العهد القديم
أولاً: تنوّع ووحدة التعليم النبوي في إسرائيل
أينما توجهنا، في الشرق القديم، وجدنا هناك رجالاً يمارسون السحر والعرا فة (راجع عدد 22: 65، دانيال 2: 2، 4: 43)، فيعتبرون جديرين بتلقَي رسالة من الاَلهة ويُلجأ إليهم أحياناً قبل اتخاذ القرارات. ويحدث لأنبياء بني إسرائيل أن يقوموا ببعض مهام مماثلة (1 ملوك 22: 1- 29)، إلا أن ما يجعلنا ندرك إدراكاً أحسن الطابع الفريد للتعليم النبوي وهو عنصر الزمان الذي يمتد خلاله هذا التعليم.
1. الأصول:
أين يبدأ التعليم النبوي في الكتاب المقدس؟ إن لقب نبي معطى لإبراهيمولكن ينقله إليه في زمن لاحق (تكوين 20: 7).. أما موسى، وهو مرسل إلهي صميم (خروج 43) فيعد مصدراً فيما يتعلق بالنبؤة (خروج 7: العدد 11: 17- 25)، ومن ثمَ فهو أعظم من نبي (عدد 12: 6- 8). وكتاب التثنية هو كتاب الشريعة الوحيد الذي يطلق عليه اسم نبي (تثنية 18: 15)، ولكن ليس على نحو ما يطلق على أيَ نبي من بين الأنبياء: لم يقم من بعده أحد يماثه (تثنية 34: 10). وفي ختام عهد القضاة تظهر مجموعات من "أبناء الأنبياء" (1 صموئيل 10: 5- 6)، يتأثر مظهرهم الخارجي الكثير الحركة، بالبيئة الكنعانية (1 صموئيل 19: 20- 24). ومن وقتهم دخل لفظ "نابي" (اًي "المدعو"؟) في الاستعمال الجاري. إلا أنه بجانبه تبقى قائمة الألقاب القديمة: "الرائي" (1 صموئيل 9: 9، عاموس 7: 12)، أو "رجل الله" (1 صموئيل 9: 87)، وهو لقب إيليا الأساسي ولاسيما أليشاع (2 ملوك 4: 9). إلا أن لقب "نبي" غيرموقوف على أنبياء الله الحقيقيين: فإلى جانب هؤلاء هناك أنبياء البعل (1 ملوك 18: 22) ، وهناك أيضاً أناس يجعلون من التعليم النبوي حرفة، مع أنهم يتكلمون دون أن يلهمهم الرب (1 ملوك 22: 5- 6...) وإن دراسة المصطلحات تبيّن أن التعليم النبوي له أوجه متنوعة جدأً، إلا أنه سوف تعلن وحدته مع التوسع فيه.
2. الإستمرارية:
لقد كان ثمة تقليد نبوي حقيقي امتدّ على الدوام بفضل تلاميذ الأنبياء. فالروح ينتقل من شخص إلى اخر، كما حدث بالنسبة إلى موسى (عدد 11: 17)، كما انتقل من إيليا إلى أليشاع (2 ملوك 2). ويذكر إشعيا تلاميذه (إشعيا 8: 16)، وإرميا يرافقه تلميذه باروك. و إن عبد الله الذي صورته- أكثر من صورة موسى- تفوق معالم التعليم النبوي، يحمل ملامح في تلميذ تولى التعليم (إشعيا 50، 4- 5، 42: 2- 4). في هذا الإطار الملابس لتقليد حيّ، تلعب الكناية دوراً (إشعيا 8: 16، إرميا 36: 4)، يتضاعف قدره مع الزمن فيصنع الله على فم حزقيال لا كلامه فحسب، بل كتاباً. على أنه ابتداءً من السبي خاصةً، يستقر لدى إسرائيل الوعي بقيام تقليد نبوي، رجوعاً إلى الماضي(إرميا 7: 25، راجع 25: 4، 29: 19، 35: 15، 44: 4). وإن كتاب "التثنية" (من مدرسة إشعيا) يستند إلى هذا التقليد عندما يذكر تنبؤات يهوه القديمة (إشعيا 45: 21، 48: 5). إلا أن وحدة التقليد النبوي هذا لها مصدر آخر غير هذه العلاقات المعدودة. أما الذي يحرك الأنبياء فهو منذ البداية روح الله ذاته (وإن لم يذكر بعضهم الروح كأصل للنبوة، راجع مع ذلك 1 صموئيل 10: 6، متى 3: 8 في النص العبري، هوشع 9: 7، يوئيل 3: 1- 2 حزقيال 11: 5). على أنه أياً كان نوع تبعيَتهم المتبادلة فيما بينهم، فنعم من الله يستمدون الكلمة. والموهبة الروحية فالنبوة هي موهبة روحية (عاموس 3: 7، إرميا 23: 18 ، 2 ملوك 6: 12) تعلَم الإنسان ما لا يمكن أن يكتئمفه بقواه الخاصة وحدها. أما موضوع هذه الموهبة الروحية فهو متعدّد وواحد معاً: إنه قصد" الخلاص الذي سيضمه ويوحّده يسوع المسيح (راجع عبرانيين 1: 1- 2).
