مقدمة
لا يندر أن يعتبر بعض المسيحيين أن فكرة المعجزة ذاتها آخذة في التقادم، وبالعكس لا يندر أن يبدي البعض الآخر شغفاً بالاعتقاد بالخوارق الكاذبة. ولهذه الضروب المتعارضة من المغالاة مصدر مشترك واحد يغذّيه شيء من نزعة الحماس الديني التي امتدت لفترة طويلة. فلم يكونوا ليروا في المعجزات إلا نوعاً من التحدّي للقوانين الطبيعية، مع إغفال دور المعجزات كآيات " "متلائمة وعقول الجميع ". إن الكتاب المقدس يرى، في كلّ مجال، يد الله تظهر لأتباعه قدرته ومحبته. والعالم المخلوق، بنظامه الثابت (إرميا 31 : 36- 37)، هو " معجزة " (مزمور 89: 6) و"آية" (مزمور 65: 9)، بقدر تدخلات الله غير العادية في التاريخ. وهذه بدورها هي خلق 4 متجدّد (عدد 16: 30، إشعيا 65: 18)، وإن اعتبرها المؤرخ اليوم أمورأ عادية وخاضعة للتفسير. والكتاب المقدس يجهل تمييزنا المعاصر بين أفعال العناية الإلهية وبين العلل الطبيعية التي تلتقي صدفة، وبين العمل الإلهي الذي يحدث بدل العوامل الطبيعية، أي "العلل الثانوية". فيركّز الكتاب نظر المؤمن على العنصر الجوهري، المشترك بين كل الفئات التي نعرفها: وهو المعنى الديني للأحداث. وهكذا فإن القديس أغسطينوس يكتشف بعيني الإيمان، علامة الحبّ والقدرة الإلهيين، على السواء فيجمع الحصاد، أو في تكثير الخبز، على أنه إن ميَز بينهما فعلى أساس أن الأمر معتاد في الحالة الأولى، ومثير لعجب المستفيدين أمامه في الحالة الثانية. أما من حيث هذه النظرة، فلم تعد للتفاصيل كل تلك الأهمية التي تعودنا أن نعلّقها عليها: فمثلاً هل يبست التينة العقيمة "في الحال "؟ أم بعد حين؟ (مرقس 11: 20)، ليس لذلك أهمية، بل ما له اعتباره هو فقط الدرس الذي تحجبه الإشارة الرمزية.
أولاً: المعجزة في العهد القديم
1. الوقائع:
إذا تركنا جانباً الخوارق المجازية الواردة في بعض الكتب أو بعض أقسام الكتب ذات الأسلوب التعليمي (يونان، طوبيا، الإطار الدرامي لأيوب، أمثال هجادة دانيال 1 إلى 6، زخارف مكابيين الثاني البناءة الخ.)، وكذلك العجيبتين المذكورتين في تاريخ إشعيا (إشعيا 37: 36- 37، 38: 7- 8)، فإن المعجزات لا تبدو كثيرة إلا في لحظتين أساسيتين في التاريخ المقدس: مع موسى وخليفته يشوع ساعة تأسيس واستقرار شعب الله، ومع إيليا وتلميذه أليشاع العهد الموسوي. إن الصفة التاريخية الجوهرية لحقب إيليا وأليشاع لا تتعارض والتوسعات الشعبية (مثل 2 ملوك 1: 9- 16)، التي تكتسب من حقبة إلى أخرى مزيداً من التوسع، ولكنها تفقد غالباً من معناها الديني (مثل 2 ملوك 2: 23- 24، 6: 1- 7). هذه الصفة ذاتها لا تظل قائمة خلال الإسهاب الأوسع الذي أدرك، على مرّ الأجيال، تقاليد ضربات مصر العشر ومعجزات الصحراء وغزو كنعان. إن الذين دوّنوها كتابة باستخدام الأساليب الأدبية التي اعتادها قراء زمانهم، إنما قد تولوا تجميع بعض التقاليد، واستغلوا بتصرف بعض الروايات. إلا أنه لم يغب عن نظرهم قط هدفهم الديني: ألا وهو حضور الله القدير حامياً (يشوع 24: 17) في فجر تاريخ الشعب المختار. لذلك فإن هذه التقاليد، من خلال الأسلوب الملحمي الذي يميّزها، تظل أساسية: فهي ترجمة لميلاد شعبه إسرائيل، معجزة المعجزات، والجدير هو وحده، مع الخلق (إشعيا 65: 17)، بأن يقارن بجدّة آخر الأزمنة (إشعيا 43: 16 - 21 ) .
