مقدمة
في الشرق القديم، كان النظام الملكي مرتبطاً دوماً ارتباطاً وثيقاً بأسطورة الملكية الإلهية، المنتشرة بين مختلف حضارات تلك الحقبة. وبذلك، كان نظاماً مقدّساً يؤول، بدرجات مختلفة، إلى دائرة الإلهيّات. ففي مصر، كانوا يعتبرون الفرعون المالك تجسّداً لحورس. وبالتالي تتّخذ كل أعماله طابعاً إلهياً ويؤول إليه الحق في القيام بالممارسات الدينية. وفي بابل، يعتبر الملك مختاراً من ماردوك، ومفوّضاً منه في الولاية على "المناطق الأربع " أي على الأرض كلها. فهو، من جهة، رئيس مدني وقائد عسكري، ومن جهة أخرى، الكاهن الأعظم في المدينة. وفي كلتا الحالتين، يجعل المنصب الملكي من صاحبه الوسيط، بحكم أصله، بين الآلهة والناس. وليس على الملك فقط أن يكفل لهؤلاء الناس العدل والنصر والسلام، وإنّما بواسطته تأتي كلّ بركات السماء، بما فيها خصب الأرض والخصوبة البشرّية والحيوانية. وهكذا يمتزج نظام الملكيّة بالروايات الأسطورية وبالعبادات القائمة على تعدّد الآلهة. وفي عصر لاحق، سوف يتبنّى عهد الإغريق وعهد الرومان الأفكار الأساسيّة لهذا النظام، عندما يؤلهان ملوكهما. وهذه هي الخلفيّة التي يبرز عنها، بكامل أصالته، وحي الكتاب المقدّس. ويحتلّ موضوع ملكوت الله في العهدين (القديم والجديد) مركزاً أساسيّاً. ويأخذ موضوع الملك البشري في النمو، انطلاقاً من اختبار بني إسرائيل، ويعمل أخيراً على توضيح ملك يسوع المسيح. ولكن، في كلا الجانبين، يطرأ على هذه الإيديولوجيّة تطهير جذري يجعلها متجانسة مع الوحي بالإله الواحد. وفي صدد الجانب الثاني (أي الملك البشري). تتحوّل هذه الإيديولوجية تحولاً تاماً. فمن جهة، ومنذ البداية تنفصل الملكية كنظام زمني عن دائرة الإلهيات. ومن جهة أخرى، في آخر مرحلة لنمو العقيدة، يتخذ ملك المسيح طابعاً خاصاً يميزه عن نظام العالم السياسي.
العهد القديم
لا يدخل نظام الملكية ضمن النظم الأساسيَة لشعب الله ة الذي يتشكل من اتحاد قبائل يربط عهد سيناء بعضها ببعض. ومع ذلك، فالملكية كانت موجودة في كنعان منذ عصر رؤساء الآباء (تكوين 20)، وعند الشعوب الصغيرة المجاورة منذ عصر الخروج والقضاة (تكوين 36: 31- 39 عدد 20: 14، 21: 21 و33، 22: 4، يشوع 10- 11. قضاة 4: 2 0 8: 5). لكن عندما ألقى إسرائيل على إلهه التصور الملكي، لم يستنتج منه شيئاً بالنسبة لنظمه السياسية: يملك الله على إسرائيل (راجع قضاة 8: 23، 1 صموئيل 8: 7. خروج 19: 6) بموجب العهد. ولكن لا يوجد ملك لا بشري يجسد حضوره وسط شعبه.