3. النبي في الجماعة:
يشكّل التعليم النبوي تقليداً، وله مكانته الخاصة المعيّنة بذاتها في جماعة اسرائيل. فهو جزء مكمل لتلك الجماعة، ولكنه لايحتويها. وعليه فإننا نرى النبي بجانب الكاهن، يقوم بدوره في تنصيب الملك (1 ملوك 1). فالملك والكاهن والنبي هم خلال حقبة طويلة من الزمن الألقاب الثلاثة لجماعة بني إسرائيل، وهم يختلفون فيما بينهم إلى حد التعامل أحياناً إلا أنهم يحتاجون في العادة إلى بعضهم البعض. فما دامت هناك دولة نجد فيها الأنبياء لإرشاد الملوك: ناتان، جاد، أليشاعولاسيما إشعيا وأحياناً إرميا وإليهم يؤول القول إن كان العمل الذي شرع فيه الملك يريده الله أم لا، أو إن كانت سياسة صعيفة تندمج تماماً أو لا تندمج في تاريخ الخلاص. ومع ذلك فالعمل النبوي بالمعنى القوى لقفظ ليس نظاماَ يزسس كالملكية أو الكهنوت ". يستطيع بنو إصائيل اًن يقيوا لهم ملكأ (تثنية 17: 14- 15)، ولكن لا يستطيعون أن يقبموا نبيَأ، ية ن النبي محض عطية من الله وموضع وعد (تية 18: 14- 19)، ولا يمنح إلا منحاً حرّاً، ويتضح ذلك جيداً في الفترة التي تنقطع فيها التعاليم النبوية (1 مكابيين 9: 27، راجع مزمور 74: 9)، فبنو إسرائيل يعيشون إذ ذاك في انتظار النبي الموعود (1 مكابيين 4: 46، 14: 41). فمع تقدير مثل هذه الملابسات، نفهم تجداًا ستقبال الهود الحماسى لكرازة يوحنا المعمدان (متى 3: ا- 12).
ثانياً: مصير النبي الشخصي
1. الدعوة:
إن للنبي مكانة في المجتمع، إلا أن ما يجعل له هذه الصفة هو دعوته. ذلك ما يظهر بوضوح في نداء موسى، وصموئيل، وعا موس، و إشعيا، و إرميا. وحزقيال، فضلاً عن عبد الرب. إن تجارب إرميا الشعرية تدور حول هذا الموضوع. فالمبادرة برمّتها من الله، الذي يسيطر على شخص النبي: "تكلم الرب، فمن لا يتنبأ؟" (عاموس 3: 8 ، راجع 7: 14- 15). إن إرميا، المكرس منذ حُبل به في بطن أمه (1: 5، راجع إشعيا 49: 1)، يتحدث عن الغواية (20: 7- 9)، ويشعر حزقيال بيد الله تثقل عليه بقوة (حزقيال 3: 14). وتوقظ الدعوة في إرميا الشعور بالضعف (إرميا 1: 6)، وفي إشعيا الشعور بالخطيئة (إشعيا 6: 5). وتقود دا ئماً إلى رسالة، تكون أداتها فم النبي، الذي ينطق بكلمة الله (إرميا 1: 9، 15: 19، إشعيا 6: 6- 7، راجع حزقيال 3: 1-3).
2. رسالة النبي وحياته:
هناك تصريحات في صورة حركات (أكثر من ثلاثين) تسبق أو تصاحب التوضيحات الشفوية (إرميا 28: 0 1، 51: 63...، حزقيال 3: 24- 5: 4. زكريا 11: 15...). وذلك لأن "الكلمة" الموحى بها لا تنحصر في مجرد مفردات، فهي حياة، وتصحبها مشاركة رمزية (ليست سحرية) في عمل الله وهو ينجز ما يقول. إن بعض هذه الأعمال الرمزية تحدث نتائج مباشرة: شراء حقل (إرميا 32)، أمراض ومخاوف (حزقيال 3: 25- 26، 4: 4-8، 12: 18). على أن ما يلفت النظر خاصة، بالنسبة إلى كبار الأنبياء، أن الحياة الزوجة والأسرية تندمج ضمن الوحي: كما حدث بالنسبة إلى زواج هوشع (1- 3). وإشعيا دأبه أن يذكر "النبية" (إشعيا 8: 3)، ولكنه هو وبنوه يقومون بمثابة علامات للشعب (8: 18). وخلال السبي تصبح العلامات سلبية: عزو بة إرميا (إرميا 16: 1- 9)، ترمل حزقيال (حزقيال 24: 15- 27). كلها علامات لا تقوم على التخيل، بل هي مستمدة من الحياة، وبالتالي متصلة بالحقيقة. وعليه فلا يمكن أن تكون الرسالة غريبة عن حاملها: إنها ليست تصوَراً ليتسلط هو عليها، وإنما هي ظهور الله الحي داخله (إيليا)، الله القدوس (إشعيا).