2. المعجزة آية إلهية فعالة:
أ) يظهر العهد القديم في المعجزات بعض تجلّيات الله وبعض آيات خلاصه الفعالة. والألفاظ التي تشير إلى المعجزات نفصح عن الوظيفة التالية: فهي آيات (بالعبرية " أتوت " و باليونانية semeia مثل خروج 10: 1) و"آيات " خوارق رمزية " (بالعبرية " موفتيم "، باليونانية terata مثل تثنية 19:7). على أن استخدام هذه الألفاظ يتجاوز حدود استخدام لفظ المعجزة، من حيث إنه يبرز جيّداً بُعد الآية أو الرمز الذي تخفيه كل خارقة دينية. وعلى هذا النحو فإن شخص الني قد يكون آية، لأن وجوده يرمز المخ "كلمة " الله ، التي تعمل من خلال محاكيها (إشعيا 8: 18، 20: 3، حزقيال 12: 6 و11، 24: 24 و27). وإن الآيات الإعجازية تؤيد هذه الكلمة، لأنها تظهر بأعمال واعية الخلاص الذي يبشر به رجال الله، ولأنها تثبت هؤلاء كمرسلين حقيقيين من الرب (خروج 4: 1- 5، 1 ملوك 18: 36- 38، إشعيا 38: 7 8،إرميا 44: 29- 30). إن تبعية المعجزة هذه "للكلمة" هي ما يميز المعجزات الحقيقية عن ألاعيب السحرة" والأنبياء الكذَبة (خروج 12:7...). أما قيمة الرسالة التي تظهرها بنوع خاص صلاة صانع المعجزة (1 ملوك 18: 27- 28 و 36- 37)، فهي الآية الأولى التي تقطع بحقيقة المعجزة (تثنية 13: 2- 6)، بينما المعجزة لا تؤيد "الكلمة" إلا إذا قضت الكلمة بصلاحيتها.ب) تمتاز المعجزات عن سائر الآيات بفاعليتها وطابعها الخارق للعادة. أنها من جهة تحقق عادة ما تشير إليه: تلك هي حال الخروج الأول الذي هو عبارة عن. مجموعة خوارق يحرر بها الله شعبه، أو حال الخروج الجديد الذي يظهر فاعلية كلمته (إشعيا 55: 11، راجع الآية 13). ومن جهة أخرى فإن هذه الأعمال (مزمور 77: 13،145: 4)، بالرغم مما قد تنطوي عليه من وقائع من الطبيعة (مطر- جفاف...) تتجاوز غالباً ما اعتاد الإنسان أن يراه في الكون ولا يستطيع هو أن يصنعه. ولذلك فإن المعجزة هي آية تمتاز بوجه خاص بالكشف عن قدرة الله، وتدعى مأثرة (خروج 15: 11)، وجبروتا (بالعبرية " جبوراه، مزمور 106: 2)-، وشيئاً عظيماً (مزمور 106: 21)، وشيئاً مخيفاً (خروج 34: 10) ولاسيما أعجوبة (بالعبرية " فيلي" خروج 15: 11، " نيفلا"، مزمور 106: 7). وهذا اللفظ الأخير يثير إلى إنجازات "مستحيلة" على الإنسان- على ما تترجم السبعينية أحياناً- يستطيعها الله وحده (مزمور 86: 10) وهو يظهر عن طريقها مجده (خروج 15: ا و 7، 16: 7، عدد 14: 22، لاويين 10: 3)، وشعاع قداسته (خروج 15: 11، مزمور 77: 14، لاويين 10: 3)، أي سمّوه.جـ) إلا أن القدرة الإلهية لا تسحق إلا الخطأة (تثنية 7: 17- 20، ميخا 7: 5 ا- 17). وأما بالنسبة لشعب الوعود (تثنية 4: 37)، فعجائبها تأتي خيراً حتى وهي تختبر وتذل (8: 16)، لأن "مراحم الرب على كل عالمه " (مزمور 145: 9). وإذن فان المعجزات في النهابة هي آيات فعّالة ومواهب مجانية (تثنية 6: 10- 12، يشوع 24: 11-13) دالّة على محبّة الرب (مزمور 7:106 ط 8:107). وسيظهر يسوع وحده ملء شمول هذه المحبة الخلاصية سيفعل ذلك سواء بإبرازه القيمة النبوية للمعجزات التي يصنعها هو بنفسه لصالح الوثنيين (متى 8: 11- 13) أو بشرحه قيمة تلك التي صنعها قديماً إيليا وأليشاع لصالح امرأة من صيدا ولرجل سوري (لوقا 4: 25- 27).
