العهد القديم
أولاً: واقع الموت
1. خبرة الموت:
لكلّ إنسان خبراته مع الموت. ولا يحاول الكتاب المقدس أن يحول أنظارنا عنه، بإغراقنا في أحلام خادعة. بل نراه، في أي مرحلة من مراحله، يبدأ بمواجهة خبرة الموت بكل وضوح، كموت الأعزاء وما يجره، بعد إتمام مراسيم الوداع (تكوين 49)، من حزن عميق (50 :1، 2 صموئيل 19 : 1...). كما بجب على كل إنسان أن يستعد لمواجهة الموت، ما دام هو أيضاً "سيرى الموت" (مزمور 89: 49، يوحنا 8: 51، لوقا 2: 26)، و"سيذوق الموت" (متى 16: 28، يوحنا 8: 52، عبرانيين 2: 9). هذه فكرة لا تخلو من مرارة لمن يتمتع بخيرات الدنيا، ولكها أمنية محببة لمن ترهقه الحياة (راجع سيراخ 41: 1- 2): فبينما يبكي حزقيا على موته الوشيك (2 ملوك 20: 2-3)، نرى أيوب يطلبه بصياح شديد (أيوب 6: 9، 7: 15).
2. ما بعد الموت:
إن الميت "لم يعد له وجود بعد" (مزمور 39: 14، أيوب 7: 8 و 1 2، 7: 10 ). هذا هو الانطباع الأوّل لعدم الوجود، لأن ما يجري بعد الموت يخفى عن أعين الأحياء. ومع ذلك، فليس الموت، في المعتقدات البدائية التي حافظ عليها العهد القديم طويلاً، فناءً كاملاً. فبينما يوضع الجسد في حفرة تحت الأرض، يظل شيء ما من المتوفى بمثابة أثر له باق في الجحيم (شيول). ولكنّ هذا الجحيم يترك بطريقة بدائية جداً، على شكل حفرة فاغرة أو بئر عميق، وكأنه موضع صمت (مزمور 115: 17)، وهلاك، وظلمات، ونسيان (مزمور 88: 12- 13، أيوب 17: 3 1)، يجتمع فيه كل الأموات ويتركون في نفس المصير البائس (أيوب 3: 13- 19، إشعيا 14: 9- 10)، وإن تفاوت درجات خزيهم (حزقيال 32: 17- 32): يسلمون إلى التراب (أيوب 17: 16، مزمور 22: 16، 30: 10)، والدود (إشعيا 14: 11، أيوب 17: 14)، بحيث لم بعد وجودهم إلا سبات (مزمور 13: 4، دانيال 12: 7: لا أمل بعد ولا معرفة لله، ولا إحساس بمعجزته، ولا تسبيح مقدمة له (مزمور 6: 6، 30: 10، 88: 12- 13، 115: 7، إشعيا 38: 18). فان الله نفسه لا يعود يذكر الموتى (مزمور 88: 6). وهم بعد عبورهم أبواب الجحيم (أيوب 38: 7 1، راجع حكمة 6 1: 3 1)، لا يمكنهم العودة منه البتة (أيوب 10: 21- 22). ذلك هو التطلّع الكئيب الذي ينتظر الإنسان، ساعة " انضمامه إلى آبائه" (تكوين 49: 29). وهذه الصورة لا تقدم إلا شكلاً ملموساً لانطباعات تلقائية عامة عند جميع البشر، وما زال يتمسك بها كثير من معاصرينا. إذ ظل العهد القديم في هذا الصدد على هذا المستوى من المعتقد، حتى وقت متأخر، وهو دليل على أنه، خلاف العقيدة المصرية والفلسفة اليونانية الروحانية، يرفض أن يقلل من قيمة الحياة الدنيا وأن يتجه بآماله نحو خلود خيالي. لقد انتظر حتى يضيء الوحي بوسائله الخاصة سر ما بعد الموت.