3. محن:
إن الذين يتكلمون باسمهم الخاص (إرميا 14: 14- 15، 23: 16) دون أن يكونوا مرسلين (راجع 27: 15)، بل بدافع من روحهم الخاصة (حزقال 13: 3). هم أنبياء كذبة. وأما الأنبياء الحقيقيون فإنهم يعدون بأن "آخر" يجعلهم يتكلمون، حتى إنه يخدم أن يضطروا إلى تصحيح قولهم، إذا ما اتفق أن تكلموا من تلقاء أنفسهم (2 صموئيل 7 ). إن حضور هذا "الآخر" (إرميا 20: 7- 9) وثقل الرسالة المكلف بها النبي (إرميا 4: 19)، كثيراً ما يثيران بداخله نزعات كفاح باطني. ولا يدع هدوء إشعيا مجالاً لظهور ملامحء هذ ه النزعات إلا في القليل: "إني أرجو الرب الحاجب وجهه " (إشعيا 8: 17)... وأما موسى (عدد 11: 11- 15) وإيليا (1 ملوك 19: 4)، فيشعران ببوادر أزمة إنهيار نفسي. ويشكو إرميا خاصة بحرارة، ويبدو للحظات وكأنه يتحول عن دعوته (إرميا 15: 18- 19 ،20: 14-18). ويمتلئ حزقيال "من المرارة والغيظ والذهول، (حزقيال 3: 14-15). وأما عبدالله فإنه يمرّ بمرحلة من العقم الظاهر والقلق (إشعيا 49: 4). وأخيرأ فإن الله لا يدع الأنبياء قط يأملون بنجاح رسالتهم (إشعيا 6: 9- 10، إرميا 1: 19، 7: 27 ، حزقيال 3: 6-7). لن تؤدى رسالة إشعيا إلا إلى نفسية الشعب (إشعيا 6: 9- 10 متى 13: 14- 15، راجع يوحنا 15: 22). ويضطر حزقيال إلى أن يتكلم، سواء أسمحوا له أم لم يسمحوا (حزقيال 2: 5 و 7، 3: 1 1 و 27). والناس على هذا النحو "سيعلمون أني أنا الرب" (حزقيال 36: 38 الخ)، إلأ أن هذا التعربف عن الرب لن يتأتى إلا فيما بعد. وإن الكلمة النبوية على كل حال تفوق بتساميها نتائحها المباشرة، إذ ان فعاليتها إنما هي من النوع الاسكاتولوجي: ففي نهاية الأمر هي من أجلنا (1 بطرس1: 10- 12).
4. موت:
لقد أيد الأنبياء في عيد آحاب (1 ملوك 18: 4 و13، 19: 10 و14)، وربما في عهد منسى (2 ملوك 21: 16)، وتأكيداً في عهد يوياقيم (إرميا 26: 20- 23). ولا يرى إرميا أمراً خارجاً عن العادة في هذه المذابح (إرميا 2: 30). وفي عهد نحميا أصبح حدوثها من الأمور العادية (نحميا 9: 26). ويسوع سوف يقول: "يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء" (متى 23: 37)... وفكرة اعتبار موت الأنبياء بمثابة التتويج الواقعي لكل نبواتهم أخذت تنشئ طريقها رويداً رويداً خلال هذا الاختبار. وتبدأ رسالة عبدالله، وهي ختام سلالتهم، في ظل الكتمان (إشعيا 42: 2)، وتتكامل في صمت وسكوت الحمل الذي يذبح (إشعيا 53: 7). إلا أن هذه النهاية هي قمة متوقعة من قبل، إذ كان الأبياء، ابتداء من موسى، يشفعون بالشعب (إشعيا 37: 4، إرميا 7: 17، 10: 23- 24، حزقيال 22: 30). والعبد وهو يتولى الشفاعة بالخطأة، سيخلصهم بموته (إشعيا 53: 5 و11- 12).
ثالثاً: النبي إزاء القيم المعترَف بها
إن اللقاء الدرامي بين النبي والشعب يتم بادئ ذي بدء على أساس أوضاع العهد القديم: الشريعة، والنظم المستقرة، والعبادة.