3. المعجزة وعلاقتها بالإيمان:
فضلاً عن الدهشة التي تثيرها المعجزات، فهي تهدف إلى الدعوة إلى الإيمان وتأييده، وتأييد ما يرافقه من مشاعر: ثقة، وشكر وذكرى (مثل مزمور 105: 5)، وتواضع، وطاعة ومخافة الله ورجاء. وهي تجعل قساوة في قلوب كل من كانوا، على شاكلة فرعون (خروج 7: 13...)، لا ينتظرون شيئاً من إله مجهول. بيد أن الذي يعرف الله مسبقاً ولا يتكل إلا عليه وحده، يكتشف عمل المحبة الإلهية القديرة، وضماناً لتصديق الرسالة التي يتولاها مرسل الله حينئذٍ ، وبحركة واحدة، يؤمن "بكلمته "، ويؤمن بالله نفسه (عددها 1: 11). يعجب بنو إسرائيل بعظمة إيمان ابراهيم الذي به حصل على وارث بولادة مستحيلة بشرياً (تكوين 15: 6، رومة 4: 18- 22). هذا الإيمان هو الذي نجده في أساس استذكار التثنية والأنبياء (مثل إشعيا 63: 7- 14)، وأصحاب المزامير (مثل مزمور 77، 105 إلى 107)، والحكماء (مثل حكمة 10 إلى 19)، مما يبين، في معجزات زمن الخطبة، عربون الخيرات الجديدة، مظهراً قيمتها التربوية (مثل ثنية 3:8، حكمة 21:16) إن الإيمان هو الذي يغذيه الرب بتأسيسه الأعياد "ذكراً لمعجزاته " (مزمور 111: 4). وهو الذي يقوي إشعيا عندما تستطيع معجزة وحدها أن تخلص يهوذِا (إشعيا 37: 34- 35)، ويشجعّ مريم عندما تبشَر بالحبل العجيب (لوقا 1: 45). وبالعكس فهو الذي أعوز بني إسرائيل في البرية (مزمور 78: 32)، عندما قاوموا جسدياً الاختبار الذي فرضه الله عليهم (تثنية 8: 2 الخ)، فجربوا بدورهم الرب (خروج 17: 2، مزمور 95: 9)، مطالبين معجزات بغطرسة. والإيمان هو الذي أعوز آحاز، المعتمد على حلفائه أكثر منه على إله المعجزات (إشعيا 7: 12)، وأعوز زكريا المرتاب (لوقا 1: 18-20). ففي كل هذه المواقف ينسى الإنسان سلطان الله عليه، ولا يعترف بقدرته وبمحبته المجانية، ويضع كلمته موضع الشك: فالمعجزة في البقة لم تصادف ترحيباً بها كهبة، ولا تمييزاً لها كعلامة.