أوّلاً: اختبار نظام الملكيّة
1. نظام الملكيهَ:
في زمن القضاة، حاول أبيملك أن ينشئ في شكيم ملكاً من طراز كنعاني(قضاة9: 1- 7). واصطدم النظام بمقاومة مذهبية قويّة (9: 8- 20) ففشل فشلاً مريعاً (9: 22 - 57). ولكن إزاء خطر الفلسطينيين، أخذ شيوخ إسرائيل يرغبون في ملك يقضى بينهم و"يحارب حروبهم" (1 صموئيل 8: 20). ولكنه كان نظاماً ملتبساً، يعرّض إسرائيل للتشبَه "بسائر الشعوب" (58 و20) ولذا فإنّ إحدى روايات الحادث تظهر صموئيل في موقف المعارض (8: 6، 10: 17- 12019: 12) عندما كرس هذا النظام الجديد دينياً. وقام بمنح المسحة لشاول 91: 16- 17، 10: 1) " وترأس تنصيبه ( 10 : 20- 24، 12:11- 15). غير أن الملكية في إسرائيل تندمج في إطار أوسع عندما تتخذ سماته الأساسيّة من ميثاق العهد. فشاول، مثله مثل القضاة رئيس متمتع بموهبة خاصّة، يوجّهه روح " الله (10: 6- 8)، فيقود الحرب المقدسة (11). ويخلفه داود ر جل الروح والشجاعة، ملكاً أولاً في يهوذا (2 صموئيل 2: 1- 4)، ثم في إسرائيل (5: 1-3). على أنه في عهد داود، تتقدم الملكية خطوة إلى الأمام ة فينظم المملكة سياسياً على غرار الدول المجاورة، وتأتي نبوَة ناتان خاصة لتأييد سلالة داود وتجعلها نظاماً ثابتاً في شعب الله للحفاظ على الوعود الإلهية (7: 5-16). منذ ذلك الوقت ، تعلق رجاء شعب الله بمملكة داود. على الأقلَ في جنوب البلاد (راجع عدد 24: 17 تكوين49: 8-12)، حيث يحتفظ النظام الملكي على الدوام بطابع ورائي. وبعكس ذلك. ففي الشمال، سوف تتجه الدوائر الدينية نحو الإبقاء على هذا النظام، معتمداً على المرهبة الخاصَة. ولذا سوف نرى دور بعض الأنبياء في إقامة الملوك (1 ملوك 11: 26- 40، 20 ملوك 9).
2. الوظائف الملكيّة:
لا ينتسب الملك في إسرائيل مثلما هي الحال في الحضارات المجاورة إلى دائرة الإلهيات، فهو لا يزال خاضعاً، أسوة بغيره من الناس، لمتطلبات العهد والشريعة. لا ينفذ الأنبياء يذكرونه في كلّ مناسبة (راجع 1 صموئيل 13: 8- 15، 15: 10- 30، 2 صموئيل 12: 1- 12، 1 ملوك 11: 1 3-39،21: 17- 24). الملك شخصية مقدسة، لا بد من احترام المسحة التي نالها (1 صموئيل 24: 11، 26 : 9). ابتداء من داود، يتحدّد مركز الملك بالنسبة إلى الله: يتخذه ابناً" له بالتبنّي (2 صموئيل 7: 14، مزمور2: 7، 89: 27- 28)، مؤتمناً على سلطاته وقائماً مبدئياً على رأس جميع ملوك الأرض (مزمور 89: 28، راجع2: 8- 12، 18: 44 -46). وإن ظل أميناً، يعده الله في بيته. فينبغي أن يضمن الرخاء لشعبه عن طريق انتصاراته على العدو النازح من الخارج (راجع مزمور 20-21)، وأن يجعل العدل يسود في الداخل (مزمور 45: 4- 8، 72: 1- 7 و12- 14، أمثال 16: 12، 25 : 4 - 5 ، 29 : 4- 14). وبذلك ترتبط ص هامّ الملك الزمنية بالهدف الأساسي من العهد والشريعة"- وفضلاً عن ذلك، باعتباره رئيساً لشعب الله، يمارس الملك، قي بعض المناسبات، بعض الوظائف الطقسية (2 صموئيل 6: 17- 18، 1 ملوك 8: 14 و62- 63)، الأمر الذي يسمح لنا بالكلام عن كهنوت ملكي (مزمور 110: 4). ويتطلع الرجاء القومي نحو الملك المثالي الأمين (مزمور 101)، العادل، المسالم، ويرى فيه، بنوع ما، تتَويجاً له. فعلى السلطة الملكية، تحقيق هذه المثل العليا في أوضاع الواقع .
