مقدمة
"الله محبة"، "ليحب بعضكم بعضاً". تجل البلوغ إلى هذه القمة من الوحي في العهد الجديد، يجب على الإنسان أن يطهّر جميع تصوراته البشرية المحضة، التي يكوّنها عن الحب، لكي بتقبل سر الحب الإلهي، ذاك الحب الذي يمر بالصليب. وفي الواقع، تتخذ المحبة مظاهر مختلفة: جسدية أو روحية، مندفعة أو متروية، حقيقية أو سطحية، بناءة أو هدامة. تنعطف المحبة نحو شيء شهي، نحو حيوان، أو زميل في العمل، أو صديق، نحو الأهل أو الأولاد وأخيراً نحو المرأة. هذه المعاني كلها لا تخفى على الإنسان، كما يصورها لنا الكتاب المقدس فإن كتاب التكوين (راجع تكوين 2: 23 34، 3: 16، 12: 10- 19، 22، 24، 34) وقصّة داود (راجع 1صموئيل 31:18 و 20،2 صموئيل 16:3،12: 15- 25، 19: 1- 5)، ونشيد الأناشيد، من بين نصوص أخرى كثيرة، تقدَم نماذج من مختلف أنواع الحبّ، كثيراً ما تمزج بها الخطيئة، ولكننا نجد أيضاً فيها استقامة وعمقاً وإخلاصاً في عبارات تتم عادة بالبساطة والحشمة. لا يميل شعب إسرائيل إلى الأسلوب النظري في التفكير، ولذا فهو كثيراً ما يعطي للكلمات صبغة عاطفية، فالمعرفة عنده تتضمن المحبة، وأمانته للروابط الإجماعية والعائلية (حسيد) مشبعة بالحمية وبالسخاء التلقائي (راجع تكوين 24: 49، يشوع 2: 12- 14، راعوت 3: 10، زكريا 7: 9). وفي لغة العهد القديم، كلمة "أحب " (بالعبرية أهب) و باليونانية (agapan) نادرة الاستعمال، ورغم ذلك، فهي الكلمة التي اختارتها الترجمة السبعينية، وسوف يقتصر استعمالها في العهد الجديد على النطاق الديني. وقصارى القول إن الإنسان،في نظر الكتاب المقدس، يقدّر قيمة المشاعر العاطفية (راجع أمثال 15: 17)، مع إدراكه الكامل لخاطرها (راجع أمثال 5، سيراخ 9: 1 -9). وعندما يدخل مفهوم المحبة في وجدانه الديني سيكون مفعماً بخبرة إنسانية مكثّفة وواقعيّة. وفي الوقت نفسه يثير هذا المفهوم أسئلة عديدة: هل يستطيع الله العظيم كلَ العظمة، الطاهر كل الطهارة أن يتنازل فيحب الإنسان الضعيف الخاطئ؟ وإذا تنازل فأحبّ الإنسان ، كيف يستطيع الإنسان بدوره أن يجب على هذه المحبة؟ وما هي الصلة بين محبة الله ومحبة الإنسان وتحاول جميع الأديان أن تجيب على هذه الأسئلة، كل بطريقته الخاصة ، وهي عادة تقع في أحد الطرفين المتضادين: فيما أن تحصر الحب الإلهي في منطقة يستحيل الوصول إليها، لكي تحافظ على المسافة بين الله والإنسان؟ وإنما لكي تجعل الله قريباً من الإنسان، تنزل بالحب الإلهي إلى مستوى الحب البشري. وإزاء هذا القلق الديني عند الإنسان، بجيب الكتاب المقدس بكل وضوح، فيقول إن الله قد أخذ المبادرة وأنشأ حوار محبة معٍ البشر" وباسم هذه المحبة، يدعوهم إلى أن يحبوا بعضهم بعضا ويعلمهم كيف تكون هذه المحبة.
