مقدمة
إن مفهوم الميراث في الكتاب المقدس يتجاوز المعنى لا القانوني العام لهذه الكلمة. فهي تشير فيه إلى إحراز أحد الخيرات بصفة ثابتة ودائمة، ليس كل خير أياً كان. وإنما ذلك الذي يسمح للإنسان ولعائلته بازدهار الشخصية دون أن يكونوا تحت رحمة الغير. وبصورة إيجابية، وفي إطار حضارة زراعة أو راعوية ، يكون المال حداً أدنى من الأراضي أو القطعان. أما بالنسبة إلى طريق الحصول على هذا الميراث، فإنه يختلف بحسب الحالات. غزو، أو هبة، أو توزيع ينظمه القانون، وبصفة خاصة الميراث بالمعنى الحصري (راجع 1 ملوك 21: 43). ذلك هو الاختبار الإنساني الذي انطلاقاً منه تعبر المصطلحات الدينية في العهد القديم والعهد الجديد عن جانب أساسي من هبة الله للإنسان.
العهد القديم
أولاً: أصل الموضوع
إن مفهوم الميراث يتصل اتصالاً وثيقاً منذ البداية بمفهوم العهد. وبه تتميز في التدبير الإلهي علاقة ثلاثية: فإسرائيل هو ميراث الله ة وأرض الميعاد ميراث إسرائيل، فهي تصبح بذلك ميراث الله نفسه.
1. إسرائيل ميراث الله:
ومن بين هذه العلاقات الثلاث، فالأولى أساسية أكثر من الأخريين: إسرائيل هو ميراث الله (راجع خروج34: 9، 1 صموئيل 10: 1، 26: 19، 2صموئيل 20: 19، 21: 3). وهذا التعبير يوحي بعلاقة حميمة بين الله وشعبه، الذي هو "خاصته " (خروج 19: 5). إن صيغة العهد: "فيكونون لي شعباً وأكون لهم إلهاً " (إرميا 24: 7، حزقيال 37: 27)، تعني عملياً نفس الشيء، ولكن مفهوم الميراث يضيف فكرة الانتماء الخاص، التي تنقل إسرائيل من المستوى الدنيوي (مستوى الأم الأخرى) إلى عالم الله.
2. أرض الميعاد ميراث إسرائيل:
هذه العلاقات الثلاث هي متصلة أيضا ًبموضوع العهد، كما يدل على ذلك عرض العهد للآباء في تكوين 15، وفي هذا الموضع يكون لوعد الله لابراهيم هدف مزدوج: وارث ، هو اسحق وسلالته. وميراث، هو أرض كنعان، وبطبيعة الحال فإن ورثة ابراهيم يرثون أيضا الموعد (تكوين 26: 3، 35: 12، خروج 6: 8). ونلاحظ هنا أن أرض كنعان لم يمنحها الله بعدُ ميراثاً لابراهيم، ولكن فقط قد وعد بها ورثنه. وإن هذا الوعد وانتظار إسرائيل الناجم عنه، هما اللذان يسمحان بالتعمق تدريجياً في موضوع الميراث: إن حالات الخداع المتتالية عقب آمال مادية بالغة تكذبها الأحداث، لسوف تسمح برقع مستوى الانتظار عند إسرائيل لدرجة تجعلهم يرغبون في الميراث الحقيقي الوحيد الذي يستطيع أن يملأ قلب الإنسان.
3. أرض الميعاد، ميراث الله:
ومن العلاقتين الأولى والثانية تنجم ثالثة: أرض الميعاد هي ميراث الله. على أن هذه العبارة لا تشير إلى رباط طبيعي بين الله وكنعان. ففي ذلك يتميز إسرائيل عن سائر الشعوب المحيطة به. والتي تعتبر أن البلاد المختلفة ممتلكات خاصة ببعض الآلهة. ففي الواقع إن كل أرض الدنيا هي ملك لله (خروج 19: 5، تثنية 10: 14). وإن كانت أرض كنعان قد أصبحت بنوع خاصة ميراثاً له، فلأنه أعطى هذا البلد لإسرائيل وبطريق التبعية، قد اختار أن يؤسسه فيها سكناه (راجع خروج 15: 17). ومن هنا يأتي المعنى العميق لتقسيم الأرض المقدسة، حيث يأخذ كل سبط من أسباط إسرائيل نصيبه،أي حصنه في الميراث (يشوع 13 إلى 21). فإن السبط يتسلم نصيبه من الله، ومن ثم فحدود كل نصيب لا تمس (راجع عدد 36). وفي حالة البيع الجبري، سوف تتيح سنة اليوبيل ردّ كل أرض إلى مالكها الأصلي (لاويين 25: 10): "فالأرض فلا تبع بتاتاً لأنها لي الأرض، وإنما أنتم غرباء وضيوف عندي " ( لاويين 25: 23). فإسرائيل على أرضه بمثابة مزارع بالنسبة لله. وينبغي أن يعيش فيها من أجله وليس من أجل ذاته.