3. إكرام الموتى:
إن الشعائر الجنائزية ظاهرة عامة عد جميع الشعوب. فمنذ ما قبل التاريخ البعيد، والإنسان يتمسك بتكريم موتاه،: يحاول الاتصال بهم. ويحفظ العهد القديم جوهر هذه التقاليد العريقة في القدم: مظاهر الحداد التي تعبر عن حزن الأحياء (2 صموئيل 3: 31، إرميا 16: 6)، مراسيم الدفن القدسية (1 صموئيل 31: 12- 13، طوبيا 2: 4- 8)، ويعتبر البقاء دون دفن لعنة (تثنية 21: 23، 1 ملوك 4 1: 11. إرميا 16: 4). كذلك نرى أيضا ًإن الاعتناء بالمقابر (تكوين 23: 4- 20، 49: 29- 32، 50: 12- 13)، وتقديم وجبات الترحيم (إرميا 16: 7)، والتقدمات على مقابر الأموات (طوبيا 4: 17). بالرغم من أنها توضع " أمام أفواه مغلقة" (سيراخ 30: 18)، هي مظهر من مظاهر التقوى العائلية. ومع ذلك، فالوحي، منذ القدم، يضع حدوداً لهذه العادات المرتبطة عند الشعوب المجاورة بمعتقدات خرافية: من هنا كان منع التخديش الطقسي (لاويين 19: 28، تثنية 14: 1)، وعلى وجه الخصوص. حظر اللجوء إلى أصحاب التوابع والعرافين ( لاويين 19: 31، 0 2: 27، تثنية 18: 11)، وكان ذلك بمثابة تجربة خطيرة للشعب الإسرائيلي. في عصر الدهر في السحر وعادة استدعاء الأرواح (تاجر الأوديسَا)، كما يتعاطى عالم اليوم بتحضير الأرواح (1 صموئيل 28 ، 2 ملوك 1 2: 6). لا توجد إذن في العهد القديم عبادة الموتى بمعنى الكلمة، كما كانت معروفة عند المصريين: إن الظلام الذي كان يكتنف حياة ما بعد القبر ساعد، بكل تأكيد، الإسرائيليين على التحصن منها.
4. الموت قدر الإنسان:
الموت هو القدر المشترك لجميع الناس "طريق الأرض كلها " (1 ملوك 2: 2، راجع 2 صموئيل 14: 14، سيراخ 8: 7). وإذ يشكل الموت نهاية لحياة كان أحد فإنه يترك بصمة على شخصيته: موت الآباء "وقد شبعوا من الأيام" (تكو"ت 25: 8، 35: 29)، موت موسى الغامض (بنية 34). موت شاول المأساوي (1 صموئيل 31...). ولكن أمام هذه الضرورة المحتومة. لا يسعنا إلا أن نشعر بأن الحياة التي طالما اشتهيناها لست سوى خير هش وزائل. إنها ظل ونفخة وعدم (مزمور 39: 75، 89: 48- 49: 90، أيوب 14: 1-12، حكمة 2: 2- 3)، إنما باطلة طالما أن القدر النهائي هو واحد للجميع (جامعة 3، مزمور 49: "8...)، حتى الملوك منهم (سيراخ 10: 12)! فهي حقيقة أليمة تولَد أحياناً، في مواجهة هذا القدر الحتمي. استسلاماً للواقع (2 صموئيل 12: 23، 14: 14). وذلك. فالحكمة الحقيقية تذهب إلى أبعد من ذلك، إنها تقبل الموت كقضاء إلهي (سيراخ 41: 4) يبرز تواضع الحالة البشرية تجاه الله الحي الذي لا يموت، لأن الذي من التراب فإلى التراب يعود (تكوين 3: 19).
5. سلطان الموت:
بالرغم من كان شيء، يرى الإنسان الحي في الموت قوة معادية، وعلى الفور يعيره وجهاً ويصيره شخصية. فهو الراعي الكئيب الذي يدخل الناس المخ الجحيم (مزمور 49: 15). وهو الذي ينفذ إلى المنازل لكي يحصد الأطفال (إرميا 9: 20). لا شك أن الموت يلبس، في العهد القديم، هيئة الملاك المهلك، والمنفّذ للغضب ا لإلهي (خروج 12: 23، 2صموئيل24: 16، 2 ملوك 19: 35)، لا بل أنه يلبس أيضاً هيئة الكلمة الإلهية التي تهلك خصوم الله (حكمة 18: 15- 16). ولكن غالباً ما تتخذ هذه القوة، التي تزوَد بالضحايا الجحيم الذي لا يشبع (أمثال 27: 20)، ملامح قوة سفلية نشتم رائحتها الخبيثة في كل مرض وكل خطر يحدق بنا. ولهذا يرى المريض نفسه مسبقاً "في عداد الموتى" (مزمور 88: 4- 6). إن الإنسان المعرض للخطر تحاصره مياه الموت وسيول الفجور وحبائل الهاوية (مزمور 18: 65، مزمور 69: 15 16، 116: 3، يونان 2: 74). فليس الموت والجحيم إذاً من حقائق الحياة الأخرى فحسب، بل هيَ قوى" تعمل في الحياة الدنيا، والويل لمن يقع بين مخالبها! فحياة الإنسان ليست في نهاية الأمر سوى صراع ضد قوى الموت.