أولاً: حوار المحبة بين الله والإنسان
العهد القديم
بالرغم من أن كلمة "محبة" لا ترد في العهد القديم، إلا أن روايات الخلق (تكوين 1، 2-3) تشير إلى محبة الله، خلال العطف الذي يبديه نحو آدم وحواء. فقد أراد الله أن يعطيهما ملء الحياة، إلا أن هذه الهبة تتطلب إذعاناً حرّاً لإرادته. فعن طريق الوصية، ينشئ الله حوار المحبة. لقد أراد آدم أن يستولي جبراً وقهراً على ما كان مقدّراً له على سبيل الهبة: فأخطأ، وعندئذ يتعمّق من العطف الإلهي ويتحول إلى رحمة نحو الخاطئ واعداً إياه بالخلاص. و بالتدريج ستعود روابط المحبة التي توحد الإنسان بالله. فإن رواية الفردوس تنبئ مسبقاً بكل التاريخ المقدس.
1. وحي الله لأصدقائه:
عندما نادى الله ابراهيم المختار من بين الوثنيين (يشوع 24: 2- 3)،- لكي يصبح صديقه (إشعيا 41: 8)، عبر هكذا عن محبته على شكل صداقة أصبح ابراهيم بها نجيّ أسراره (تكوين 18: 17). ولم يصل ابراهيم إلى هذه المرتبة إلا لأنه تجاوب مع مطالب الحب الإلهي ، فانطلق من أرضه ملبّياً نداء الله (12: 1). وكان عليه أن يتقدّم خطوة جديدة في سر مخافة الله الذي هو محبة، فقد طلب منه أن يضحي بابنه الوجد وبالتالي أن يضحي بحبه البشري: "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه" (22: 2). ولم يطلب من موسى أن يضحي بابنه، ولكن يتعلق الأمر هنا بالشعب كله، بسبب النزاع القائم بين القداسة الإلهية والخطيئة. فهو ممزَق بين الله الذي يرسله والشعب الذي يمثله (خروج 32: 9-13). وإذا تمكن من الصمود، فهذا لأنه، مند دعوته (3: 4) حتى موته لم يزل يتقدم في ألفة الله، متحدّثاً معه كما يكلم المرء صاحبه (33: 11). وقد كشف الله له عن حنانه العظيم وعن حبه الذي يتّسم بالرحمة ، بدون أن يتخلى بأي شكل عن القداسة (34: 6-7).
2. وعي الله لأنبيائه:
إن الأنبياء هم أيضاً مؤتمنون على أسرار الله (عاموس 3: 7) يحبهم الله محبة شخصية يستولي عليم م باختياره (7: 15)، ويحدث فيهم أحياناً تمزّقاً باطنيّاً (إرميا 20: 7-9)، ولكنه وعدهم أيضاً بالبهجة (20: 11- 13). فالأنبياء شهود درامة الصراع بين محبة الله وغضبه (عاموس3: 2). ويكشف هوشع ثم إرميا وحزقيال أن الله هو عريس" إسرائيل بالرغم من تمرده المتواصل. هذا الحق العنيف والغيور (راجع كلمة غيرة) لا يقابله إلا نكران الجميل والخيانة. ولكنَ الحب أقوى من الخطيئة، مهما كلفه ذلك من آلام (هوشع 11: 8)، فهو يصفح ويخلق ثانية قلباً جديداً قادراً على الحب (هوشع 2: 21-22 "إرميا 31: 3 و20 و22، حزقيال 16: 60 - 63، 36: 27). وتعبر صوراً أخرى مثل صورة الراعي (حزقيال 34) أو صورة الكرمة (إشعيا 5، حزقيال 17: 6-7) عن الحمية الإلهية نفسها و الدرامة عينها. وقد أخذ كتاب التثنية- الذي تمّ اكتشافه (2 ملوك 22)، في زمن ساد فيه حب الأصنام على محبة الله، يردد بدون كلل أن محبة الله لإسرائيل مجانية (تثنية 7: 7-8)، وأنه على إسرائيل أن "يحب الرب إلهه بكل قلبه" (6: 5). ويعبر هذا الحب عن نفسه بأعمال عبادة وطاعة ( 11: 13، 19: 9) تتطلب اختياراً جذرياً وتضحية كاملة (4: 15- 31، 30: 15- 20). ولكن لن يتحقّق ذلك إلا إذا تولى الله بنفسه ختان ، قلب إسرائيل وجعله قادراً على المحبة (30: 6).
