خامس أسفار البنتاتوكس. أولاً : اسمه. يسمّي القانون العبريّ سفر التثنية بأولى كلماته : إله دباريم. إليك الكلمات. واستعملت السبعينيّة اسم تثنية أي تكرار الشريعة أو التشريع الثاني (رج 17 : 18 حسب السبعينيّة). ولكن نصّ 17 : 18 لا يعني تشريعًا ثانيًا، بل نسخة ثانية عن الشريعة الواحدة. واسمُ سفر التثنية لا يوافق الكتاب، إلاّ لأنّه يتضمّن مواضيع تطرّق إليها الكاتب الملهم سابقًا وخاصة لأنّ فيها تكرارًا للشريعة (ف 5؛12-26). ثانيًا : المضمون. هناك الشرائع والفرائض، وهناك أخبار أحداث حصلت في سهل موآب في عبر الأردنّ. قبل أن يموت موسى خارج أرض الميعاد، ألقى عددًا من خطبات الوداع : حذّر فيها شعبه من الأخطار المقبلة، ردّد أمام الشعب وصايا الله، وشدّد على الأسباب التي تدفعهم لكي يمارسوا وصايا يهوه (رج يش 23 : 1 ي). لا تورد الأخبار الأحداث بطريقة متتابعة، بل تذكر بعضًا منها، وتشدّد على مدلول ما جرى وقت الخروج والإقامة في سيناء، فتشكّل إطارًا لفرائض الشريعة وللحضّ على الأمانة لها في المستقبل (6 : 20-25). وتنقسم هذه المجموعة من الخطب والشرائع والأخبار كما يلي : (أ) 1 : 1-4 : 43. أوّل خطبة (بشكل مقدّمة). تتضمّن توطئة تاريخيّة (1 : 1-5)، وملخّصًا لأحداث طبعت عبور الصحراء بطابعها (1 : 6-4 : 40)، وملحقًا عن مدن الملجأ في شرقيّ الأردن (4 : 41-43). (ب) 4 : 44-11 : 32. خطبة ثانية (بشكل مقدّمة). تتضمّن توطئة (4 : 44-49) وحضًا طويلاً على الأمانة (5 : 1-11 : 32). العهد والشريعة هما عطيّة حبّ الله. وإتمام الفرائض يستند إلى حبِّ شعب يعرف الجميل. (ج) 12 : 1-26 : 19. نجد هنا صلب الشرائع بحصر المعنى. يشكّل هذا القسم مجموعة من الفرائض المتفرّقة. ويعطي ف 27-28 خاتمة الخطبة الثانية التي يوجّه فيها الكاتب نظره نحو المستقبل ويحضّ الشعب على الأمانة. (د) 29-30. الخطبة الثالثة والأخيرة عن العهد المجدّد في أرض موآب. (هـ) 31-34. يتضمّن هذا القسم آخر كلمات موسى ووصيّته وبركته على القبائل وخبر موته. ثالثًا : أصل الكتاب. مضت أجيال واليهود والمسيحيّون يعتبرون تث قسمًا من البنتاتوكس. نسبوه بسبب شهادته إلى موسى. في القرن التاسع عشر قال النقّاد : إن تث هو كتاب الشريعة الذي وُجد في الهيكل على أيام الملك يوشيا (2مل 22 : 8) وهذا ما قاله بعض الآباء في الماضي. وزادوا : أُلّف هذا الكتاب في أيام يوشيا أو قبله بزمن قليل. إن محاولة الإصلاح في ذلك الوقت اعتمدت على سلطة موسى فتحدّثت عن اكتشاف. من السهل أن نبرّر إصلاحات جذريّة حين يكون بين يدينا دستور قديم. وأهم إصلاح في ذلك الوقت هو البرهان الحاسم على أنّ تث دُوّن بعد موسى. وهذا الإصلاح الذي يسيطر على تث (ف 12)، يمنع تقدمة الذبائح إلاّ في مكان واحد، في أورشليم. فبعد موسى، اعتبر بنو إسرائيل أنّ أماكن عديدة للعبادة يمكن أن تكون شرعيّة (خر 20 : 24؛ 1مل 3 : 4، 19 : 10..). أزالها يوشيا بسبب التجاوزات التي دخلت عليها، وشدّد على مركزيّة العبادة ليراقب ممارسة الشريعة بطريقة فاعلة. لم يقبل بهذه "النظرة التقيّة" المدافعون عن صحّة نسبة البنتاتوكس إلى موسى. فرفضوا أن يكون تث دوّن بعد موت موسى بخمسة أجيال. وكانت مناقشات لم تنته بعد. والنتيجة : إن تث كما نعرفه لم يُكتب بيد موسى. فخبرُ موت موسى والفصلان الشعريان 32-33 كانت في البداية مقاطع مستقلّة. ثمّ إن الكتاب نفسه هو نتيجة نموّ متدرّج وأكثر من عمل كاتب واحد، وذلك بسبب التكرارات واختلاف العقليّة وتعدّد البواعث