3. وجه اللبس في اختبار الملكيهَ:
غير أنّ الكتب التاريخية والنبويّة تسجّل الالتباس في اختبار الملكية. وعلى قدر ما يقوم الملوك بالتجاوب مع المثل الأعلى المعين لهم، يساندهم الأنبياء ويمنحهم المؤرخون. هكذا كانت الحال بالنسبة لداود (مزمور 78: 70، 89: 20- 24)، وآسا (1 ملوك 15: 11-15)، ويوشافاط (1 ملوك 22: 43)، وحزقيَال (2 ملوك 18: 3- 7)، و يوشيّا (2 ملوك 23: 25). ولكنّ مظاهر الالتباس ظلت كامنة في مجد سليمان (1 ملوك 11: 1- 13). وأخيراً، يقوم ملوك أشرار عديدون، سواء في إسرائيل (1 ملوك 16: 25- 27 و30- 33) أو في يهوذا (2 ملوك 16: 42 :21: 1- 9 ) . فالواقع أن الملكية في إسرائيل تجتذبها دوماً، وراحة في الشمال، تجربة محاكاة الممالك الوثنيّة المجاورة ليس فقط بتقليد استبدادها (ممّا يندد به 1صموئيل 8: 10 -18)، ولكن بالسقوط في عبادة أصنامه، يدعمها من خارج إسرائيل المفهوم الأسطوري للملكية الإلهية. ولذا فالحركة النبويّة تندد بلا انقطاع بتعديات الملوك، وترى قي الكوارث القومية عقاباً لشروطهم (راجع إشعيا 7: 10- 12، إرميا 21، 22، 36 إلى 38، 2 ملوك 23: 26- 27). فيدين هوشع النظام الملكي في حدّ ذاته (هوشع 8: 4). ويحاول كتاب تثنية الاشتراع تنظيم الملكيّة، محذراً الملوك ضد الاقتداء بالملوك الوثنيّين (تثنية 17: 14- 20).
4. الملوك الوثنيون:
إن موقف الكتب المقدّسة بشأن الملوك الوثنيين، متفاوت في الحكم، فهم على غرار كل سلطة" أرضية، يستمدّون سلطانهم من لدن الله. فيتدخل أليشاع باسم الله ليثير في دمشق متمرّد حزائيل (2 ملوك 8: 157، راجع 1 ملوك 19: 15). وقد يكلف الله هؤلاء الملوك برسالات خاصة، في تدبيره نحو شعبه. وهكذا قلد نبوكد نصر سلطاناً على الشرق كلّه،. في ذلك إسرائيل (إرميا 27)، ثم أقام كورش ليذلّ بابل ويحرر اليهود (إشعيا 41: 1- 4، 45: 1- 6). إلا أن الملوك يظلون جميعاً خاضعين لمتطلباته. وهو يصدر أحكامه عليهم ليعاقب كبرياءهم، المتمرد على الله (إشعيا 14: 3 -21 حزقيال 28: 1- 19) وتجاديفهم (إشعيا 37: 1 2- 29). وهم أيضاً سيضطرون إلى الخضوع، عندما تأتي الساعة أمام ملكه الأسمى وأمام سلطان مسيحه (مزمور 2،72: 9- 11).