ثانياً: المعجزات في حياة يسوع
1. الوقائع :
كان ابن سيراخ يتضرّع قائلاً: "استأنف الخوارق وأحدث العجائب " (سيراخ 36: 6)، معبراً عن تطلع شعب إسرائيل بأسره بعد السبي، وقد خاب رجاؤه بعودة كانت أقل بهاء من الخروج الجديد المتنبأ به. إن يسوع يأتي ليحقق ملء الانتظار هذا، وإن خيب ما كانوا يتوقّعونه من أحداث مثيرة وانتصارات باهرة. والروايات الإنجيلية عن المعجزات، على عكس روايات الخروج، يعود انتسابها إلى الشهود الأولين، وقد وردت في غاية الاعتدال، وكان يحكم طابعها الفطري، و بغياب كلّ جهد من قبل يسوع في صنعها (غياب يتمشّى والاستخدام التربوي لبعض الصيغ والملامسات، والمسحات، والتقدم على مراحل، مرقس 8: 23- 25، مما يعزز العمل الرمزي)، وبتركيز نية دينيه مقصودة و باختيار وضع الصلاة" (صراحة في يوحنا 11: 41- 42 أو ضمنياً في مرقس 6: 41، 7: 34، 9: 29، 11: 24)، مما ينفي كل سحر. فإن المعجزات التي يذكرها الإنجيل تتميز جذرياً بحكم صعوبة تعليل إيمان الكنيسة من دونها، وبحكم اندماجها في لحمة الإنجيل، عن العجائب إلى اخترعتها الأناجيل المنتحلة، كما تتميز عن تلك التي تنسبها الأساطير إلى الحاخامين، أو إلى آلهة (مثل اسكولاب) أو إلى حكماء وثنيين (مثل أبولونيوس الطياني) والمعاصرة لنشأة المسيحية. فكلّ مقابلة موضوعية تبرز قيمة نصوصنا التاريخية والدينية. وإنه بواسطة أعمال فعليّة وخارقة للعادة حقاً "قد جعل يسوع آية لشعبه ".
2. آيات خلاص ذات فاعليهَ:
أ) إن يسوع بمعجزاته بظهر أن الملكوت المسياوي، الذي بشر به الأنبياء، قائم في شخصه (متى 11: 4- 5)، وهو يلفت الانتباه إلى نفسه وإلى البشرى السارة، بشرى الملكوت الني يجدده، وهو يثير إعجاباً وخشية دينية يحملان الناس على أن يسألوا أنفسهم من هو (متى 8: 27، 9: 8، لوقا 5: 8- 10). وسواء، أتعلق الأمر بسلطانه على غفران الخطايا (مرقس2: 5- 12//)، أم بسيادته على السبت (مرقس 3: 4- 5//، لوقا 13: 5 ا- 16، 14: 3- 5)، أم بصفته المسياوية الملكية (متى 14: 33، يوحنا 1: 49)، أم بإرسال الآب إياه (يوحنا 10: 36)، أم بقوة الإيمان فيه (متى 8: 10-13، 15: 1/28)، فإنه ثبت بها على الدوام رسالته ومقامه، مع التحفظ بالنسبة إلى الرجاء اليهودي في "مسيا " زمني ووفى (مرقس 1: 44، 5: 43، 7: 36، 8: 26). وهي بذلك صارت علامات ، كما يقول القديس يوحنا. على أن المعجزات إذا ما دلت على الصفة المسيانية ليسوع وعلى ألوهيته، فإنما تدل على ذلك بطريق غير مباشرة، بشهادتها له بأنه حقاً هو ما يقوله عن نفسه. ومن ثم فلا يجوز أن نفصلها عن كلمته: فهي تتمشى مع بشارة الفقراء (متى 11: 5//). إن الألقاب التي يخلعها يسوع على نفسه، والسلطات التي يضفيها على ذاته، والخلاص الذي يعظ به، وضروب الزهد التي يطالب بها، هي من الأمور التيٍ تشهد المعجزات بأصالتها الإلهية، لمن لا يرفض مسبقا حقيقة البشارة (لوقا 16: 31). فالبشارة هي أعظم من