ثانياً: معنى الموت
1. أمل الموت:
طالما توقظ خبرة الموت في الإنسان مثل هذه الأصداء، فلا يمكن حصره في مجرد ظاهرة طبيعية، قد تستوعب الملاحظة الموضوعية كل مضمونها. ولا يمكن أن يكون الموت خالياً من المعنى. فهو يناقض بعنف رغبتنا في الحياة، ويثقل علينا كقصاص، ولهذا، وبطريقة غريزيّة، فإننا نرى فيه جزاء للخطيئة. من هذه البديهة المشتركة بين الديانات القديمة، يقيم العهد القديم عقيدة ثابتة تبرز المعنى الديني لخبرة جد مرة: تطلب العدالة هلاك الشرير (أيوب 18: 5- 21، مزمور 32: 20 و28 و36، 73: 27). والنفس التي تخطئ يجب أن تموت (حزقيال 18: 20). وفي الواقع، يضيء هذا المبدأ الأساسي لغز حتمية الموت على هذه الأرض: في الأصل، لم يصدر حكم الموت ضد البشر، إلا بعد خطيئة آدم، أبينا الأول (تكوين 2: 17، 3: 19)، لأن الله لم يصنع الموت (حكمة 1: 13)، فلقد خلق الإنسان، لعدم الفساد، والموت، كما نختبره لم يدخل العالم إلا بحسد إبليس (حكمة 2: 23- 24). فيحمل إذاً سلطانه علينا قيمة الرمز: إنه يعلن واقع الخطيئة في الحياة الدنيا.
2. طريق الموت:
الآن وقد توضّح هذا الرباط بين الخطيئة والموت، نستطيع أن نرى جانباً كاملاً من وجودنا على وجهه الحقيقي، فالخطيئة شر، لا لأنها تضاد فقط طبيعتنا " وتخالف الإرادة الإلهية. ولكنها بالأحرىَ تشكل. بالنسبة لنا، واقعياً، طريقاً إلى الموت. وذلك هو تعليم "الحكماء": من يتبع الشر نحو الموت يمضي (أمثاله11: 19)، ومن يسير وراء " الجهالة "فمصيره إلى أودية الجحيم (7: 27، 9: 18). لقد سبق وفتح الجحيم فاه لكي يبتلع الخطاة (إشعيا 5: 14)، وها هوذا قورح وعصابته قد هبطوا فيه أحياء (عدد 16: 30، مزمور 55: 16). ويسير المنافق وعلى طريق زلق (مزمور 73: 18- 19)، أو من الآن في حكم الأموات، لأنه قطع مع الموت عهداً ة فأصبح من حزب (حكمة 1: 16)، ولهذا سيصبح مصيره النهائي موضوع عار بين الأموات إلى مدى الدهور (حكمة 4: 19). إن قانون حكم العناية الإلهية لا يبقى بدون انعكاسات تطبيقية في حياة إسرائيل: فمرتكبو الخطايا الجسيمة يستوجبون عقوبة الموت (لاويين 20: 8- 21، 24: 14-23) وعليه، فالموت، بالنسبة إلى الخطأة، لا يشكّل قدراً طبيعياً: إنه حرمان من أعز خير منحه الله للإنسان، ألا وهو الحياة. وبالتالي فهو يتخذ طابع اللعنة. 3. ولكن ما القول، والحالة هذه، في موت الأبرار، قد ندرك ذلك نوعاً ما، إن نحن أخذنا بمبدأ التضامن البشري، فيُعاقَبَ الأبُ بموت ابنه ( 2 صموئيل 12: 14... راجع خروج25: 5). ولكن، إن صح أن كل امرئ يدفع حساب أعماله (راجع حزقيال 18) فكيف نبرر موت الأبرياء يبدو، في الظاهر، أن الله يهلك الباشَ والمذنب على السواء (أيوب 9: 22، 1لجامعة 7: 15 مزمور 49: 11). كل يبقى بعدُ لموت هؤلاء من معنى، وهنا يصطدم إيمان العهد القديم بلغز غامض. وللتوصل إلى حله، يجب الانتظار حتى يلقي الوحي الضوء على سر الحياة الأخرى.