ثانياً: نحو الملك الآتي
1. الوعود النبوية:
وبشأن تقدير التجربة الملكية، من الناحية الدينيَة المحضة، اعتبرها أنبياء كثيرون تجربة فاشلة بل كارثة. أنبأ هوشع بزوالها (هوشع3 : 4-5). وواجه إرميا بصراحة تامة انحطاط أسرة داود الملكيّة (راجع إرميا 21 إلى 22) التي كان يظهر لها إشعيا تعاطفاً كبيراً. وفي تطلعات "الأزمنة الأخيرة"، يشير مجموع ملامح التحقيق الكامل لقصد الله الذي ظهر في دعوه ة داود والذي تحقق جزئياً ورمزياً في بعض حالات النجاح النادرة. في القرن الثامن، يوجه إشعيا أنظاره نحو الملك الآتي ويبشر بميلاده (إشعيا 9: 1- 6). سوف يمنح هذا الملك لشعب الله الفرح والنصر والسلام والعدل. إن سليل يسَى هذا. الذي يستقرَ عليه روح الرب، سوف يقيم مملكة العدلّ (راجع 32: 1-5) إلى حد أن الأرض ستصبح مرة أخرى فردوساً أرضيَاً (11: 1-9). ويجاهر ميخا بنفس الثقة في مجيء هذا الملك (ميخا 5: 1-5). ويعلن إرميا. في نفس الساعة التي يحصل فيها سقوط الأسرة. عن الأيَام التي سيملك فيها نبت داود لصديق (إرميا 23: 5- 6). ويجاهر حزقيال أن بتفحص الإيمان الأساسي إلا أنه يعطي اتجاهاً جديداً. فهو لا يقر لداود الجديد. راعي إسرائيل إلا بلقب "الرئيس" (حزقيال 34: 23- 24، 45: 7-8) وهو أقل رونقاً من لقب " ملك ". وكأني بالنبي يتجاوز العصر الملكي، باحثاً عن المثال الأعلى لإسرائيل في نظام الحكم الإلهي، الذي كان سائداً في عصر موسى النبي. ورسالة التعزية، مع أنها تقيم أيضاً محور رجائها على هذا الحكم الإلهي (راجع إشعيا 52: 7)، فإنها لا تزال تتوقع تتميم الوعود التي وعد الله داود بها (إشعيا 3:55، راجع مزمور 89: 35- 38).
2. في انتظار تحقيق الوعود:
انتهى اختبار الملكية في سنة 587 ق. م. ولم تكن، إجمالاً، إلا فترة- مؤقتة وعارضة في تاريخ إسرائيل. ولكنها تركت أثراً عميقاً في الأذهان. فخلال السبي، يتألم الشعب لإذلال الأسرة المالكة (مرائي 4: 0 2، مزمور 89: 39- 52)، ويضحي من أجل استرجاعها (مزمور 80: 18).إلا أن رسالة زربابل (عزرا 3) أعادت الأمل: لزمن ما، بأن أنجت داود " هذا سوف يقيم ثانية الملكية القوميّة (زكريا 3: 8-10، 6: 9 - 14)، ولكن سرعان ما اضمحل هذا الأمل. وبعد السبي ينظم اليهود أنفسهم على نمط الحكم الإلهي ويخضعون سياسياً لسلطة ملوك وثنيّين يحمون استقلالهم بكل سخاء (راجع عزرا 7: 261)، و يقدّمون الصلوات من أجلهم (6: 10،1 مكابيّين 7: 33). وبإطالة مدة المحنة القومية، يزداد توجه الأنظار نحو " الأزمنة الأخيرة "، التي سبق أن أعلن عنها الأنبياء. فشكل انتظار ملكوت الله مركز الرجاء الاسكاتولوجي. ولكن، في هذا الإطار، يحتل انتظار الملك الآتي دوماً مكاناً هامّاً ويطلقون عليه المزامير الملكية القديمة (مزمور 2، 45، 72، 110)، لكي يتمثلوا ملكه. وتلوح في الأفق صورة ملك عادل، منتصر، ومسالم (زكريا 9: 9- 10). أما الملوك الوثنيّون، فتارة، يظهرون خاضعين لملكه، ومشتركين في عبادة الله الحقّ (راجع إشعيا 60: 16)، وطوراً ينبئ الأنبياء بالحكم عليهم وإدانتهم (إشعيا 24: 21 -22) إذا ما قاوموا ملك الله (دانيال 7: 17-27 ) .