ثانياً: توسع الموضوع
إن التوسع في هذا الموضوع في العهد القديم يشمل جانبين: نقله إلى مستوى الأزمنة الأخيرة، وتحوله الروحي.
1. الميراث في آخر الأزمنة:
إن غزو كنعان كان يمكن أن يبدو تحقيقاً للوعد في كتاب التكوين 15. ولكن ابتداء من القرن الخامس، ينتقل ميراث الله جزءاً فجزءاً إلى سلطة الوثنيين. ليس لأن الله قد أخلّ بوعده، بل لأن خطايا إسرائيل قد أضرت مؤقتاً بنتيجته. وفي آخر الأزمنة فقط سوف يحوز شعب الله، وقد انحصر في بقية، الأرض ميراثاً على الدوام، ويتذوّق فيها السعادة الكاملة ( تثنية 28: 62- 63، 30: 5). وتعليم التثنية هذا سوف يعود فيظهر عد الأنبياء في زمن السبي (حزقيال 45 إلى 48، ويلاحظ في 47: 14 الإشارة إلى تكوين 15)، وبعد السبي (زكريا 8: 12، إشعيا 60: 21): فالأبرار وحدهم يستفيدون من الميراث في النهاية (راجع مزمور 37: 9 و11 و18 و22 و34، 25: 13، 61: 6، 69: 37). وفي هذا التبدّل لرجاء إسرائيل، ينبغي التنويه بالمكانة الخاصة المقرّرة للملك " الذي يمسحه الله. وتد يكون صاحب المزامير في مرحلة أولى قد وعد الملك القائم بأن "تكون الأمم ميراثاً لله، وأقاصي الأرض ملكاً! (مزمور 2: 8). ولكن عندما تعاد القراءة بعد السبي، يفهم الوعد على أنه للملك المستقبل، للمسيح (راجع مزمور 2: 2). ميراث الأرض وميراث الأمم، نظرة آخر الأزمنة هذه لا نخرج البتة عن دائرة الآفاق الأرضية. وإنما سوف يتحقق الوصول إلى هذه المرحلة الأخيرة مؤخراً، عندما تتجسد عقيدة الجزاء بعد الموت. وحينئذ سوف يجعلون ما بعد الموت، " في العالم الآتي "، بدء امتلاك الميراث، الموعود به من الله للأبرار (دانيال 12: 13، حكمة 3: 14، 5: 5). ولكن سوف يتعلق الأمر بميراث قد تحوَلَت صورته.
2. ميراث يتحول تحولاً روحياً:
إن منطلق تحوّل الميراث تحولاً روحياً قوامه الوضع الخاص باللاويين الذين بحسب صياغة التثنية 10: 9، "لم يكن لهم حظ وميراث مع أخوتهم، وإنما يهوه هو ميراثهم ". وفي البداية فهمت هذه العبارة بمعنى مادي إلى حد كبير: وأن ميراث الاويين يتكوّن من تقدمات المؤمنين (تثنية 18: 1- 2)- ولكن هذا التعبير يأخذ تدريجياً "في اكتساب كثافة أكبر. كما أنه ينتهي بأن ينطبق على الشعب بأسره فيهوه نصيبه في الميراث (إرميا 10: 16، راجع اسم حلقية "هو نصيبي"). ويأخذ هذا الاعتقاد كل معناه، عندما يسحب الميراث المادي، وهو أرض كنعان، من شعب الله (راجع المرائي 3: 24). وابتداء من ذلك الوقت يتحول مفهوم الميراث تحولاً روحياً تاماً. وعندما يقول أصحاب المزامير: "الرب حمل تسميتي " (مزمور 6 1: 5 " 73: 26)، فهم يشيرون إلى الخير الكامل الذي يملأ قلوبهم. ويفهم من ذلك أن هذا الميراث الباطني تماماً، محتفظ به من أجل البقية الوفية. فم يحدد الميراث مكافأة خارجية تمنح مقابل الأمانة وإنما هو الفرح نفسه الذي ينجم عن هذه الأمانة (راجع مزمور 119). ومن" زاوية هذه الرؤية الجديدة. تصبح الصياغة القديمة "تملك الأرض " أكثر فأكثر تعبيراً متفقاً عليه للدلالة على السعادة الكاملة (راجع مزمور 25: 13) التي تمهّد لحالة السعادة الثانية المعلنة في الإنجيل (متى 5: 4، راجع مزمور37: 11 في الترجمة السبعينية). ويفهم أيضاً أن تملك الله أيضاً لقلب المؤمن يشكل بالنسبة له نوعاً ما مدخلاً مقدماً للميراث الذي سيناله في "العالم الآتي".