ثالثاً: النجاة من الموت
1. الله يخلَص الإنسان من الموت:
ليس بمقدرة الإنسان أن يخلَص نفسه من الموت. إذ تلزمه لذلك نعمة الله الذي هو وحده الحي بحكم طبيعته. ولهذا. عندما يشعر الإنسان بسلطان الموت عليه. بأي شكل كان. فإنه لا يستطيع إلا أن يصرخ نحو الله (مزمور 6: 5 ،13: 4، 116: 3). فإن كان بارزاً فإنه يتشجع على أمل أن الله "لن يترك نفسه في الجحيم" (مزمور 16: 10)، "وأنه سيفتدي نفسه من براثن الجحيم" (مزمور 49: 16). وبعد شفائه ونجاته من الخطر ، فانه يشكر الله لأنه أنقذه من الموت (مزمور 18: 17، 30 يِونان 2: 7، إشعيا 38: 17)، بعدما يكون قد مرَ فعلاً بمثل هذا الاختيار. وحتى قبل أن يتعدى بإيمانه خلود الحياة الحاضرة، فإنه يعرف أن القدرة الإلهية أقوى من الموت والجحيم. ويشكَل هذا الاعتقاد الخطوة الأولى في طريق الرجاء الذي سيجد ازدهاره أخيراً في عقيدة الخلود.
2. التوبة والنجاة من الموت:
فضلاً عن ذلك، في إطار الحياة الحاضرة، لا يهب الله هذه النجاة من الموت دون تمييز. فهناك شروط ومطالب دقيقة: إن الخطيئة سبب موت الخاطئ، ولا يسر الله بموته، بل بأن يتوب عن طريقه ويحيا (حزقيال 18: 33، 33: 11). وإذا كان بالمرض يضع الله الإنسان في خطر الموت، فهذا لكي يقومه عندما يتوب عن خطيئته. ينتزعه الله من الحفرة الجهنمية (أيوب 33: 19-30). من هنا تظهر أهمية الإنذارات النبوية التي تدعو الإنسان إلى التوبة، وتهدف إلى إنقاذ النفس من الموت (حزقيال 3: 18- 21، راجع يعقوب 5: 20). هذا هو نفس الأسلوب الذي يستعمله المربي، عندما يؤنب الطفل لكي ينتشله من الشر (أمثال 32: 13- 14). الله وحده ينقذ البشر من الموت، ولكن ليس بدون مساهمة الإنسان.
3. النجاة النهائية من الموت:
سيبقى مع ذلك أمل النجاة من الموت باطلاً، ما لم بتجاوز حدود الحياة الأرضية. يشهد على ذلك قلق أيوب، وتشاؤم صاحب كتاب الجامعة. ولكن، في زمن لاحق، بذهب الوحي إلى أبعد من ذلك. إنه يعلن عن انتصار عظيم لله على الموت، وعن نجاة نهائية للإنسان الذي يتحرر من قبضته. عندما يقيم الله ملكه في آخر الأزمة، فإنه سوف يبيد إلى الأبد هذا الموت الذي لم يأت من أوجده في البدء (إشعيا 25: 8). فحينئذ، للاشتراك في ملكه، يقوم الأبرار الراقدون في تراب الجحيم للحياة الأبدية، بينما سيمكث الآخرون في أهوال الجحيم الأبدي (دانيال 12: 2، راجع إشعيا 26: 19). بهذا التطلع الجديد، بصبح الجحيم بطريقة نهائية، موضع الهلاك الأبدي، بمفهومنا الحالي. وقد عبّر أصحاب المزامير من قبل عن أملهم في أن الله سوف ينقذهم إلى الأبد من قوة الجحيم (مزمور 16: 10، 49: 16). والآن تتحقق هذه الأمنية. وكما رفع أخنوخ دون أن يرى الموت (تكوين 5: 24، راجع عبرانيين 11: 4)، سوف يرفع الرب الأبرار إليه. ويأخذهم في مجده (حكمة 4: 7، 5: 1- 3 و15). ومن أجل هذا، منذ الحياة الدنيا، رجاؤهم مملوء خلوداً (حكمة 3: 4). وهذا ما يفسر لنا كيف أن شهداء زمن المكابيبن، وكان قد أنعشهم إيمان كهذا، استطاعوا أن يواجهوا العذاب ببطولة (2 مكابيين 7: 9 و 4 1 و 23 و 33، راجع 14: 46)، بينما نرى يهوذا المكابي، مدفوعاً بنفس الفكرة، يقيم الصلاة من أجل الأموات (2 مكابيين 12: 43- 45). ومنذ ذلك الحين، يصغر شأن الحياة الحاضرة، بالنظر إلى الحياة الأبدية.