1. الثريت:
إن التعاليم النبوية والشريعة لا يعبران عن اختيارين، أو عن تيارين مختلفي الاتجاه. وكل ما في الأمر أنهما وظيفتان متنوعتان، وليس هناك قط قطاعان منعزلان داخل إطار جامع. فالشريعة تعلن كيف يجب أن يكون الحال بالنسبة لكل زمان وكل إنسان. وأمّا النبي فيندد أولاً بالأخطاء التي ترتكب ضد الشريعة، وإن ما نميزه في هذا المقام عن ممثّلي الشريعة، هو أنه لا ينتظر أن تطرح عليه حالة حتى يفصل فيها، فهو يفعل ذلك دون استناد إلى سلطة يستمدها من المجتمع، ولا إلى علم يأخذه عن آخرين. ولكن بمقضى ما يوحيه الله إليه من أجل الوقت الحاضر، فهو يربط بين الشريعة وبين الحياة، يتذكر أسماء، ويقول للخاطئ، كما قال ناتان لداود: "أنت هو الرجل " (2 صموئيل 12: 7)، فإنه يوجه المؤاخذة في الحال، (1 ملوك 21: 20)، ويأخذ كثيراً، على حين فجأة (1 ملوك 0 2: 38- 43). وهوشع(4: 2)، وإرميا (7: 9) يشيران إلى الوصايا العشر، وحزقيال (18: 5- 18) إلى الشرائع والتقاليد الجارية. فمن عدم دفع الأجر (إرميا 22: 13، راجع ملاخي 3 : 5)، إلى الغش (عاموس 8: 5، هوشع 12: 8، ميخا 6: 10- 11)، وحادثة القضاة (ميخا 3: 11، إشعيا 1: 23، 5: 23)، فرفض تحرير العبيد في الوقت المناسب (إرميا 34: 8- 22)، فقسوة المقرضين (عاموس 2: 8) والذين " يطحنون وجوه البائسين" (إشعيا 3: 15، راجع عاموس 2: 6- 8، 4: 1، 8: 4- 6): كل هذه الذنوب تُناقض الشريعة ونناقض العهد. إلا أن جوهر الشريعة الذي يذكر به الأنبباء، لا يقتصر على الثمن المكتوب. فإن النص المكتوب لا يحدث ما يحدثه النبي في سامعيه. فهو بموهبته الروحية" ينفذ داخل كل إنسان حتى عمق تلك المنطقة السرية حيث يجتار النور أو يرفضه. وعلى كلٍّ إنه في الوضع القائم فعلاً، حيث تنطلق الكلمة النبوية، لا يكون الحق قد أنكر فحسب، بل وقد حرف أيضاً (ميخا 3: 9- 10، إرميا 8: 8، حبقوق 1: 4)، وتحول إلى مرارة (عاموس 5: 7 و6: 12)، كما يكون الخير قد دُعي شرأً، والشر خيراً (إشعيا 5: 20، 32: 5)، ذلك حال الكذب، الذي لا يمل إرميا من شجبه (6: 6...). إن الرعاة يعكرون صفو ماء الغنم (حزقيال 34: 18- 19)، والضعفاء يضللون (إشعيا 3: 12- 15، 9: 15، عاموس 2: 7). والشعب المذنب لا يستحق هو نفسه أي تسامح (هوشع4: 9، إرميا 6: 28، إشعيا 9: 6 1). إلا أن الأنبياء يؤنبون بمزيد من الشدة الكهنة وكل المسئولين (إشعيا 3: 2، إرميا 5: 4- 5) الذين ائتمنوا على قواعد الشرائع (هرشع 5: 1، إشعيا 10: 1) وهم يحرفونها. فإزاهذه الحال تقف الشريعة عزلاء، ولا ملاذ مع فساد العلامات، سوى التمييز بين روحين، روح الشر وروح الله: تلك هي الحالة التي نشهد فيها نبيّاً يواجه نبياً آخر (إرميا 28).
2. التقاليد المسيطرة:
ليست الخطيئة هي وحدها موضع المؤاخذة، بل المجتمع قد تحول. فأخذ الأنبياء يدركون الوضع الجديد في الاختلاتات الجارية، سواء أكان في الملبس (إشعيا 3: 16- 23)، أم في الموسيقى (عاموس 6: 5) أو في العلاقات الإجتماعبة. فالمبادلات على كل المستويات قد تضاعفت، فبلغ شعب إسرائيل الحالة التي سبق وتوقعها صموئيل (1 صموئيل 8: 10- 18). فالعلاقات بين السيد والعبد قد انتقلت منذ الإقامة في مصر، إلى أوضاع الشعب الداخلية. وبالرغم من بعض الأوضاع المناقضة لنظام الملكية، (هوشع 13: 11)، لا يحاول الأنبياء العودة إلى الوضع السابق، فذلك لا يدخل في نطاق دورهم. بل هم يعترضون على الشعب المتعلق بصورة الماضي السعيدة، تعلّقه بخيرات خاصة به، مقدراً أن امتداد وجودها مضمون دون ما حدود. إنه الإستغراق في الإرتياح من جانب الذين يقولون: "أليس الربّ في وسطنا؟" (ميخا 3: 11)، الذين يدعون الرب "مرشد صبائهم" (إرميا 3: 4، هوشع 8: 2)، ويريدون لأنفسهم، دون عناء، أن "يصنع الرب معهم مثل جميع معجزاته" (إرميا 21: 2)، أولئك القوم الذين يعتبرون أن ما من شيء يزول: "ويكون الغد كاليوم" (إشعيا 56: 12، راجع 47: 7). إن هؤلاء الناس ترتاح نفوسهم إلى المواعظ المطمئنة تأتيهم من الأنبياء الكذبة (إرميا 23: 17)، ويرفضون أن تفتح عيونهم على الحاضر كما هو في واقعه. وأما أنبياء الله، فبالعكس، يعترضون على التنكّر للماضي: فيعود إيليا إلى حوريب، ويغرم هوشع (11: 1- 5) وإرميا (2: 2- 3) بذكريا ت الصحراء، ويتغنى القسم الثاني من كتاب إشعيا (إرميا 43: 16-21) بذكريات الخروج. على أن هؤلاء الأنبياء لا يخلطون بين ذلك الماضي وبين بعض بقاياه المائتة، بل يستفيدون منه ليُرجعوا ديانة الشعب إلى قوامها الحقيتي.