العهد الجديد
أولأ: وارث الوعود
1. المسيح، الوارث الوحيد:
كان العهد "لقديم يحتفظ بصفة الوارث للوعد، أولاً لشعب الله وحده. وفيما بعد " لبقية " من ا الأبرار. وفي العهد الجديد يلاحظ أولاً أن هذه البقية إنما هي المسيح. ففيه تركزت سلالة "ابراهيم (غلاطية 3: 16). ولكونه الابن قد ملك بالمولد حق الإرث (متى 21: 38//)، وقد جعله الله وارثاً لكل شيء (عبرانيين 1: 2) ولكونه قد ورث اسماً أعظم من اسم الملائكة (1: 4). هو اسم يهوه نفسه (راجع فيلبي 2: 9) . ولكن حتى يتولى المسيح هذا الميراث تولياً فعلياً، كان لا بد له أن يجتاز الآلام والموت (عبرانيين 2: 1- 10، راجع فيلبى 2: 7- 11)، وقد أظهر بذلك أي عائق كان يعترض ضد تحقيق الوعود القديمة: حالة العبودية التي كان يقوم فيها بنو البشر (غلاطية 4: 3 و 8، 5: 1، يوحنا 8: 34) ونظام الوصاية الذي أخضعهم الله إليه (غلاطية 23:3، 4: 1- 3). وبصليبه وضع يسوع حداً لهذا الوضع الوقتي، حتى ينقلنا من حالة العبودية إلى حالة البنوة وبالتالي حالة الوراثة (غلاطية 4: 5- 7). فبفضل موته نستطيع الآن تسلم الميراث الأبدي الموعود به (عبرانيين 9: 15 ) .
2. المؤمنون، ورثة في المسيح:
وهذا هو في الواقع المركز الحالي للمسيحيين: هم أولاد الله بالتبني، لأن روح الله يقودهم، فهم بهذه الصفة ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث (رومة 8: 14- 17)، يرثون الموعد الذي وعد الله به الآباء (عبرانييِن 6: 12 و17) ، كما ورث في الماضي اسحق ويعقوب (11: 9)، لأنهم بالفعل السلالة الحقيقية لابراهيم (غلاطية 3: 29). وليس للخضوع للشريعة الموسوية أثر في شيء من ذلك، ولا للانتماء لإسرائيل " بحسب الجسد، بل العبرة في الانتماء إلى المسيح بالإيمان (رومة 4: 13-14). وينتج عن ذلك في سر المسيح، أن "الوثنيون مدعوون لنفس الميراث، ومستفيدون بالوعد نفسه" (أفسس 3: 6، راجع غلاطية 3: 28- 29). وحول المسيح، الوارث الوحيد، يؤسس شعب جديد يمنح الميراث على سبيل النعمة (رومه 4: 16).
ثانياً: الميراث الموعود به
إن الميراث الذي "بجعله الله للبشر مع جميع القديسين " (أعمال 20: 32)، "ميراثاً بين القديسين " في النور (أفسس 1: 18)، يوحي في الوقت نفسه بطبيعته الحقيقية. لم تكن أرض كنعان الموضوع الملائم للوعود، فم تكن سوى رمز للمدينة السماوية (عبرانيين 11: 8- 10). إن الميراث "المعد" من الآب لمختاريه "منذ إنشاء العالم " (متى 25: 34)، هو النعمة (1 بطرس 3: 7)، هو الخلاص (عبرانيين 1: 14)، هو ملكوت الله (متى 25: 34، 1 كورنتس 6: 9، 15: 50 يعقوب 2: 5)، هو الحياة الأبدية (متى 19: 29، تيطس 3: 7 ) . تركّز هذه العبارات على تسامي الميراث على الطبيعة: فهو ليس في متناول "اللحم والدم"،، بل يتطلب كائناً يكون قد تحول إلى صورة المسيح (1 كورنتس15: 49- 50). والميراث، بصفته ملكوتاً يشارك في ملك المسيح العالمي (راجع متى 5: 4، 25: 34، رومة 4: 13، مقارناً بكتاب التكوين 15 وبالمزمور 2: 8) وبوصفه حياة أبدية، يكون مشاركاً في حياة المسيح القائم من بين الأموات (راجع كورنتس15: 45- 55)، وبالتالي في حياة الله ذاته. وسوف نبلغ بلوغاً كاملاً إلى الميراث فيما وراء الموت، عندما نلحق بالمسيح في مجده.أما حالياً فلا نناله إلا في الرجاء(تيطس 3: 7). ومع ذلك فإن الروح القدس، وقد وهبنا الله إياه، يكون منذ الآن عربون ميراثنا (أفسس 1: 14)، بانتظار عودة المسيح، الذي يكفل لنا نواله كاملاً.