1. من النصب التذكاري... إلى موضع العبادة:كان الإنسان في البداية إذا ما أقام مذبحاً يقصد بذلك الاستجابة إلى الله الذي يأتي فيزوره: هذا ما تعنيه العبارة الواردة بتواتر في قصص الأنبياء: "وقد شيّد مذبحاً لتوه ودعا باسمه " (تكو ين 12: 7- 8، 13: 18، 26: 25). فالمذبح إذن، قبل أن يكون مرضعاً لتقدمة الأضاحي، كان نصباً تذكارياً لتسجيل أنعام الله، تشهد على ذلك تلك الأداء الرمزية التي أطلقت على هذه المذابح (تكوين 33: 20، 35: 1- 7، قضاة 6: 24). غير أنه كان أيضاً مكاناً للتقدمات المراقة، وللأضاحي، ولتقدمات العطور. وإن كان الأوائل يكتفون بالصخور ذات الشكل المناسب نوعاً ما، إلا أنهم سرعان ما عمدوا إلى تشييد مذبح من التراب الموطّأ أو من الأحجار غير المصقولة، مظهرُه غير جميل على الأرجح، ولكنه يفي بالغرض المنشود (خروج 20: 24- 25). أما بالنسبة إلى الأجيال التي أعقبت الآباء، فإن موضع العبادة أصبح هو الغالب على ذكرى ظهور الله التي كانت منشأ وجوده. فكان كثيراً ما يصبح مزاراً للحجاج، وقد أخذت أولوية كل وضع العبادة على ذكرى الظهور، تبدو من خلال ما كانوا يختارونه في أحيان كثيرة من أماكن سابقة درج الكنعانيون على التعبد فيها: كما هي حال بيت إيل (تكوين 35: 7) أو شكيم (33: 19- 20)، وفيما بعد جلجال (يشوع 4: 20) أو أورشليم (قضاة 19: 10).فالواقع أن الشعب المختار عندما دخل أرض كنعان، وجد نفسه إزاء مذابح وثنية، كانت الشريعة تفرض عليه تقويضها دون هوادة(خروج 34: 13، تثنية 7: 5،عدد 33: 52)، وأن جدعون (قضاة 6: 25- 32)، وياهو (2 ملوك 10: 27) قد مَحَقا مذابح البعل. غير أنهم كانوا عادة يقتصرون على "تعميد" المشارف بواسطة المراسيم الخاصة بالعبادة (1 ملوك 3: 4). غير أنه في هذه المرحلة قد آدَّى المذبح إلى الإسهام في انحدار الديانة، لسببين، أولهما النسيان أن المذبح أصلاً هو مجرد علامة" للتقرّب من الله الحي، وثانيهما التسوية بين يهوه والأصنام. وبالفعل يستهلّ سلمان عهداً من التسامح بالنسبة لتلك الأصنام التي جلبتها معها زوجاته الأجنبيات (1 ملوك 11: 7-8). ويسير آحاب على منواله (1 ملوك 16: 32)، بينما يدخل آحاز ومنسى في الهيكل ذاته مذابح من النمط الوثني (2 ملوك 16: 10-16، 21: 5). بينما راح الأنبياء من جهتهم يشجبون بشدة كثرة المذابح (عاموس 2: 8، هوشع 8: 11، إرميا 3: 6).2. مذبح هيكل أورشليم الوحيد:إلاَّ أنَّه وجد دواء لهذا الوضع عن طريق تركيز العبادة وحصرها في أورشليم (2 ملوك 23: 8- 9، راجع 1 ملوك 8: 63- 64). وهكذا أخذت حياة إسرائيل الدينية تتبلور شيئاً فشيئاً حول مذبح المحروقات. كما تشهد مزامير عديدة على منزلة المذبح في قلوب المؤمنين (مزمور 26: 6، 43: 4، 84: 4، 118: 27)، وعندما يصف حزقيال هيكل المستقبل، نراه يصف المذبح بأوصاف دقيقة (حزقيال 43: 13- 17)، وينسب التشريع الكهنوتي الخاص به إلى موسى (خروج 27: ا- 8، لاويين 1- 7). كما أن يرون المذبح،. التي سبق وذكرت منذ زمن بعيد كم كان أمان (1 ملوك 1: 50- 51، 2: 28)، أخذت تتزايد أهمية، فكانت كثيراً ما تنضح بالدم في طقوس التكفير (لاويين 16: 18، خروج 30: 10). وكلها طقوس تبين بوضوح أن المذبح كان يرمز لحضور يهوه. وفي الوقت نفسه أخذت الخدمات الكهنوتية تتحدد بدقة: إذ أصبح الكهنة خداماً للمذبح فحسب، يما كلف اللاويون بالخدمات المادية (عدد 3: 6-10). وكان صاحب كتاب الأيام الذي أشار إلى هذا الأسلوب (1 أيام 9: 26- 30)، قد دخل تاريخ الملوك متمشياً مع هذه الترتيبات (2 أيام 26: 16- 20، 29: 18- 36، 35: 7- 18). وأخيراً يقوم دليل على التبجيل نحو المذبح في أن قافلة العائدين الأولين من التي تلنزم بإعادة بناء مذبح المحرقات على إثر وصولها (عزرا 3: 3- 4). وسوف نرى يهوذا المكابي يعرب بدوره عن ذات التقوى تجاه المذبح (1 مكابِيين 4: 44- 59).3. من العلامة إلى الحقيقة:يظل المذبح مقدساً في نظر يسوع، ولكن بسبب ما يعنيه المذبح، نرى يسوع يذكر سامعيه بهذا المعنى الذي طمسته سفسطة الفريسيين (متى 23: 18- 20)، وقد أهمل شأنه في الممارسة العملية: فالتقرب من المذبح لتقديم الذبيحة، إنما يعني الاقتراب من الله فلا يجوز ذلك والقلب يثيره الغضب (5: 23- 24). إن المسيح لا ينبه إلى العمق الصحيح المفروض للعبادة القديمة فحسب، وإنما يضع لها حداً نهائياً. ففي الهيكل الجديد الذي هو جسده (يوحنا 2: 21)، ليس من مذبح آخر غيره هو (عبرانيين 13: 10). وبما أنَّ المذبح هو الذي يقدس الذبيحة (متى 23: 19)، لذلك فعندما يقدم يسوع نفسه، وهو الذبيحة الكاملة، فانه هو الذي يقدس ذاته (يوحنا 17: 19)، أو الكاهن والمذبح في آن واحد لذلك فإن تناول جسد الرب ودمه، لهو في الواقع اتحاد بالمذبح الذي هوا الرب بل هو مشاركته على مائدته (1 كورنتس 10: 16- 21). إن المذبح السماوي الذي يذكره كتاب الرؤيا والذي يمثل تحته الشهداء (رؤيا 6: 9) وهو المذبح الذهبي الذي يصعد لهيبه إلى الله دخاناً كثيفاً معطراً، تمزج به صلوات القديسين (8: 3) ، إنما هو رمز يشير إلى المسيح، ويكمل رمزية الحمل. إنه المذبح الوحيد للذبيحة الوحيدة ذات الرائحة الذكيّة التي ترضي الله. إنه المذبح السماوي الني تشير إليه الطقوس الدينية، وترفع فوقه نحو الله تقدما ت الكنيسة، متحدة بذبيحة المسيح الوحيدة الكاملة (عبرانيين 10: 14). وليست مذابحنا الحجرية سوى صور لهذا المذبح، مما تعبر عنه طقوس الاحتفالات الحبرية بقولها: "المذبح هو المسيح ".