3. على أعتاب العهد الجديد:
إن إعادة الملكية عن طريق أسرة الحثمانيين ، في الوقت الذي كان فيه التيّار الرؤيوي يقبع في انتظار تدخل إعجازي من لدن الله (راجع دانيال 2: 44 45، 12: 1)، لم تكن في خط الرجاء القومي. وبقدر ما يُغرق تمرد يهوذا في إيديولوجيّة الحروب " المقدسة القديمة (راجع 1 مكابيين 3) بقدر ما يبدو تركيز السلطات بين أيدي سمعان (1 مكابيين 14)، بمثابة بدعة جديدة. وفضلاً عن ذلك، فسرعان ما تنبئ الملكيّة الحثمانية عادات وأساليب حكم يستعملها الملوك الوثنيون. ولذا فقد قطع الفريسيون العلاقة بها، وفاء منهم لسلالة داود المزمع أن تتحقق منها ولادة المسيّا (راجع مزامير سليمان). وبموازاة هؤلاء يعارض التيار الأسيني الكهنوت القائم غير الشرعي في نظرهم، وينتظر مجيء "مسيحيي هارون وإسرائيل ": الكاهن الأعظم والملك الخاضع له الذي سيأتي من سلالة داود. ولكن السلطة تنتقل، بعد الحثمانيين، إلى أسرة هيرودس التي كانت تمارس سلطاتها، تحت الرقابة الرومانية. وإذا استثنينا الصدوقيين الذين يتقبلون هذا الوضع، فإن انتظار ملك الأزمنة الأخيرة يشتعل في ظل الشعب اليهودي كلّه. وإذ يحتفظ هذا الانتظار بغرضه الديني، ملك الله النهائي، فإنه يمتزج بطابع سياسي بارز، ينتظر الشعب فيه من الملك المسيا أن يحرّر إسرائيل من الطغيان الأجنبي.
العهد الجديد
ترتكز رسالة العهد الجديد حول موضوع ديني أساسي ألا وهو موضوع ملكوت الله. أما موضوع الملكية المسيحانية الذي يمد جذوره في اختبار إسرائيل ويقوم أساسه على المواعيد النبوية، إنه يساعد أيضاً على وصف دور يسوع، بصفته المؤسس البشري للملكوت. إلا أنه حتَى يتخذ مكانه في الرؤية الكاملة للتدبير الخلاصي، يتجرد هذا الملك تماماً من سماته السياسيّة.
أولاً: ملك يسوع خلال حياته على الأرض
1. هل يسوع ملك؟
خلال رسالته العلنيّة، لم يقل يسوع أبداً أن ينقاد إلى حماسة الجماهير الراغبة في إعلان صفته المسيانية، لما فيه من تطرف وامتزاج بعناصر بشرية وآمال زمنية. فإن يسوع لا يقاوم، لا سلطة أمير الربع هيرودس، الذي كان يخشى أن يكون يسوع منافساً له (لوقا 13: 31 -33، راجع 9: 7- 8)، ولا سلطة القيصر الروماني، الذي له الحق في الجزية (مرقس 12: 13 -17)، بل إنَ رسالة يسوع قائمة على مستوى آخر. ومع أنه لا يتنكر لاعتراف نتنائيل بمسيانيته: " أنت ملك إسرائيل " (يوحنّا 1: 49)، إلا أنه يوجه أنظاره نحو مجيء ابن الإنسان. وعندما هم الجمع، إثر معجزة الخبز، باختطافه لتنصيبه ملكاً، ابتعد عنهم (يوحنّا 6: 15). ولكنه ارتضى بمظاهرة علنية، عند دخوله الإنتصاري أورشليم. وإذ ظهر في مشهد متواضع، على نحو ما جاء في نبوّة زكريا (متى 21: 5، راجع زكريّا 9: 9)، ترك الجمع يهتفون به ملكاً لإسرائيل (لوقا 9 1: 38، يوحنّا 12: 13). ولكنّ هذا النجاح بالذات سيعمل على تعجيل ساعة آلامه. وفي آخر الأمر سوف لا يكلّم ذويه عن ملكوته إلا في الوقت الذي ستبدأ فيه آلامه (لوقا 22: 29- 30)، موجّهاً أنظارهم نحو الأزمنة الأخيرة.