المعجزات، كما يفهم من العبارة التي تبلت عن يونان بحسب (لوقا 11: 29- 32). فهي تفرض نفسها بمثابة الآية الأولى والوحيدة الضرورية (يوحنا 20: 29)، من حيث السلطة الداعية لها الشخصية التي لا مثيل لها (متى 7: 29)، ومن حيث صفتها الباطنية التي فيما هي تقوم بتحقيق الوحيد السابق (لوقا 16: 31، يوحنا 5: 46- 47)، تتجاوب عند السامعين مع نداء الروح القدس (يوحنا 14: 17 و 26). إن البشارة هي التي ت قبل أن تؤيد بالمعجزات، عينها أن تميز المعجزات عن العلامات الكاذبة (مرقس 13: 22 و 23، متى 7: 22، راجع 2 تسالونيكي 2: 9، رؤيا 13: 13). فهنا، كما في تثنية الاشتراع " المعجزات تميز التعليم، والتعليم يميز المعجزات" (بسكال).ب) إن المعجزات لا تأتي بشهادتها من الخارج، كآيات نفرض نفسها اعتباطياً وتباهياً: بل تشرع في تحقيق ما تشير إليه، فهي تأتي بعربون الخلاص المداوي (المسيحي)، الذي سيبلغ غايته في الملكوت الأخروي، ولذا فإن الأناجيل الإزائية تدعوها قدرات (dynameis راجع متى 11: 20 - 23، 13: 54 و 58، 14: 2). لكنّ يسوع، وتد تحرك بدافع من حنانه البشري (لوقا 7: 13، متى 20: 34، مرقس 1: 41) أكثر منه بإدراكه أنه الخادم الموعود به (متى 8: 17) يبعد بقوة معجزاته المرض، والموت، وعداء الطبيعة للإنسان، وباختصار ذلك الخلل الذي يجد علته من قريب أو بعيد في الخطيئة (تكوين 3: 16- 19، قارن بمرقس 2: 5، لوقا 13: 3 ب) و لوقا 13: 2- 3 أ)، يوحنا 9: 3)، والتي تعمل لتسلّط إبليس على العالم (متى 13: 25، عبرانيين 2: 14 - 15). ولذا فإن يسوع يرضى أن يصنع للشيطان (متى 4: 2- 7)، ولسيّئي القصد (12: 38- 40، 16: 1- 4) وللحسودين (لوقا 4: 23)، وللتافهين (23: 8- 9)، مآثر مجانية لن يكون لها أي مفعول خلاصي. وتجدر الإشارة إلى أن الخوارق الكونيّة، التي تتعلق، كما يبدو، بالصور النبوية أكثر منها بالتاريخية (أعمال 2: 19- 20)، لا يشار إليها إلا في تلك الساعة التي فيها يموت المسيح ليخلص الجميع، فما هم يتحدونه بأن يخلص نفسه بمعجزة (متى 27: 39- 54، راجع 1 كورنتس 1: 22- 24). أما الخوارق التي يبدو أنه يعد بها في متى 17: 20// فما هي إلا صورة لقدرة الإيمان. وهكذا يظهر معنى الارتباط الكثير التكرار بين معجزات الشفاء وإخراج الشياطين (متى 8: 16، الخ.). فإن خلاص الذين مسهم الشيطان هو حالة خاصة من حالات هذا النصر، نصر "الأقوى" (لوقا 11: 22) (أي المسيح) على الشيطان، الذي تحققه جميع المعجزات، كل معجزة بطريقتها. ويدخل هذا الخلاص يسوع في نضال مباشر مع الخصم في مبارزة بدأت في الصحراء (متى 4: 1- 11//)، وستكون حلقتها الحالة على الصليب (لوقا 4: 13، 22: 3 و 53)، ولن تنتهي إلا في الدينونة العامة (رؤيا 20: 10). على أنه في هذه المبارزة تظهر هزيمة إبليس مقدّماً واضحة أكيدة (متى 8: 29، لوقا 1. 18). فإخراج الشياطين هو الآية الفعالة لمجيء الملكوت والتي ليس وراءها آية (متى 12: 28).
