تاريخ البدايات أو التاريخ الأولاني، يغطّي الفصول الأحد عشر الأولى في تك. هي تشكّل وحدة واضحة، بحيث إن الماسوريّين والمدارش جعلوا منها كتابًا على حدة. هذا لا يعني أنّنا نهمل ارتباط هذه الفصول بخبر الآباء. لهذا هيّأ الكاتب الملهم الانتقال من تاريخ البدايات (تك 11 : 26) إلى خبر الآباء (11 : 27-30). مع تك 12-50، يشكّل تاريخ البدايات مقدّمة لملحمة شعب الله التي تبدأ مع موسى والخروج من مصر. أبرز شخص آدم وشخص نوح فأورد بدايات الكون والبشريّة، وأصول الحضارة، وأولى خبرات الإنسان الروحيّة. كيف نفسّر تك 1-11؟ 1) تكوين هذه الفصول. (أ) الأشكال الأدبيّة. يستعمل تك 1-11 أشكال تعابير متنوّعة وخاصّة. أولاً : الأخبار. نجد أخبارًا في شكلين رئيسيّين. هناك أولاً خبر الخلق (1 : 1-2 : 4أ و 2 : 4ب-14) مع 5 : 1ب-2 الذي يتذكّر تك 1. و 9 : 1-7 يأتي بعد الطوفان فيحدّد نظامًا جديدًا للعالم ويكفل عهد الله مع البشريّة. وتتركّز سائر الأخبار على خطيئة الإنسان التي جرّت عقاب الله مخفّفًا : خبر * سقوط آدم وحواء (3 : 1-24). خبر قايين و هابيل (4 : 3-16). خبر * "بنو الله وبنات الناس" (6 : 1-4). وحدث برج * بابل (11 : 1-9). أما خبر الطوفان (6 : 5-9 : 17) فيقدّم الخبر من جهة ويذكر الخطيئة وعقابها. ثانيًا : الأنساب. إنّ اللوائح المحفوظة قد وُجدت في شكل مستقلّ. ومهما كان هدفها الأصليّ فهي تملأ هنا فراغًا كرونولوجيًّا، وتحدّد في التاريخ علاقات الأفراد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالجماعة. هي مولد قايين وهابيل (4 : 1-2). نسل قايين وشيت (4 : 17-24، 25-26). الأنساب من آدم إلى نوح (5 : 1-32). لائحة الشعوب (10 : 1-32). نسل سام (11 : 10-26). نسل تارح (11 : 27-32). ثالثًا : تداخل بين الأنساب والأخبار. يرتبط هذان الفنّان الأدبيّان الواحد بالآخر. فلائحة الأنساب تضمّ حواشي إخباريّة تتعلّق بأصول الحضارة وتنبثق من تقاليد موسّعة. الفلاّح والراعي (4 : 1-2). بناء المدن (4 : 17ب). حياة البدو (4 : 20). أصل الموسيقى والحدادة (4 : 21-22). شغل الحقل مع اشتقاق اسم نوح أي الراحة (5 : 29). زراعة الكرمة (9 : 20). الصيد في البريّة (10 : 8-9). وهناك معطيات إخباريّة نجدها في الأخبار بحصر المعنى : التسلّط على عالم الحيوان وعلى الطعام (1 : 26-29؛ 9 : 2-3). زراعة الأرض وفلاحتها (2 : 8، 15؛ 4 : 3-16). اللباس (3 : 7، 21). إنّ استعمال هذين النمطين من الكلام، يعطي هذه الفصول لونها الخاص. فالمجموعات التي تلي، لا تشعرنا أنّها غطست في عالم الشرق القديم والحضارات الأولى. فالكتّاب يبدون وكأنّهم يعيشون مع جيرانهم سواء على مستوى مقاربة الواقع أو المواضيع التي يأخذونها من هذا الواقع. وهذه التقاليد تابعت مسيرة طويلة من النضوج مع حقبات شفهيّة وخطيّة قبل أن تتجذّر في أرض فلسطين. يبقى أن نعرف كيف تحوّلت هذه المعطيات في إطار الإيمان بالله الواحد. (ب) الوثائق. ^ أولاً : المرجع اليهوهي. اليهوهي هو أول من قدّم نظرة شاملة إلى التقاليد الأولى. فأعطانا 2 : 4ب-4 : 26؛ 6 : 1-4، 5-8. وأعطانا عناصر في 7-8؛ 9 : 18-27؛ 10 : 8-12 (13-14)، 15-18، 24-30؛ 11 : 1-9، 28 أ، 29-30. لقد عبّر