المقدّمة، وتنوّع الأسلوب. ثمّ إذا عدنا إلى تاريخ أصل البنتاتوكس وحافظنا على صحّة نسبته إلى موسى، لن نتعلّق بمسألة تدوين أسفار موسى التدوينَ النهائيّ. نحن نهتمّ اليوم بتاريخ التقاليد الشفهيّة والخطيّة التي وصلت إلينا في كتابات جاءت بعد موسى. فإذا ربطنا هذه النصوص السابقة بموسى، نوفّق معطيات النقد الحديث والرأي التقليديّ عن صحّة نسبة البنتاتوكس إلى موسى. يعتقد بعض الشرّاح أن تث هو الكتاب الذي وُجد في أيام يوشيا وأن التقليد الاشتراعي كما هو موجود في تث، لم يبرز تمامًا إلاّ في ذاك العصر. فبتأثير كرازة الأنبياء، وردّة فعلهم ضدّ التأثير الوثنيّ على المعابد المحلّية (يعود الأنبياء إلى موسى بصورة واضحة)، وبعد سقوط مملكة السامرة سقوطًا ذريعًا، وُلد تيّار في يهوذا من أجل العودة إلى عبادة يهوه عبادة حقيقيّة. فعادوا إلى فكر موسى وتأثّروا بالتقاليد الحيّة وتكيّفوا حسب ظروف الحياة الجديدة. كلّ هذا أثار في الأوساط الكهنوتيّة تدوين أخبار وتحريضات وشرائع تث، وهي كلّها أساس إصلاحات يوشيا. إذًا لن نبحث عن صحّة نسبة تث إلى موسى في التدوين نفسه، بل عن قدَم تقاليد عديدة وفرائض أُدرجت في الكتاب وفي واقع يجعلنا نقول إنّ كل ما دُوّن قد دُوّن حسب روح موسى الصحيحة. رابعًا : اللاهوت الاشتراعيّ. يتميّز سفر التثنية عن سائر أسفار البنتاتوكس بأفكاره وميوله وأسلوبه الخاص. بالنسبة إلى الأفكار : هناك إله واحد، هيكل واحد، عبادة واحدة (4 : 35، 39؛ 6 : 4؛ 12 : 4؛ 14 : 23). إذا أقرّ إسرائيل بهذا، كان شعبًا سعيدًا. وهناك شيء مهمّ هو الزاوية التي منها يتطلّع تث إلى العلاقة بين الله وإسرائيل، ويتكلّم عن العهد والشريعة. فالسبب الرئيسيّ لاختيار إسرائيل هو حبُّ الله (4 : 37؛ 7 : 8؛ 10 : 15؛ 23 : 6). وبسبب هذا الحبّ يكون تتميم شروط العهد والشريعة لبني اسرائيل موضوع واجب حبّ عارف بالجميل (6 : 5؛ 11 : 1؛ 13 : 4؛ 19 : 9). فالخطيئة هي قبل كل شيء عقوق ونكران جميل. وهي أيضاً إساءة لمصالح بني إسرائيل. فإن كان شعب إسرائيل بسلوكه أهلاً لهذا الحبّ الإلهيّ، نال البركة والازدهار والسعادة (4 : 1؛ 5 : 33؛ 6 : 1-3؛ 11 : 13). وإن بدا عاقًا وما تجاوب مع هذا الحب، يُعاقَب ويعرف الشقاء والفشل (11 : 26-28). والتاريخ الحاضر هو أكبر برهان على ذلك. ويعبِّر تث عن أفكاره ويتوسّع فيها بأسلوب خاص بالكتاب. يريد تث أن يُقنع، فيتكلّم إلى العاطفة، إلى القلب. ويبدو أسلوبه أسلوب واعظ يلج إلى الأعماق (4 : 5-7؛ 9 : 21؛ 6 : 1 ي). وحتى النصوص التشريعيّة والفرائض القانونيّة التي تبدو ناشفة وبعيدة في غير مكان، تدوَّن هنا بطريقة مباشرة وناعمة وكأنّها شروط نخضع لها طوعًا (6 : 10 ي؛ 8 : 14). نحن أمام النصيحة والتحريض، لا أمام الأمر والمنع (12 : 28، 31؛ 15 : 1 ي). وإنّ الأفكار والشكل والأسلوب التي تَحدَّثنا عنها هنا، تظهر عند الأنبياء ولاسيّمَا عند هو وإر، وفي الكتب التاريخيّة (يش، قض، صم، مل). هذه الأفكار تبدو واضحة في تث بحيث نسمّيها اشتراعيّة إن وردت خارج تث. أما مكانة هذه الأفكار في تطوّر الفكر الدينيّ لدى بني اسرائيل، فننسبها إلى طريقة تفكير الأنبياء وأقوالهم. وهذا التأثير ظاهر بصورة خاصّة مع هوشع وحزقيال وإشعيا وإرميا. ثمّ إننا عندما نتكلّم عن عبارات تميّز العقليّة الاشتراعيّة، فنحن لا نقول إنّه كان هناك مراجعة منظّمة للأسفار على ضوء تث. ولكن هناك نظرات حيّة في بعض الأوساط ألهمت الكتّاب الملهمين من أجل تدوين كتبهم.```