2. الآلام وملك يسوع:
ينصبّ استجواب يسوع خلال قضيته الدينية، حول صفته مسيحاً وابن الله. وبعكس ذلك، في قضيته المدنية أمام بيلاطس، يدور الأمر حول سلطانه الملكي. وينتهز الإنجيليون الفرصة ليكشفوا عن هذا الملك، المعلن من خلال آلامه، بطريقة غير متوقعة عندما سأله بيلاطس "أ أنت ملك اليهود؟" (مرقس 15: 2 يوحنّا 8 1: 33 و37). فلم ينكر يسوع هذا اللقب (يوحنّا 8 1: 37)، ولكنَه يوضح أن "مملكته ليست من هذا العالم" (يوحنّا 18: 36)، فلا مجال للمنافسة بينه وبين قيصر (راجع لوقا 23: 2). وفي عمى قلوبهم وعدم إيمانهم، توصّلت السلطات اليهودية إلى الاعتراف لقيصر بسلطان سياسي وشامل، تمكيناً لها من رفض ملك يسوع (يوحنا 19: 12- 15) إلا أن هذا الملك يتجلى خلال الحركات نفسها التي تحاول السخرية النيل منه. فبعد الجلد، يحيّي الجنود يسوع بوصفه ملك اليهود (مرقس 15: 18) وتعلّق رقعة على الصليب، مكتوب عليها: "يسوع الناصري ملك اليهود" (يوحنا 19: 19- 21). ويتبارى الحاضرون في التهكّم على هذا الملك الهزلي (متى 27: 42، لوقا 23: 37)، ولكنَ اللص اليمين يعترف بحقيقة طبيعته، ويلتمس من يسوع "أن يذكره إذا ما جاء في ملكوته" (لوقا 23: 42). حقّاً، سينال يسوع المجد الملكي، ولكن سيتم ذلك بقيامته ومجيئه الثاني في اليوم الأخير. إنه جاء، مثل الملك المذكور في مثل الإنجيل، حتى يتسلم الملك ولكن تنكّر له مواطنوه، ومع ذلك سوف يتولى ملكه ويعود ليطالب بالحساب وينتقم من أعدائه (لوقا 19: 12- 15 و27). وعلى الصليب، يسطع إذاً الملك أمام الذين ينظرون إلى الأشياء نظرة الإيمان: "إنّ آيات الملك تتقدّم ويسطع سر الصليب" (من نشيد زمن الآلام في الكنيسة الغربية).