3. العبادة:
إن للأنبياء أقوالاً خاصة ضد الذبائح (إرميا 7: 21- 22، إشعيا 1: 11- 13، عاموس 5: 21 - 25)، وضد التابوت (إرميا 3: 16)، وضد الهيكل (إرميا 7: 4، 26: 1- 15)، ذلك الهيكل الذي تسلم فيه إشعيا رسالته (إشعيا 6)، والذي فيه يعظ إرميا (إرميا 7)، كما كان عاموس يعظ في مقدس بيت إيل (عاموس 7: 13). هذه الأقوال تنظر إلى الحاضرالحالي، فتشجب تلك الذبائح التي هي في الواحد تدنو المقدسات. وقد تنطبق تلك الأقوال كذلك، بأوضاع مماثلة، على أعمال العبادة المسيحية. وهي تذكرنا أيضاً بالقيمة النسبية لتلك العلامات، التي لم تكن دائماً، ولن تكون على الدوام على ما هي عليه (عاموس 5: 25، إرميا 7: 22)، ليس في طاقتها، بحد ذاتها، أن تطهِّر أو تخلص (راجع عبرانيين 10: 1). وإنما تلك الذبائح ليس لها قيمة إلا بحكم علاقتها بذبيحة المسيح الواحدة. فنقد الأنبياء يفتح الطريق لكشف هذا المعنى الأخير. على كل فإن تنظيم العبادة وتعليم الأنبياء، ابتداءً من السبي، يلتقيان عند حزقيال (حزقيال 40 إلى 48، راجع إشعيا 58: 13) وملاخي وحجاي. إن العبادة اليهودية في العصور المتأخرة هي عبادة منتقاة. ويعود معظم الفضل في ذلك، لعمل الأنبياء، الذين لم يتصوروا قط ديانة من دون عبادة أو مجتمعاً من دون شريعة.
رابعاً: النبي والتدبير الجديد
يربط الأنبياء يين الله الحي وخليقته في الطابع الفريد للحظة الحاضرة، ولذلك بالذات، تكون رسالتهم متجهة نحو المستقبل، الذي يرونه يتقارب بوجهه المزدوج من حيث العقاب "ومن حيث الخلاص".
1. العقاب:
يرى إشعيا وإرميا وحزقيال، فضلاً عن تعدد المخالفات لمدة إستمرارية الخطيئة" الوطنية (ميخا 7: 2، إرميا 5: 1)، كواقع تاريخي وراسخ (إشعيا 48: 8، حزقيال 20،إشعيا 64: 5).إنها محفورة (إرميا 17: 1) وملتصقة التصاق الصدأ بالمعدن واللون بالبشرة (إرميا 13: 23، حزقيال 24: 6). إنهم كأنبياء يعبرون عن هذه الحالة بعبارات متعلّقة بأزمنة تاريخية. فيقولون إن الخطيئة اليوم، قد بلغت أقصى حدودها، وإن الله قد صارحهم بذلك، كما صارح إبراهيم بخصوص خطيئة مدوم (راجع عاموس 4: 11، إشعيا 1: 10...). ومن ثم فإن رسالتهم، إلى جانب الإرشادات، تحوي بيان حكم، قد يحمل أو لا يحمل تاريخاً، ولكنه ليس في أي حال غير محدَد: إن بني إسرائيل قد نكثوا العهد (إشعيا 24: 5، إرميا 11: 10)، وعلى الأنبياء أن ينذروهم بالأمر وينتبهوا إلى ماترتب عليه من عواقب. إن الشعب ينتظر يوم الربّ كيوم نصر، أمّا هم فيعلنون أنه يأتي ولكن بصورة عكسية (عاموس 5: 18- 20) ، فإن الكرمة التي خذلت كل آمال الكرام، ستقطع وتباد بمعرفته (إشعيا 5: 1- 7).
2. الخلاص:
على أن الأنبياء منذ زمن عاموس يعلمون أن الله لا يمكنه أن يعاقب فحسب. ثم يأتي إرميا "ليقلع ويهدم، وليهلك وينقض، وليبني ويغرس" (إرميا 1: 10). لقد نكث بنو إسرائل العهد، إلا أن ذلك لا يعني أن كل شيء فد انتهى: فالله الذي أقام ذلك العهد، ترى هل في نيته إلغاؤه؟ إن أحداً من الحكماء لن يجرؤ على الإجابة على هذا السؤال، لأن بني إسرائيل فيما مضى، استغلوا أمانة الله فانحدروا في الخيانة، وبذلك قد أغلقوا على أنفسهم داخل الخطيئة. ولكن عندما يصمت الحكيم (عاموس 5: 13)، يتكلم النبي: فهو الوحيد الذي يستطيع أن يقول إن الله بعد العقاب سينتصر و يمنح الصفح والغفران، ولكن دون التزام من جانبه (حزقيال 16: 61)، من أجل مجده فقط (إشعيا 48: 11). إن نظرة التطلّع هذه ستفهم بصورة أفضل، عندما يجري التوسع في التعليم الخاص بالعهد، ابتداء من هوشع، على أساس صورة الزواج، بمثابة ردّ نبوي على ما يثيره العهد من معضلات. فالزواج يظل عقداً، ولكن لا يقوم له معنى إلا بالمحبة، ومع المحبة لا سبيل إلى المحاسبة، بل تكون المغفرة" متوقعة.