3. نحو حور شخصي:
بعد التي، وبعد تطهيره بالاختبار ، اكتشف إسرائيل أكثر فأكثر أن الحياة مع الله هي حوار حب. ومن المرجّح أنه عاد إلى قراءة نشيد الأناشيد في ضوء هذه الحقيقة: فمع تناوب فترات التملك والحرمان، يحب العريس " والعروس أحدهما الآخر كمحبة قوية كالموت (نشيد 6:8). وبعد السبي أيضاً، أدرك الشعب، بطريقة أوضح، أن الله توجّه إلى قلب كل شخص فهو لا يحب المجموعة ككل (تثنية 4: 7) أو رؤساءها فحسب (2 صموئيل 12: 24- 25)، ولكن كل يهودي بمفرده و بخاصة البارِّ (مزمور 37: 25- 29 ، 146: 8)، والفقيرّ والصغير (مزمور 113: 5- 9). بل تظهر تدريجيا ًالفكرة أن محبة الله تتجاوز اليهودي وتخص أيضا ًالوثنيين (يونان 4: 10- 11)، وحتى كلّ خليقة (حكمة 11: 23-26). وهكذا، عند اقتراب مجيء المسيح، يدرك اليهودي التقي (بالعبري، حسيد مزمور 4: 4، 132: 9 و 16) الذي يتأمل الكتاب المقدس أن الله يحبه، هذا الإله الذي يتغنى بأمانته الرحيمة إزاء العهدّ (مزمور 136، يوئيل 2: 13) و بعطفه (مزمور 34: 9، 100: 5) و بنعمته (تكوين 6: 8، إشعيا 30: 18) و بحنانه (مزمور 86! 5 1، حكمة 15: ا). ومقابل ذ لك، يعبّر اليهودي بدون توان عن محبته لله (مزمور 31: 24، 73: 25، 16 1: 1) ولكل ما يتصل به: أي اسمه،، وشريعته وحكمته" (مزمور 34: 13 ، 19 1: 27، إشعيا 56: 6، سيراخ 1: 10، 4: 14). وكثيراً ما يتحتم على هذا الحبّ أن يتجلَى في مواجهة تصرف الناس وضغوطهم (مزمور 10 ، 40: 14 -17، 73، سيراخ 2: 11- 17). وقد يؤدي هذا إلى الاستشهاد" كما حصل في عصر المكابيين (2 مكابيين 6 إلى 7)، وكذلك فما بعد، عندما استشهد ربي عقبيه، في سبيل إيمانه، سنة 135 م وهو يقول: "لقد أحببته بكل قلبي وبكل ما أملك. ولم يتسنَّ لي حتى الآن أن أحبه بكل كياني (راجع كلمة نفس)، وقد حان الوقت الآن " ولما أطلقت هذه الكلمات السامية، كان يسوع المسيح سبق وأنعم على البشر بالوحي الكامل.
العهد الجديد
لقد كانت المحبة بين الله والبشر قد انكشفت في العهد القديم، خلال سلسلة من الأحداث، مبادرات إلهية من قبل الله ورفض من جهة الإنسان، عذاب الحب المنبوذ وارتقاء أليم لدى الإنسان لكي يستطيع أن يرتفع إلى مستوى الحب ويتقبل نعمته. وفي العهد الجديد، يتجلى هذا الحب الإلهي، من خلال حادث فريد من شأنه أن يحوّل بذاته كل معطيات الموقف، وهو أن المسيح نفسه يأتي إلى عالمنا ليعيش، كإله متأنس، درامة حوار المحبة بين الله والإنسان.
