يبقى محدودًا. فمنذ سنة 1970، ارتفعت أحداث تندّد ببعض نتائجه السلبيّة : نقترب من البيبليا كأنها شيء من الماضي. ارتجاجات معتقدات تقليديّة. تشعّب أسلوب محفوظ للأخصائيّين الذين نادرًا ما يتّفقون. دمار سبّبه أشخاص جعلوا في متناول الجميع فرضيّات، فأبانوا عن عدم فطنة. حصر النصّ في المعنى الذي أراده الكاتب دون أن نعرف الكاتب. فالتفسير التاريخي النقدي، يبقى في طبيعته محاولة ناقصة، مهما اعتبر نفسه علميًّا، وهو لا يستطيع أن يدرك درجة اليقين المطلقة. والانتقادات التي هاجمت عن حقّ هذه الطريقة، دلّت على أن التفسير التاريخيّ النقديّ لا يستطيع أن يحتكر كل قراءة للكتاب المقدس. فهناك طرق أخرى للقراءة. دون أن ننسى الطريقة التقليديّة التي عرفها الآباء في الكنيسة الأولى، والتي ما تزال سارية في عدد من كنائسنا الشرقيّة.