3. المبشرون بالعهد الجديد:
وعلى أثر السبي وما تبعه من تشتتقد اكتمل الحكم. وإذا كانت الشريعة قد سمحت لشعب بني إسرائيل بأن يختبروا عجزهم (راجع رومية 7)، فلأن الأنبياء قد فتحوا لهم أعينهم. حينئذ حانت ساعة الرحمة. فمنذ أيام السبي والأنبياء يعلنون ذلك، بينما يعرضون مواعيد المستقبل. على أن ما يعدون به ليس استعادة (إرميا 31: 32) لنظم أصبحت غير مناسبة، وإنما إعادة نشأة عهد جديد، يعلن عنه إرميا (إرميا 31: 31- 34)، كما يردّد الإعلان عنه حزقيال (حزتيال 36: 6 1 -38)، والقسم الثاني من كتاب إشعيا (إشعيا 55: 3، 54: 1- 10). في هذا التطلّع الجديد، لا تلغى الشريعة، بل يكون لها وضع آخر: فبعد أن كانت شرطاً للوعد، تصبح موضوعاً للوعد(إرميا 31: 33، 32: 39 0 4، حزقيال 36: 27). إن ذلك يعد تجديداً عظيماً. ولكنّ الأنبياء يأتون بكثير من التجديدات الأخرى، تدور حول كل نقاط الوحي الكتابي. فالخبرة النبوبة تشمل كل تلك النقاط، لتجددها كلها بأجمعها. فالأنبياء بمسلكهم في معيشتهم، كما بتعليمهم، يعدون في مقدَمة صفوف أولئك الناس الذين يدعوهم باسكال: "مسيحيّي الشريعة القديمة".
4. اليوم الحاضر النهائي:
إن هذا التغيير في مفاهيم الخلاص هو جزء لا ينفصل عن ظروف السبي والعودة منه، ذلك لأن النبي ينظر بنظرة واحدة معاً إلى الحقائق الأبدية وإلى الأحداث إلى تظهر من خلالها. فهذه أو تلك على السواء يتم الوحي بها إليه بنعمة موهبته الروحية. إلا أنه، من بين موضوعات المعرفة التي لا يستطيع الإنسان إدراكها بقواه الخاصة، تعدّ تلك المتعلقة بالمستقبل حالةً خاصة ومميّزة. على أن نبوة النبي تتخذ أشكالاً مختلفة. فهي تتعلق أحياناً بأحداث قريبة، قد تكون أقل أهمية من حيث مداها، ولكنّ تحقيقها يثير دهشة متزايدة (عاموس 7: 17، إرميا 28: 15-16،29:44-30، 1 صموئيل 10: 1-2، راجع لوقا 22: 10- 12). كل هذه النبوات تكون بعد تمام تحقيقها علامات من أجل المستقبل البعيد، وهو الوحيد الحاسم. فذلك المستقبل البعيد- أو تلك النهاية في التاريخ إنما هو الموضوع الجوهري الذي تقصده النبؤة. غير أن الطريقة الي تتطبع بها مسبقاً إلى ذلك المستقبل البعيد،لم تندمج دائماً في تاريخ اسرائيل الجسدي، ولكنها تبرز مصيره النهائي والعالمي الشامل. فإن كان الرؤاة يصفون الخلاص على مستوى الأحداث التي يعيشونها، فذلك يرجع إلى اختيارهم المحدود، ولكن أيضاً إلى أن المستقبل يتحقق من خلال الحاضر، فيربط الأنبياء الحاضر بالمستقبل، لأن ذلك المستقبل سيكون هو " اليوم الحاضر" الأمثل. واستخدام أسلوب المغالاة في تصوير ذلك المستقبل يبيَن أن حقيقة المستقبل هذه ستفوق كل الأهداف التار يخية المنظور إليها في الحاضر القريب. ويرمي هذا الأسلوب، أكثر من إثارة إعجابنا أمام الصيغة الأدبية، إلى بلوغ مستوى التعبير عن "حادث مطلق ". ذلك هو ما سوف تهدف إليه، بصفة مباشرة كتب الرؤيا، مدوِّنة الوحي الفائقة، وهي أكثر من النبوات القديمة تحرراً من الاتجاهات السياسية، خلال تصنيفاتها الغنية عن الزمن، والأعدا د الواردة فيها، وتصوراتها الرمزية (راجع دانيال). و بتجاوزها التاريخ الحاضر، سوف تسهم في تلمّس " الحادث المطلق" ، مركز التاريخ ونهايته.