4. ثمار موت الأبرار:
حتى قبل أن بوجه الوحي أنظار الجميع إلى مثل هذه التطلعات، كان قد سبق وألقى بعض الأضواء على لغز موت الأبرار، مظهراً ثماره. ذلك أن يحكم على الباز بالذات، وأن يموت عبد الرب ويقطع من أرض الأحياء، هذا أمر لا يخلو من معنى: فوته ذبيحة تكفيرية مقدمة إرادياً عن خطابا البشر، بها بلغ القصد الإلهي (إشعيا 53: 8- 12) وهكذا تنكشف مقدماً أغمض سمة من التدبير الخلاصي الذي سيتحقق بالفعل في حياة يسوع. والموت.
العهد الجديد
في العهد الجديد. تتجه الخطوط الرئيسية للوحي السابق نحو سر موت المسيح. هنا يظهر كلّ التاريخ البشري كدرامة هائلة للحياة والموت. حتى مجيء المسيح وفي غيبته. كان الموت سائداً على العالم. ثم يأتي المسيح، و.بموته ينتصر على الموت نفسه. منذ تلك اللحظة، تغير معنى الموت بالنسبة لا بشرية المتجدَدة التي تموت مع المسيح لتحيا معه إلى الأبد.
أولاً: مملكة الموت
1. عودة إلى الأصل:
بدأت الدرامة مع بداية التاريخ البشري بمعصية الإنسان، قد دخلت الخطيئة العالم، وبالخطيئة الموت (رومة 5 : 12 و17، 1 كورنتس 15- 21). ومنذ ذلك الحين ، يموت الجميع في آدم (15: 22)، حتى إن الموت يملك على العالم (رومة 5: 14)0 إن هذا الإحساس بوطأة الموت، الذي يعبر عه العهد القديم بطريقة قوية جداً بالتالي يطابق حقيقة موضوعية، ووراء ملك الموت الشامل، يرتسم ملك الشيطان "رئيس هذا العالم،، مهلك الناس منذ البدء (يوحنا 8: 44).
2. البشرية تحت سلطان الموت:
إن الذي يعطي القوة لسلطان الموت هذا، هو الخطيئة: إنها "شوكة الموت" (1 كورنتس 15: 56= هوشع 13: 14)، لأن الموت هو ثمرتها وعاقبتها وأجرتها (رومة 6: 16 و21 و23). ولكن تجد الخطيئة ذاتها في الإنسان شريكاً لها: الشهوة (رومة 7: 7)، إنها هي التي تلد الخطيئة التي بدورها تلد الموت (يعقوب 1: 15). وبأسلوب آخر إنه الجسد" الذي ينزع إلى الموت ويثمر الموت (رومة 7: 5، 8: 6). ومن هنا تحول جسدنا الذي كان أصلاً خليفة لله، إلى "جسد موت (7: 24). وفي مأساة العالم، لم تفلح الشريعة لتصدّ عوامل الموت العاملة فينا، بل اتخذت الخطيئة من الشريعة سبيلآ لغوايتنا وإماتتنا (7: 7-13). قد أعطت الشريعة معرفة الخطيئة (3: 20). بدون قوة التغلب عيها، وهكذا حكمت على الخاطئ صراحة بالموت (راجع 5: 13- 14)، فأصبحت " قوة الخطيئة" (1 كورنتس 15: 56). ولهذا فإن خدمة هذه الشريعة التي كانت مقدسة وروحية في ذاتها (رومة 7: 12 و 14)، والتي كانت رغم ذلك مجرد شريعة حرفية عاجزة عن مع قوة الروح قد لم تحقَق بالفعل إلا خدمة موت (2 كورنتس 3: 7). فبدون المسيح، كانت البشرية غارقة في ظلال الموت (متى 4 ة 16، لو 1: 79. راجع إشعيا 9: 1): ولذا كان الموت في كان عنصرا أساسياً من عناصر تاريخها، ويبقى أحد الكوارث التي يعاقب بها الله عالماً خاطئاً (رؤيا 6: 8، 8: 9، 18: 8). من هنا كان الطابع المفجع لحالتنا: فنحن نسلم إلى سلطان الموت دون هوادة فكيف يمكن أن تتحقق واقعياً هذه البشرى التفاؤلية التي نوهت عنها الكتب المقدسة.