3. المعجزة والإيمان:
أ) إن بشرى الملكوت التي يبشر بها يسوع ويعلنها حاضرة في شخصه، ينبغي أن تقبل بالاهتداء والإيمان (مرقس 1: 15). كذا وذاك أيضاً ينبغي أن تحدثها معجزات يسوع وإخراجه الشياطين. فلقد كان على كورزين وكفرناحوم، برؤيتهما تلك المعجزات، أن تهتديا وتؤمنا (متى 11: 20- 24//). إن يوحنا يشدد على ذلك، مميزاً بين مختلف درجات الإيمان(يوحنا 2: 11،11: 5، 20: 30-31). فلا بد "للآيات" من أن تتجاوز منطلق الحماسة السريعة الهمود (2: 23- 25، 4: 48) والإنضمامات ذات المصلحة (6: 26)، لتقود عادة إلى الاعتراف بيسوع كمرسل من الله (3: 2، 9: 16، 10: 36) ونبي (4: 19)، ومسيح (7: 31)، وابن البشر، (9: 35- 38). فاستناد المرء إلى الآيات بإفراط، لكي يؤمن، يكون دليلاً على إيمان ناقص (10: 38، 14: 11)، فإن كلمة يسوع، التي تتمتع بصحة تضمنها نزاهة صادرة عن روحه البنوي (7: 16- 18، 12: 49- 50)، ينبغي أن تكفي وحدها، كما كفت السامريين (4: 41- 42) والقائد الملكي (4: 50) وكما يجب أن تكفي الذين سيؤمنون بالكلمة دون أن يلمسوا المسيح القائم من بين الأموات (20: 29). هذه حجة إضافية لكي لا يعود لأولئك الذين "رأوا" معجزاته (6: 36، 7: 3، 15: 24) ورضوا أن يؤمنوا به (7: 5، 12 :37) أي عذر يتذرّعون به (9: 41، 15: 24).ب) إذا ما رفض كثيرون " شهادة" (يوحنا 5: 36) المعجزات، فذلك لأنهم عميان (9: 39، 12: 0 4) بسبب غباوتهم الروحية (6: 15 و 26)، أو كبرياء التمسك بحرف الشريعة (5: 16، 7: 49 و 52، 9: 16) أو الحسد (2 1: 11)، أو الفطنة الكاذبة (11: 47- 48). إنهم لا يملكون تلك الاستعدادات الخاصة بالتسليم والانفتاح. التي يقوم عيها، بحسب الأناجيل الإزائية، الإيمان السابق للمعجزة (مرقس 5: 36، 9: 23 ، 10: 52 الخ.)، والتي يبدو يسوع من دونها كأنه عاجز (متى 58:13). كيف يمكن هؤلاء الرجال أن يكونوا قادرين على تفسير" علامات الأزمنة" (متى 16: 3)، إذا كانوا على مثال بني إسرائيل في البريَة، والشيطان منذ قليل (4: 3- 7)، لا يطلبون الآيات إلا "ليجربوا يسوع " (16: 1)، ويفضلون أن ينسبوا إخراجه الشياطين إلى الشيطان، بدلاً من أن يعترفوا له بقدرة فائقة الطبيعة (مرقس 3: 22 و 29- 30) إن الآيات التي تؤيد الكلمة هي، بالنسبة إلى القلوب المصابة بالقساوة والانغلاق إزاء تلك الكلمة، هي آيات لا يقرأ مرماها. هذا الجيل لن يكون له من آية. سوى آية يونان (متى 12: 39-40): فيسوع يرتبط مع خصومه بموعد ليوم قيامته "، أي الآية السنية التي ليس بعدها آيه، والتي يمكن مع ذلك أن يشك فيها بكل سهولة نحّو الوضوح الجلي، لأن السبيل إلى التحقق منها، هي سبيل غير مباشر (قبر فارغ، ظهورات لبعض الأشخاص، راجع متى 28: 1513، لوقا 24: 11). فما يكون أعظم سند للإيمان، يجب أن يكون أولاً أعظم محنة له.
ثالثاً: الكنيسة
1. الوقائع:
إن آية القيامة هذه، وهي قمة الخروج الجديد (يوحنا 13: 1)، تعطي الكنيسة الناشئة عنها، مفتاح التاريخ السابق، وتفتتح سلسلة جديدة من الآيات ينبغي أن تقود البشر إلى الإيمان الذي تؤسسه، مبشرةً بقيامة الأموات. وهو ملء الخلاص الذي تعطيه (1 كورنتس 15: 20 28، رومة 4: 25).