العهد الجديد
أولاً: تتَميم النبوات
يدرك العهد الجديد أنه يتمم وعود العهد القديم، فما بين هذا العهد وذاك يبدو أن كتاب إشعيا- الذي هو بذاته خلاصة النبوة- ولاسيمّا ترانيم عبد يهوه، نشكل حلقة ممتازة تجمع بين إعلان إتمام الوعود وكيفية تحقيقها. لذلك فإن الأناجيل تقتبس من كتاب إشعيا النصوص التي تصف رفض الخلاص الذي تحقق (إشعيا 6: 9 مذكور في كل من متى 13: 14- 15، ويوحنا 12: 39- 40، وأعمال 28: 26- 27. ثم إشعيا 53: 1 مذكور في رومة 10: 16، يوحنا 12: 38. ثم إشعيا 65: 2 مذكور في رومة 10: 21). ذلك أن العهد الجديد يبرز في الواقع الملامح المميزة لحياة يسوع، التي تتمم الكتب المقدسة، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغفل التطابق الإجمالي بين "جميع الأنبياء" (أعمال 3: 18- 24، لوقا 24: 6- 8)، وبين الجوهر في أسرار الإيمان: الاَلام والقيامة. فالأولى مذكورة وحدها مرات عديدة باعتبارها موصع النبوات (متى 26: 54- 56، أعمال 3: 18، 13: 27)، وفي الغالب يرد ذكر الإثنين معاً. وإن في درس الشرح المعطى في عماوس، الذي جاء تطبيقه عند تدوين الأناجيل، تتجمع التعبيرات التي تتردّد بكثرة في عدة مواضع من الكتب الأخرى، عندما يعرض الأمر للكرازة بسر شضحية المسيح: "الأنبياء"، "موسى والأنبياء"، "جميع الكتب المقدسة"، "شريعة موسى والأنبياء والمزامير" ( لوقا 24: 25 و27 و44، قارن أعمال 2: 30، 26: 22، 28: 23، رومة 1: 2، 1 بطرس 1: 11، 2 بطرس 3: 2...). فإن كل العهد القديم بجملته يصبح نبوة عن العهد الجديد، و"كتابه نبوية" (2 بطرس 1: 19- 20).
ثانياً: النبوة في التدبير الجديد
1. حول يسوع:
يبدو يسوع، إذا جاز التعبير، كأنه وسط شبكة من نعاليم النبوة، متمثلة في زكريا (لوقا 1: 67)، وسمعان الشيخ (لوقا 2: 25-27)، والنبية حنة (لوقا 2: 36)، ولاسيما يوحنا المعمدان. فكان لا بد من وجود يوحنا لنلمس الفرق بين تعاليم النبوة وموضوعها أي المسيح. إن الجميع ينظرون إلى يوحنا كنبي. وفي الواقع إنه أسوة بأنبياء الأيام السالفة، يترجم الشريعة في عبارات تفيد وجوداً في حياة فعلية (متى 14: 4، لوقا 3: 11- 14). إنه ينذر باقتراب الغضب " والخلاص (متى 3: 2 و 8). و نميز على الخصوص نبوياً " ذاك " الذي هو موجود في العالم دون أن يعرفه العالم، ويشير إليه يوحنا بالبنان (يوحنا 1: 26، 31). وبواسطة يوحنا يقدم كل الأنبياء الشهادة ليسوع: "فقد توالت جميع نبو ات الأنبياء وآيات الشريعة حتى انتهت إلى يوحنا" (متى 11 :13، لوقا 16:16).
2. يسوع:
ورغم أن مسلك يسوع المسيح يتمبز بوضوح عن مسلك المعمدان (متى 9: 14)، فإننا نشاهد فيه الكثير من الملامح النبوية. فهو يكشف مضمون " علامات الأزمنة " (متى 16: 2- 3)، ويعلن نهايتها (متى 24: 25). وموقفه إزاء القيم التقليدية هو عودة إلى النقد الذي أبداه الأنبياء بصرامة إزاء من يقبضون على المفتاح ولا يدعون الداخلين يدخلون (لوقا 11: 52)، وغضب " ضد الرياء" (المراء") الديني (متى 15: 7، راجع إشعيا 29: 13)، وفتح الجدال في صفة أبناء إبراهيم ، موضع افتخار اليهود (يوحنا 8: 39، راجع 9: 28)، وتوضيح ميراث روحي اختلط أمره، فصارت خطوطه العريضة عسيرة التمييز، وتطهير الهيكل (مرقس 11: 15- 17، راجع إشعيا 56: 7، إرميا 7: 11)، والإعلان عن عبادة ، حقيقية كاملة بعد وقوع خراب المقدس المادي (يوحنا 2: 16، راجع زكريا 14: 21). وأخيراً يشهد يسوع- وهذا ما يربط خاصة بينه وبين الأنبياء القدماء- كيف أن رسالته ترفض (متى 13: 13- 15//)، وتنبذ من تلك المدينة، أورشليم، قاتلة الأنبياء (متى 23: 37- 38//، راجع ا