ثانياً: المواجهة بين المسيح والموت
1. المسيح يتقبل عقابنا أي الموت:
تتحقق مواعيد الكتب المقدسة بفضل المسيح لكي يحررنا من سلطان الموت، أراد أولاً أن يتّخذ طبيعتنا المعرضة للموت. لم يتمّ موته عن طريق الصدفة، فقد سبق وأعلنه لتلاميذه لكي يحصّنهم من العزة " الممكن حدوثها بينهم (مرقس 8: 31، 9: 31، 10: 34، يوحنا 12: 33، 18: 32). لقد اشتهاه بمثابة معمودية قد تغمره في مياه الهاوية (لوقا 12: 50، مرقس 10: 38، راجع مزمور 18: 5). حقاً لقد اضطرب أمام الموت (يوحنا 12: 27، 13: 21، مرقس 14: 33)، كما ارتعشت نفسه أمام قبر لعازر (يوحنا 11: 33 و38)، وابتهل إلى الآب القادر على إنقاذه من الموت (عبرانيين 5: 7، لوقا 22: 42، يوحنا 12: 27)، ولكنه في النهاية، قبل هذه الكأس المرة (مرقس 0 1: 38// 4 1: 0 3// يوحنا 18: 11). ولكي يعمل إرادة الأب (مرقس 14: 36)، صار مطيعاً حتى الموت " (فيلبي 2: 8)، لأنه كان يجب عليه أن "يتمم " الكتب " (متى 26: 54). ألم يكن هو نفس " العبد الذي تنبأ عنه إشعيا والبار" الذي وضع في مصاف الأثمة (لوقا 22: 37، راجع إشعيا 53: 12) وعلى الرغم من أن بيلاطس لم يجد فيه ما يستوجب حكم الموت (لوقا 23: 4 و 22، أعمال 3: 13: 13: 28)، فلقد قبل أن يتّخذ موته صورة العقاب الذي تستوجبها الشريعة (متى 26: 66). ذلك لأنه بحكم أنه "ولد تحت الشريعة" (غلاطية 4: 4)، وأنه أخذ جسداً يشبه جسدنا الخاطئ (رومة 8: 3)، فقد صار متضامناً مع شعبه، ومع كل الجنس البشري، و "جعله الله خطيئة من أجلنا " (2 كورنتس 5: 21، راجع غلاطية 3: 13)، فوضع عليه القصاص الذي استوجبته الخطيئة البشرية. لذا، عندما مات، أبطل كل سلطان الخطيئة (رومة 6: 10)، رغم براءته، وأخذ على عاتقه حتى النهاية أوضاع الخطأة " ذائقاً الموت! مثلهم جميعاً (عبرانيين 1: 18، 2: 8 9، راجع 1 تسالونيكي 4: 4 1، رومة 8: 34)، ونازلاً على غرارهم " إلى الجحيم ". ولكن بذهابه هذا عند الموتى، حمل لهم هذه البشرى السارة ألا وهي إعادة الحياة إليهم (1 بطرس 3: 19، 4: 6).
2. المسيح يموت من أجلنا:
حقاً، لقد كان موت المسيح خصباً مثل موت حبّة الحنطة الملقاة في الأرض (يوحنا 12: 24- 32). وإن بدا في الظاهر كعقاب للخطيئة، إلا أنه كان في الحقيقة ذبيحة تكفيرية (عبرانيين 9، راجع إشعيا 53: 10) بموته، فدى المسح الشعب متمماً حرفيا، ولكن بمنحى آخر، نبوءة قيافا غير المقصودة (يوحنا 11: 50-51، 18: 14) لا من أجل شعبه فقط، بل من أجل جميع الناس " (2 كورنتس 5: 14- 15). وأن يكون قد مات من "أجلنا" (1 تسالونيكي 5: 10)، بل كنا خطأة (رومة 5: 6- 8)، معطياً لنا بذلك أعظم علامة للمحبة (رومة 5: 8- 9، يوحنا 15: 13، 1 يوحنا 4: 10). و 9 من أجلنا "، ليس معناه أنه يموت بدلاً منا، وإنما لصالحنا، لأنه إذ يموت "من أجل خطايانا" (1 كورنتس 15: 3، 1 بطرس 3: 18) يصالحنا مع الله (رومه 5: 10) ويؤهلنا لقبول الميراث الموعود (عبرانيين 9: 15 - 16 ) .