اليهوهي عن فكر عميق في إطار إخباريّ. فهو الذي قدّم الحواشي المرتبطة بلائحة الأنساب. كما اهتمّ بالحضارة وجغرافية الشعوب (4 : 17 26؛ 10)، وهذا أمر طبيعيّ في إطار الملكيّة. وحدَه نقَل خبرَ الخطيئة والعقاب. فالإنسان الذي خلقه الله، قد تجاوز الوصيّة فتسجّلت الخطيئة في العلاقات العائليّة والاجتماعيّة بكلّ ثقلها. تدخَّل الله لكي يعاقب، ولكن العقاب لن يكون تامًّا أبدًا، فتبقى إمكانيّة إعادة العلاقة مع الله حاضرة. وهكذا تهيّأ منذ الآن النداء الموجّه إلى ابراهيم في 11 : 29-30. لا حلّ متواصلاً بين الحقبتين. فاليهوهي ينظر إلى الإنسان كما هو بدون مجاملة. غير أنّ تفاؤله يستند إلى الإيمان بإله يعرّف الإنسان إلى مشروع نعمته. ثانيًا : المرجع الكهنوتيّ. ما تبقّى من مواد ف 1-11 يعود إلى الكهنوتي. 1 : 1-2 : 4أ؛ 5 : 1-32؛ 6 : 9-21 : عناصر في 7-8؛ 9 : 1-17؛ 11 : 20-26، 27. وقد بُني كلّ هذا مع لفظة "توليدوت" أي مواليد وأنساب وبداية وخبر. ينطلق خطّ الأنساب من خلق السماوات والأرض (2 : 4 أ) وآدم (5 : 1) فيمرّ في نوح (6 : 9) وأبنائه (10 : 1)، وسام (11 : 10) ليصل إلى تارح. أبي ابراهيم (11 : 27) في تسامٍ متواصل. وهكذا نشهد انتقالًا خطوطيًا بركة الخالق، التي هي عربون الخصب والسعادة. ونجد اللفظة (توليدوت) أيضًا في دورة يعقوب رجل البركة. تُشدّد بنيةُ الأنساب في النصّ، وغيابُ أخبار الخطيئة والعقاب، على نظرة التفاؤل في التاريخ الأولاني لدى المرجع الكهنوتيّ. والطوفان نفسه ينتهي في عمل حقيقيّ من إعادة الخلق. وإنّ المرجع الكهنوتيّ لا يربط تشتّت الشعوب بتمرّد برج بابل (10 : 32). فالأخبار تحتفظ بطريقة منهجيّة في سرد الأنساب : نجد فيها لغة محدّدة ومجرّدة، وعبارات مقولبة، ولوائح أسماء، واهتمامًا بالكرونولوجيا. لقد أراد اليهود المسبيّون والمشتّتون وسط الأمم أن يجدوا سندًا لممارساتهم ورجاء في بركة الله عليهم. 2) التاريخ واللاهوت. إنّ التحليل الأدبيّ يريد دمج التقاليد المتشعّبة في إطار إلى منظورات دينيّة مختلفة ومتكاملة. ولكن يبقى أن نتوقّف عند ارتباط تك 1-11 بالتاريخ. (أ) تك 1-11 والتاريخ. لا ترتبط هذه الفصول بالتاريخ كما لو كنّا أمام التاريخ الحديث. فلا وثائق في ذلك الزمان، ولا شهادة تجعلنا نلتقي مع أبطال الخبر. فالخطّ التاريخيّ الذي نكتشفه يبدو لامتماسكًا في التفاصيل. فحسب 4 : 1-2، قايين وهابيل هما ابنا آدم الأوّلان. ولكن آ14-15 تفترضان أنّ الأرض مأهولة، وأنّ قايين محميّ من عشيرة مستعدّة للانتقام ممّن تسوّله نفسه في قتله. ويبدو أنّ هابيل مارس صنعة (4 : 2) بدأت مع يابال (4 : 20). أمّا على مستوى الوضع التاريخيّ، فهذه الفصول تنتمي بوضوح إلى قبتاريخ (أي ما قبل التاريخ) اسرائيل. هذا لا يعني أننا ندرجها في حقبات معروفة من الفترة القبتاريخيّة. فالمعلومات التي يقدّمها النصّ حول زراعة الحقول، وتدجين الحيوانات، وبناء المدن، والعمل في المعادن، لا تتيح لنا أن نقابل هذا "التاريخ" بحقبات قبتاريخيّة. فإذا وضعنا هذه التحفّظات جانبًا، نقدر أن نقتطف في تك 1-11 بعض المعلومات التاريخيّة الثمينة. فالأنساب، رغم طابعها المصطنع، ليست معرّاة من كلّ قيمة تاريخيّة. فلائحة الشعوب (تك 10) تصوّر البلدان والشعوب الذين اتّصل بهم شعب اسرائيل. هي تعود في جوهرها الى الملكيّة الموحّدة. وهكذا انتمت هذه الوثيقة إلى تاريخ اسرائيل في شكل أنساب وسلالات. قد تكون هناك مواضيع اجتماعيّة وحضاريّة قد أشرفت على صياغة هذه الفصول. فذكر حاران، و أور، له أهميّته في بحث حول أصول أجداد اسرائيل. فأفضل المعلومات تعني الأوساط التي نقلت هذه النصوص. والأثر الضعيف الذي تركته تقاليد تك 1-11 على الأدب القبل منفاويّ، يجعلنا نفكّر بحلقات المنفيّين الذين أعطونا هذا البناء الشاهق. فإنّ تك 1-11 ينتمي إلى التاريخ، لأنّه يحاول أن يتساءل عن الماضي لكي يفهم الحاضر. وهذا يتحقّق في ظواهر محدودة، مثل الحيّة التي لا قوائم لها فتُجبر على الزحف أرضًا (3 : 14)، أو عذابات الأمومة (3 : 16)، أو أصل اللباس (3 : 21). وهناك أسئلة أساسيّة مثل الحبّ المتبادل بين الرجل والمرأة (2 : 24)، واللعنة التي تلقي بثقلها على العمل (3 : 17-19)، ووجود الموت (3 : 19)، وقِصَر الحياة البشريّة (6 : 3)، وتنوّع اللغات (11 : 9). وهناك أوضاع اجتماعيّة وسياسيّة تجد تفسيرًا لها في الماضي. يبقى أن نعرف طبيعة هذا التاريخ. (ب) تاريخ خلاص. تك 1-11 هو أكثر من تاريخ حضارات أو تاريخ ديانات. إنّه قراءة مؤمنة لتاريخ متشعّب حول علاقة (ضعيفة وسريعة العطب) الإنسان مع الله. وتوجيه يُعطى للإنسان لكي يتقبّل خلاص الله. ونحن نستشفّ من خلال النصّ أكثر من خيط يوجّه حياتنا. فالمتتالية المؤلّفة من الخطيئة، الكلمة، التلطيف، العقاب، هي مفيدة، ولكنّها تتوقّف عند الأخبار وحدها. ولكننا نكون أكثر أمانة لمختلف الفنون الأدبيّة التي نجدها في هذه الفصول حين نقابل تكاثر الخطيئة وامتداد نعمة الله. لهذا نبحث عن الحقيقة في نظرة شاملة إلى هذه المعطية مع موضوع الخلق، تفكّك الخلق، إعادة الخلق. فالإنسان يتّجه إلى تدمير الخير الذي صنعه الله. ومهما كانت خطيئة الإنسان، فنعمة الله تخلّصه دائمًا من نتائج الخطيئة. فإن كانت الخطيئة تقلب النظام المخلوق، فنعمة الله تُعيد خلقَه : فعلى الإنسان أن يتّخذ موقفًا حرًّا بالنسبة إلى النعمة. حين نقرأ تك 1-11 بهذه الطريقة، فهذه الفصول لا تمثّل تواصلاً مع خبر الآباء. ولكنّها تلتقي في العمق مع موضوع البنتاتوكس : فمع أنّ اسرائيل يندفع إلى الخطيئة، إلاّ أنّه يختبر دينونة الله كما يختبر إرادة الله الخلاصيّة. وحين نبحث عمّا قيل عن العلاقات بين الله والأمم والبشريّة والعالم، نكتشف تاريخ علاقة الله بشعبه. فالكاتب الأخير قدّم شميلة من عنصرين أخذهما من التقليد : امتداد الخطيئة كما شدّد عليه اليهوهي. الخلق وإعادة الخلق كما في المرجع الكهنوتيّ. فإسرائيل الخاطئ الذي نال عقابه في المنفى، يرجو عمل خلق جديد من قبل الله الذي يعيده إلى أرض الميعاد ويجدّد معه عهده. غير أنّ إسرائيل لا يستطيع أن يعيش بعد اليوم منغلقًا على ذاته. فالله الذي حرّره في الماضي من مصر، هو الإله الخالق. والبشر يظلّون متضامنين بعضهم مع بعض رغم تنوّع الأوطان والشعوب واللغات. إنّ تك 1-11 يقدّم السياق الذي يتيح لإسرائيل (ولكلّ شعب من الشعوب) أن يكتشف دعوته. لهذا عادت نظرة الرجاء إلى هذه اللغة التي دوِّنت فيها البدايات.