1. المن والتجربة في البرية:إن الشعب، أمام الظروف الحرجة التي تواجهه في البرّية، يضع الله في موضع الامتحان: "أبيننا الرب أم لا ؟ " (خروج 17: 7). فيجيبهم الرب بإظهار مجده، بطرق مختلفة، ومن بينها بعطية المن (16: 7 و 10-12). والمن يطرح الله بدوره السؤال على شعبه لتدربيه وامتحانه: هل ستعترفون بأني إلهكم فتحفظون وصاياي وشرائعي ا؟ (راجع 16: 4 و 28). بإعطاء الله لبني إسرائيل وسيلة العيش هذه ،فإنه في الواقع يشير إلى حضوره الفعال بينهم (16: 10). وكان لهذه العلامة من التأثير ما جعل الشعب يحتفظ بإناء مملوء من المن بجوار لوحي الشريعة في تابوت العهد للذكرى الدائمة (16: 32 -34، راجع 25: 21 عبرانيين 9: 4). وكلّ علامة تتطلّب استجابة. وقد اقترنت عطية المن بتعليمات قصد بها امتحان إيمان بني إسرائيل ممن يوفّرها لهم: عليهم أن يجمعوا المن يوماً بيوم، دون أن يبقوا أي شيء لليوم التالي، ما عدا ليلة السبت حيث يجب جمع مؤونة يومين احتراماً لراحة السبت. وهكذا صار المن وسيلة لإظهار طاعتهم لله وثقتهم بكلمته (خروج 16: 16-30). يضاف إلى ذلك، أن القطائف المصنوعة من المن المطبوخ وإن كانت لا تخلو من مذاق، إلا أنها كان لها الطعم نفسه، فيمل إسرائيل منه ويتذمر. دون أن يدرك مغزى الاختبار: فبدلاً من الاعتماد دوماً على الأطعمة الأرضية، على الإنسان أن يطلب الطعام الآتي من السماء هذا الطعام السري الذي كان يرمز إليه المن، ألا وهو كلمة الله (تثنية 8: 2- 3). 2. المن والانتظار الإسكاتولوجي:عندما أخذ إسرائيل بتأمل ماضيه أثناء الصلاة في حضرة الله، بدأ يشيد بعطية المن: "حنطة السماء" و"خبز الأقوياء" وخبز الملائكة ساكني السماء (مزمور 78: 23- 25، 105: 40، نحميا 9: 15). وفي مديح " الحكماء " لهذه العطية المعجزة، يتبارون في إيجاد الصفات التي لا بد أن يحتويها هذا الطعام السماوي، الذي سيمنحه الخالق لبنيه في الوليمة الاسكاتولوجية. ويشير صاحب " الحكمة " إلى هذا الغذاء الذي ينتظره إسرائيل عندما يقول: إن من المستقبل سيلائم كل ذوق ويتكيّف مع شهرة أولاد الله. وعندما يذوقون طعمه، سيزدادون في تذوّق عذوبة الخالق الذي يسخر الخليقة في خدمة المؤمنين به (حكمة 16: 20- 21 و25- 26). ويتحدّث القديس يوحنا في سفر الرؤيا عن هذا المنّ قائلا ًإن الله وعد به من انتصروا على الشيطان والعالم بإيمانهم وشهادتهم (رؤيا 17:2، راجع 1 يوحنا 5: 4- 5).3. المنّ وخبز الله الحقيقي: وفي البريّة يؤيد السيد المسيح العبرة التي يعطيها العهد القديم ويحياها: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله " (متى 4: 1- 4، راجع تثنية 8: 3). وهو يحدد هذا التعليم عندما يشبع شعب الله بمعجزة الخبز. فيثير هذا الخبز الذي أشبع الآلاف (متى 14: 20، 15: 37، راجع مزمور 78: 29) حماسةً لا تتفق مع الإيمان الذي يطالب يسوع به (يوحنا 6: 14- 15). وأسوة بالشعب، لم يدرك التلاميذ ما لهذه العطية وهذه المعجزة من معنى. أما الفريسيون والصدوقيون، العديمو الإيمان، فيطلبون في تلك اللحظة عيها"آية من السماء " (متى 16: ا- 4، راجع يوحنا 6: 30- 31، مزمور 78: 24- 25). إلا أن المنّ الحقيقي النازل من السماء ليس هو المن الذي لم يمنع آكليه من الموت، بل هو يسوع نفسه (يوحنا 6: 32- 33)، الذي يقبله المرء بالإيمان (يوحنا 6: 35- 50): هو جسده الذي يبذله ليحيا به العالم (6: 51-58). ويرى بولس أيضاً في هذا " الطعام الروحاني " الحقيقة التي كان يرمز إليها سابقا ًالمن الذي أعطي في البرّية (1 كورنتس 10: 3- 4). لذلك كان من حق الكنيسة أن تستخدم في طقوسها تلك الرموز الكتابية الخاصة بالمن. وعدما يتناول المؤمن خبز المائدة الأفخارستية الذي يحتفظ بنفس الظواهر الخارجيّة مثل المن، فإنه يتجاوب مع علامة من الله، ويؤكد إيمانه بكلمته الذي نزل من السماء. ولذلك فإنه منذ الآن "يتغذى بطعام الملائكة، الذيَ صار خبز عابري السبيل " (تقليد طقسي في الكنيسة الغربية). هذا الخبز يشبع كل احتياجاتهم و يلائم كلَ أذواقهم ، في مسيرة " الخروج " الجديد لشعب الله. وعلاوة على ذلك " يفوز المؤمن منذ الآن بالانتصار في الجهاد الذيَ عليه أن يخوضه أثناء رحيله لأنه يتغذى فعلاً بخبز الله نفسه ويحيا بحياته الأبدية (يوحنا 33:6 و 54 و 57-58. رؤيا 2: 17).