3. المسيح ينتصر على الموت:
يستمدّ موت المسيح هذه الفاعلية الخلاصية من مواجهته للعدوّ القديم للجنس البشري وبانتصاره عليه. ومنذ حياته الأرضية كانت تبدو علامات هذا الانتصار في المستقبل، عندما كان يعيد الحياة للموتى (متى 18:9-25، لوقا7 : 14 - 15 يوحنا 11) وفي ملكوت الله الذي أنشأه، حيث كان الموت يتقهقر أمام من كان " القيامة والحياة " (يوحنا 11: 25). وأخيراً واجهه في عقر داره وانتصر عليه في اللحظة التي كان يبدو الموت فيها أنه قد هزمه. ونزل إلى الجحيم بكل سلطان. ليخرج منه من شاء، إذ "بيده مفتاح الموت والجحيم " (رؤيا 1 : 18) ولأنه ذاق ألم الموت كله الله بالمجد (عبرانيين 2: 9). وحققت هذه القيامة" من الأموات ما كانت الكتب المقدسة تنبأت عنها (1 كورنتس 15: 4)، وأصبح "البكر بين الأموات " (كولسي 1: 18، رويا 1: 15). والآن، وقد خلصه الله من أهوال الجحيم (أعمال 2: 24) وفساد الهاوية (أعمال 2: 31)، أصبح واضحاً أن الموت فقد كل سلطان عليه (رومة 6: 9). وبالفعل عينه أبطلت قوة إبليس المتسلط على الموت (عبرانيين 2: 14). لقد كان هذا بمثابة أول ثمر لانتصار المسيح: "تواجه الموت والحياة في مبارزة هائلة. فمات سيد الحياة، ولكن بقيامته، تملك إلى الأبد" (مراسيم عيد القيامة في الطقس اللاتيني). منذ تلك اللحظة، تغيرت علاقة البشر بالموت، فالمسيح المنتصر يضيء من الآن فصاعداً "الشعب الجالس في ظلال الموت" (لوقا 1: 79). فقد حرّرهم من "شريعة الخطيئة والموت" هذه التي كانوا مستعبدين، لها حتى ذلك الزمان (رومة 8: 2، راجع عبرانيين 2: 15). ختاماً، في آخر الأيام، سيبرز انتصاره الباهر عند القيامة العمومية. عندئذٍ سوف يبيد الموت إلى الأبد، إذ قد ابتلع الظفر الموت (1 كورنتس 15: 26 و54- 56). وسوف يرد الموت والجحيم فرائسهما. بعدها، سيلقيان مع إبليس في بركة النار والكبريت، هذا هو الموت الثاني (رؤيا 20: 10 و13-14). هكذا سيتم انتصار المسيح النهائي "أيها الموت، سأكون موتك أيها الجحيم، سأكون شوكتك" (افتتاحية تسابيح بوم سبت النور في الطقس اللاتيني).
ثالثاً: المسيحي في مواجهة الموت
1. مشاركة المسيح في موته:
إن المسيح باتّخاذه طبيعتنا، لم يتقبل موتنا فقط ليظهر تضامنه مع حالتنا الخاطئة، بل بصفته رأس البشرية الجديدة، آدم الجديد (1 كورنتس 45:15، رومة 5: 14)، كان يحوينا جميعاً في شخصه عندما مات على الصليب. من هذا المنطلق، بموته، "مات الجميع" بطريقنا (2 كورنتس 14:5). مع هذا. يجب أن يصبح هذا الموت لكل واحد منهم حقيقة فعلية. وهذا هو معنى المعمودية التي، بقوة بلسر الفعالة تتحدنا بالمسيح المصلوب: إذ اعتمدنا بموته ودفنا معه متشبّهين به (رومة 6: 3- 5، فيلبي 3: 10). ومنذ الآن فصاعداً، نحن أموات، وحياتنا محتجبة مع المسيح في الله (كولسي 3: 3). وهذا الموت السري هو الوجه السلبي لنعمة الخلاص. إننا هكذا نموت عن هذا التدبير القديم الذي كان يظهر سلطان الموت في الحياة الدنيا: نحن نموت عن الخطيئة (رومة 6: 11)، عن الإنسان العتيق (6: 6)، عن شهوات الجسد (غلاطية 5: 24)، عن الجسد (رومة 6: 6، 8: 10)، عن الشريعة (غلاطية 2: 19) وعن كل أركان العالم (كولسي 20:2).