تسالونيكي 2: 15 ). وبقدر ما تكون هذه النهاية آخذة في الإقراب، يسوع يتولى إعلانها ويشرح معناها، من حيث كونه نبيّاً يتنبأ عن نفسه، مبيناً بذلك أنه لا يزال سيداً لمصيره، أو يقبله حتى يتمم قصد الاَب، كما صورته الكتب المقدسة. فلا غرو، مع هذه المواقف المصحوبة بعلامات إعجازية، أن تلقِّب الجموع يسوع تلقائياً بلقب نبي (متى 14:16، لوقا 16:7، يوحنا 19:4،17:9)، ذلك اللقب الذي يدل في بعض الحالات على النبي الأعظم، الذي سبق وتكلمت عنه الكتب المقدسة (يوحنا 1: 21، 6، 14، 7: 40). غير أن يسوع لا يذكر نفسه بهذا اللقب إلا عرضاً (متى 13: 57//)، ومن ثم لن يكون له إلا مجال بسيط في فكر الكنيسة الناشئة (أعمال 3: 22، راجع لوقا 24: 19). ذلك لأن شخصية يسوع تتجاوز من كل الوجوه التقليد النبوي. فيسوع هو المسيح وعبد الرب، وابن الإنسان . أما السلطان الذي اعطي له من أبيه، فهو أيضاً بجملته سلطانه الخاص كليّاً: إنه سلطان الإبن، الأمر الذي يضعه فوق كل صفوف الأنبياء (عبرانيين 1: 1- 3). إنه يستمد منه كلامه، ولكنه- كما يقول يوحنا أخيراً- هو "كلمة" الله الذي ما صار بشراً" (يوحنا 1: 14). وفي الواقع، فأي نبي كان يمكنه أن يقدّم ذاته باعتباره مصدراً للحق ، والحياةإن الأنبياء كانوا يرددون: " هذا وحي الله!أما يسوع فيقول: "الحق الحق أقول لكم "، وإذن، فإن رسالته وشخصه ليسا من ذات المستوى النبوي.
3. الكنيسة:
يقول القديس بولس بوضوح "إن النبوات تزول ذات يوم " (1 كورنتس 13: 8). إلا أن ذلك لن يكون إلا في آخر الأزمنة (الزمن). وأما مجيء المسيح على الأرض فهو أبعد من أن يبطل موهبة النبوة، بل قد دعا بالعكس إلى التوسع فيها، على ما سبق وتنبأ عنه الأنبياء. فموسى مثلاً كان يتمنى أن تكون "جميع أمة الرب أنبياء" (عدد 11: 29). ورأى يوئيل أن هذه الأمنية سوف تتحقق في "الأزمنة الأخيرة " (يوئيل 3: 1- 4). وفي يوم العنصرة، أعلن بطرس إتمام هذه النبوة: فلقد أفيض روح المسيح على كل ذي جسد؟ فالرؤيا والنبوة قد صارا من الأمور العادية عند شعب الله. الجديد. والموهبة الروحية" بالنبوات توافرت كثيراً في الكنيسة الرسولية (راجع أعمال 1 1: 27- 28،- 13: 1، 1 2: 10- 11). ويريد بولس في الكنائس التي أسّسها الأ يحطّ من قدر هذه المرهبة الروحية الجليلة (1 تسالونيكي 5: 20). إنه يضعها فوق موهبة الألسن ، (1 كورنتس 14: 1- 5)، إلا أنه بقتضي أن تمارس بنظام ولصالح الجماعة (14: 29- 32 ). فالنبي في العهد الجديد لا يختلف عنه في العهد القديم في أن رسالته لا تقف عند حدّ الإنباء عن المستفبل فحسب، بل إن عليه أن "يبني، ويعظ، ويعزّي" (14: 3). وهذه خدمات تتعلق عن قريب بالوعظ والإرشاد. ويبدأ المؤلف النبوي لكتاب "الرؤيا" بأن يكشف للكنائس السبع، عما هي عليه من حالة روحية (رؤيا 2، 3)، على نحو ما كان يصنع الأنبياء القدامى تماماً إلا أن النبي وهو نفسه يخضع لرقابة باقي الأنبياء (1 كورنتس 14: 32) ولأوامر السلطة (14: 37)، يبدو من حقه أن يحوًل اقتياد الجماعة إلى نفسه (راجع 12: 4- 11)، ولا أن يحكم الكنيسة. على أن التعليم النبوى الحقيقي، حتى آخر الأيام، سوف يمكن التعرف على صحته، بفضل القواعد التي يقوم عليها تمييز الأرواح. ألم يكن كتاب التثنية، منذ العهد القديم، يرى في تعليم الأنبياء العلامة الحقيقية على صدق رسالتهم الإلهية (تثنية 13: 2- 6) وهذا ما يزال قائماً حى الاَن، لأن التعليم النبوي لن ينقضى مع عهد الرسل، وإلا لكان من العسير إدراك رسالة الكثيرين من قدِّيسي الكنيسة، دون الرجوع إلى موهبه النبوة، وهي تظل خاضعة للقواعد التي وضعها القديم بولس.