2. إضاءة الإنجيل الفصحية:
أ) إن القيامة تكشف بنية، التي تعطي الآيات السابقة في بشارتها بالإنجيل kerygme وفي تعليمها مكانة كبيرة، المعنى الكامل لهذه الآيات السابقة. فبحسب الشارة، kerygma كانت هذه الآيات "تؤيد" يسوع (أعمال 2: 22) وتعلن عطفه (10: 38): وهذه مواضيع تتوسع فيها الأناجيل الإزائية، شاهدةً على تقدّم تفكير الكنيسة، كل إنجيل وفقاً لطريقته الخاصة. لقد اكشف المفسرون مثلاً، أعراضاً مختلفة في الرواية المثلثة للصبي المصاب بالصرع: فلوقا 9: 37- 43 يتحدث بنوع خاص عن آية محبة، أما متى 17: 14- 21 فيهتم بسموَ مكانة يسوع وبالقدر الذي ناله التلاميذ من قدرته، وأما مرقس 9: 14-29 فيشيد بنصر سيد الحياة على الشيطان في إطار درامة تلخّص مسبقاً الرمزية اليوحنية. وهناك حالات أكثر وضوحاً للعمق الجديد الذي تتّسم به الأحداث على هذا النحو في ضوء الفصح: فوفقاً لنية المؤلفين، لا شك أنه ينبغي أن نفهم، بمعناه الأكثر غنى، الاعتراف بالبنوة الإلهية الذي تحمل إليه المعجزات (متى 14: 33، 27: 54)، وأن نتأمل في بعضها الصورة الأولية لحقائق كنسية، كالأفخارستيا" في معجزة تكثير الخبز، والنشاط الرسولي في معجزة الصيد العجيب (لوقا 5: 1- 11). ب) إن يوحنا يذهب إلى أبعد من ذلك: فهو يوعز بأن " الآيات "، وهي التي تحقق الخروج القديم (عدد 14: 22)، وتستبق " ساعة" الجديد، كانت تعلن في مدة وجيزة قبل وقتها " المجد" (يوحنا 2: 11، 11: 40) الذي تجلى في ساعة رفع يسوع 3: 14 - 15، 12: 32 راجع 17، والذي ما هو إلا بهاء القدرة المخلّصة الصادرة عن "الكلمة" المتجسّد 1: 41). إن كلآ منها، وقد ارتبطت بحديث، تبرز مظهراً من مظاهر هذه القدرة إلى تطهّر، وتعفو، وتحيي، وتنير، وتقيم من بين الأموات (2: 6، 5: 14، 6: 35، 9: 5، 11: 25). وكثير منها يرمز أيضاً إلى الأنصار (المعمودية الأفخارستيا ...) التي توزع مفاعيل هذه القدرة في الكنيسة، بتخطيها الآيات القديمة بمراحل كالمنّ (6: 32 و49- 50). بل إن المعجزات هي أعمال يفوض الآب إلى الابن أمر تحقيقها (5: 36) ليعلن ما بينه وبين الابن من وحدة حميمة (5: 17، 15: 37- 38، 14 : 9-10). فتأمّل آيات الحياة الفعالة، النابعة (19: 34) من جنب المسيح "المرفوع " كآية ليس أسمى منها (12: 33، راجع 3: 14- عدد 21: 8 semeion)، يعني الإيمان بأن يسوع هو المسيح، ابن الله العامل في الكنيسة، والحاصل على الحياة باسمه (20: 30-31)، ويعني مشاهدة المجد المشترك بين الآب والابن (11: 4)، ووضع الذات هكذا على مستوى العلاقات الخاصة بالثالوث.
3. أزمنة الروح:
أ) بما أن يسوع هو "معهم " (متى 28: 2)، فلا داعي للاستغراب بعد حدوث معجزات العنصرة المختلفة، أن يجدد الرسل أعماله المخلصة (أعمال 3: 1- 10) بعدما كان وعدهم بهذا السلطان شبه التأسيسي (مرقس 16: 17- 18)، ودربهم على ممارسته (متى 10: 8). إن "لقواتت dynameis (في نظر بولس) التي يصنعونها نظهر عملياً القدرة الخلاصية الصادرة عن يسوع القائم من بين الأموات dynamis(أعمال 3: 6 و 12 و 16، راجع رومة 1: 4)، وتقود الناس إلى الإيمان، مؤيدة المبشرّين بالكلمة الإنجيلية (مرقس 16: 20، 1 كورنتس 2: 4). هنا يرسخ الرباط الضروي بين المعجزات والكلمة، و المظهر المزدوج لغايتهما الدفاعي والخلاصي. هنا يظهر ترتيب الآيات التدريجي: صفة الشاهد السماعي (عبرانيين 2: 3- 4) ، والثبات (2 كورنتس 12: 12)، والثقة والتجرد (1 تسالونيكي 2: 2-12) لدى المرسلين تتّفق "الآيات والخوارق ". وتميز المبشّرين الحقيقيين من الأنبياء الكذبة (أعمال 8: 9- 24، 13: 4 -12)، فكل ذلك تصنعه قوة الروح القدس (1 تسالونيكي 1: 5، 1 كورنتس 2: 4، رومة 15: 19).