2. الانتقال من الموت إلى الحياة:
يشكّل هذا الاتحاد بموت المسيح، في الحقيقة، موتآ للموت. حين كنا مستعدين للخطيئة، كنا عندئذٍ أمواتاً (كولسي 2: 13، راجع رؤيا 3: 1). أمَا الآن، فنحن أحياء، "قمنا من الموت " (رومة 6: 13)، وتحرّرنا من الأعمال الميتة (عبرانيين 6: 1 : 9: 14). وقد قال السيد المسيح إن من يسر كلامه ينتقل من الموت إلى الحياة (يوحنا 5: 24)، ومن يؤمن به فلا يخشى شيئاً، وإن مات فسيحيا (يوحنا 11: 25). هو ربح الإيمان " في حين أن الذي لا يؤمن سوف يموت في خطاياه (يوحنا 8: 21 و 24). لأن عبير المسيح سيصبح بالنسبة إليه رائحة موت (2 كورنتس 2: 16). وهكذا تتكرر مأساة الإنسانية في صراعها مع الموت، في حياة كل واحدٍ منا، وترتبط خاتمتها بالنسبة إلينا بموقفنا إزاء المسيح والإنجيل. فهي الحياة الأبدية لمن يحفظ كلام الرب حيث لا يرى الموت إلى الأبد. وهي للآخرين أهوال " الموت الثاني "
3. الموت اليومي:
غير أن اتحادنا بموت المسيح المتحقّق سرياً في المعمودية" يجب أن يتم فعلياً أيضاً في حياتنا اليومية. هذا هو معنى الزهد الذي بواسطته " نقمع " أعني" نميت " فينا أعمال الجسد (رومة 8: 13) أي أعضاءنا التي على الأرض مع أهوائها (كولسي 3: 5). هذا هو أيضاً معنى كل ما نشاهده فينا من عوامل الموت الطبيعية ذلك لأن معنى الموت قد تغير، مذ جعله المسيح وسيلة للخلاص. على تلميذ المسيح أن يبدو للبشر، في ضعفه، كمائت (2 كورنتس 6: 9)، وأن يكون دائماً عرضةً للموت (فيلبي 1: 20، 2 كورنتس 1: 9- 10، 11: 23)، وأن يذوق الموت كل يوم (1 كورنتس 15: 31). فهذا لم يعد علامة الهزيمة: إنه يحمل في داخله آلام موت المسيح، حتى تظهر أيضاً حياة يسوع في جسده، إنه مسلم للموت من أكل يسوع، حتى تظهر حياة يسوع في جسده الثاني، وعندما يتمّم الموت عمله فيه، فإن الحياة تعمل في المؤمنين (2 كورنتس 4: 10- 12). إن هذا الموت اليومي يحقق إذن موت يسوع فعليّاً، ويمد خصوبته إلى جسده الذي هو الكنيسة.
4. في مواجهة الموت الجسدي:
في الاتّجاه عينه، يأخذ الموت الجسدي بالنسبة إلى المسيحي معنى جديداً. لم يعد فقط قدراً حتمياً نستسلم له أو قضاء إلهياً نقبله أو حكماً تستوجبه الخطيئة. "يموت المسيحي من أجل الرب"، كما أنه كان يحيا من أجله (رومة 14: 7- 8، راجع فيلبي 1: 20) وإذا مات شهيداً من أجل المسيح، سافكاً دمه للشهادة، فإنّ موته يشكل إراقة تتخذ قمة الذبيحة في نظر الله (فيلبي 2: 17، 2 تيموتاوس 4: 6). إن هذا الموت الذي به "يمجّد الله" (يوحنا 21: 19) يستحق له إكليل الحياة (رؤيا 2: 10، 12: 11). بعد أن كان الموت مصيراً مقلقاً، أضحى إذاً موضوع تطويب "طوبى للأموات الذين يموتون في رضا الرب! فليستريحوا منذ اليوم من المتاعب " (رؤيا 14: 13). إن موت الأبرار هر دخول في السلام (حكمة 3: 3)، في الراحة الأبدية وفي النور الذي لا نهاية له : الراحة الأبدية أعطهم يا رب ، وليضيء لهم النور الأبدي . إن أمل الخلود والقيامة الذي كنا نستشفه في العهد القديم قد وجد في سر المسيح أساسه الثابت، فالاتحاد بموته ليس فقط يجعلنا نعيش حالياً حياة جديدة، ولكنه يمنحنا أيضاً الضمان بأن " الذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات سيحيي أيضاً أجسادنا الفانية" (رومة 8: 11). فحينئذٍ بالقيامة سندخل في عالم جديد حيث "لم يبق للموت وجود" (رؤيا 21: 4)، ولن يرى المختارون القائمون مع المسيح "الموت الثاني" (رؤيا 20: 6 راجع 2: 11) وسيكون نصيب المرذولين وإبليس والموت والجحيم (رؤيا 21: 8، راجع 20: 10 و14). ولهذا، في نهاية الأمر، يرى المسيحي في الموت ربحاً ما دام المسيح هو حياته (فيلبي 1: 21). إن وضعه الحاضر الذي يقيَده بجسده الفاني يسبب له إرهاقاً، فهو يؤثر هجره لكي يقيم في جوار الرب (2 كورنتس 5: 8)، إنه يتعجل ارتداء لباس المجد المعد للقائمين، حتى تبتلع الحياة ما هو زائل فينا (2 كورنتس 5: 1- 4، راجع 1 كورنتس 15: 51- 53). إنه يرغب في أن ينطلق ليكون مع المسح (فيلبي 1: 23).