ثانياً: ملك المسيح القائم من بين الأموات
1. ملك الرب الحاضر:
دخل يسوع المسيح في ملكه بقيامته من بين الأموات. ولكن ينبغي أولاً أن يوضّح لشهوده طبيعة هذا الملك المسياني التي تختلف تماما ًعمّا كان يتوقعه اليهود. فليس المقصود أن يعيد الملك لصالح إسرائيل (أعمال 1: 6)، بل سيتوطد ملكه بالتبشير بإنجيله " (أعمال 1: 8) لأنَه حقاً ملك، على نحو ما تجاهر به الكرازة" المسيحيّة التي تطبّق عيه ما كتبه الأنبياء. فهو ملك العدل (مزمور 45: 7، عبرانيّين 1: 8)، والملك الكاهن (مزمور 110: 4، عبرانيين 7: 1). وقد كان ملكاً بصفة عجيبة، منذ بداية حياته على الأرض، كما ينوّه بذلك الإنجيليون عند سردهم سيرة طفولته (لوقا 1: 33، متّى 2: 2). ولكنّ مملكته "ليست من هذا العالم" (يوحنَا 18: 36)، ولا تمثلها في هذا العالم أية مملكة بشرية ، قد يكون يسوع قد فوَض لها سلطاته، ولذلك لا تنافس بأيّة حال من الأحوال سلطة الملوك الأرضيين. وقد يصبح المسيحيّون رعايا هذه المملكة، عندما " ينبهم الله من سلطان الظلمات وبنقلهم إلى ملكوت ابنه الحبيب الذي لهم فيه الفداء" (كولسي 1: 13). على أن هذا لا يمنعهم من الخضوع لملوك هذا العالم وتقديم الإكرام لهم (1 بطرس 2: 13 و 17)، حتى ولو كان أولئك الملوك وثننين. فهم مؤتمنون على السلطة، ويكفي ألا يعارضوا بها سلطة يسوع الروحية. وتحصل الدرامة أحياناً عدما يقاوم الملوك سلطة يسوع، فتصدق نبؤة المزمور 2: 2. وقد كان هذا هو الحال أولاً عد حلول آلام المسيح (أعمال 4 : 25-27). وهكذا يكون أيضاً على مدى التاريخ، عندما يزني ملوك الأرض هؤلاء مع بابل (رؤيا 17: 2)، ويتركونها تتسلّط عليهم (18:17)، وبالتالي يشتركون في مملكة الوحش " الشيطانيّة (17: 12)، وحينذاك، إذ ينتشون من خمر سلطتهم، يشرعون في اضطهاد الكنيسة وأبنائها، مثل بابل نفسها التي تسكر من دم شهداء يسوع(17: 6).
2. ملك المسيح في مجيئه الثاني:
في اللوحة الرمزيّة الخاصّة بالأزمنة الأخيرة التي ترسمها الرؤيا، سوف تبدأ المعركة الأخيرة بحملة ضد الحمل، عندما يولي ملوكُ الأرضِ الوحشَ سلطانهم (رؤيا 17: 13)، فيتجمعون من أجل ذلك اليوم العظيم (16: 14)، ولكن سينتصر الحمل عليهم (راجع 19: 18- 19)، "لأنه ملك الملوك ورب الأرباب" (17: 14، 19: 1- 3، راجع 1: 5). وسوف يكون مجيئه الأخير ظهوراً ساطعاً لملكه. وفي الوقت عينه لملك الله (11: 15، 2 تيموتاوس 4: 1). وبحسب نبؤة إشعيا 11: 4، سيعمل الملك، ابن داود على إبادة المسيح الدجال بضياء مجيئه الأخير(2 تسالونيكي2: 8). وبعد ذلك. يسلّم المسيح الملك لأبيه، بحسب نص المزمور 110: 1، لا بد له أن يملك "حتى يضع جميع أعدائه تحت قدميه" (1 كورنتس 15: 24- 25). وفي نهاية الحرب الاسكاتولوجية التي سيقودها باعتباره كلمة الله، سوف يرعى أعداءه حسب ما جاء في المزمور 2: 9، بعصا من حديد (رؤيا 19: 5 1- 16). حينذاك بالاشتراك في ملك المسيح (راجع 1 كورنتس 15: 24)، سيقوم من بين الأموات جميع الشهداء الذين قطعت رؤوسهم لأنهم رفضوا أن يسجدوا للوحش حتى يملكوا معه ومع الله (رؤيا 4:20- 6، راجع 5: 10). وهكذا يشترك هؤلاء الشهداء، بحسب وعد دانيال 7: 22 و 27، في ملك ابن الإنسان الأبدي. أليس هذا ما قد وعد به يسوع ذاته الإثني عشر خلال العشاء الأخير: " فأنا أوليكم الملكوت لتجلسوا على العروش وتدينوا أسباط إسرائيل الإثني عشر" (لوقا 22: 29 - 30، راجع رؤيا 7: 84 و15).
ميراث غنى أرض