1. هبة الآب:
إن مجيء يسوع هو أولاً مبادرة من الآب. بعد ما كلمنا بالأنبياء وقدم لنا وعود العهد القديم، تذكر الله رحمته (لوقا 1: 54-55، عبرانيين 1: 1-2)، وأخبر عن نفسه (يوحنا 1: 18) وأظهر محبته (رومة 8: 39 يوحنا 3: 1، 4: 9) في شخص الذي هو ليس فقط المسيحّ المخلَص المنتظر (لوقا 2: 11)، بل أيضاً ابنه بالذات (مرقس 1: 11، 9: 7، 12: 6)، الذي يحبه (يوحنا 3: 35، 10: 17، 15: 9، كولسي 1: 13). وعندئذ يظهر حبّ الآب على أسمى وجه. هاهو ا لعهد الجديد قد تحقّق وانعقدت أفراح الزفاف الأبدية بين العريس والبشرية حيث يصل السخاء الإلهي الذي ظهر منذ نشأة إسرائيل (تثنية 7: 7-8) إلى قمته. وبقبوله الابن، لا يستطيع الإنسان إلا أن يتخلى عن كلّ كبرياء وعن كل زهو مبني على فضله الشخصي إذ إن هبة الحب هذه التي يقدّمها لنا الله هي مجانية محضة (رومة 5: 6-7 تيطس 3: 5،1 يوحنا 4: 10-19). وهذه الهبة نهائية، لا رجعة فيها، تتجاوز حياة المسيح على الأرض (متى 20:28 ، يوحنا 14: 18- 19). وقي تصل إلى أقصى حدّ إذ إن الله يرتضي مموت الابن لكي تكون الحياة للعالم (رومة 5: 8، 8: 32 ) " ولكي نصبح أبناء الله (1 يوحنا 3: 1غلاطية 4: 4- 7) "فإن الله بلغ من حبه للعالم أنه جاد بابنه الواحد" (يوحنا 3: 16)، لكي ينال البشر الحياة الأبدية. وليت الذين يرفضون أن يؤمنوا بالذي أرسله ويستحبون الظلام على النور (3: 19) يجلبون الدينونة على أنفسهم. فلا بد من الخيار، بين المحبة بواسطة الإيمان بالابن أو الغضب برفض هذا الإيمان (3: 36).
2. ظهور الحب الكامل في شخص المسيح:
لا تظهر درامة المحبة في علاقتنا بالمسيح فحسب، بل في شخصه بالذات. فالمسيح، بوجوده، تجسيد للحب. فهو، بصفته إنسان يحقق الحوار البنوي مع الله ويشهد له أمام البشر. وبصفته إله، يأتي ليعيش حبه، في بشرية كاملة، ليسمعنا نداءه الحار. في شخص يسوع يحب الإنسان الله " كما أنه موضوع محبته.أ) تشهد حياة يسوع كلها لهذا الحوار المزدوج. فمنذ البدء، إذ كرّس نفسه للآب (لوقا 2: 49، راجع عبرانيين 10: 5-7)، فهو بعيش في جوَ من ا لصلاة والشكر (راجع مرقى 1: 35 ، متى 11: 25)، وخصوصاً في المطابقة التامة للإرادة الإلهية (يوحنا 4: 34، 6: 38)، وهو في حالة من الإصغاء الدائم إلى الله (5: 30، 8: 26 و40)، الأمر الذي يضمن له استجابته منه (11: 41- 42، راجع 9: 31). وبالنسبة إلى البشر، يعطي يسوع حياته كلها، ليس فقط لبعض أحبائه (راجع مرقس 10: 21، لوقا 8: 31، يوحنا 11: 3 و5 و36)، بل للجميع (مرقس 10: 54). وهو يمضي من مكان إلى آخر يحمل الخير (أعمال 10: 38، متَى 11: 28- 0 3)، في تجرّد تام (لوقا 9: 58)، مبدياً عنايته نحو الجميع، وبخاصة نحو المنبوذين والخطأة (لوقا 7: 36 50، 29: 1- 10، متى 21: 31 - 32). وهو يختار مجاناً من يريد لكي يجعلهم أحبّاءه (يوحنا 15: 15- 16). يدعو هذا الحب إلى المعاملة بالمثل. نعم، لا تزال الوصية التيجاء بها سفر التثنية سارية المفعول (متى 22: 37، راجع رومة 8: 28، 1 كورنتس 8: 3، 1 يوحنا 5: 2)، ولكن يتم تنفيذها الآن، عن طريق يسوع. فبمحبتنا له، نحب الآب (متى 40:10، يوحنا 42:8،21:14 ، 14 : 21 - 24). أخيراً تعني محبتنا ليسوع المحافظة التامة على كلامه (يوحنا 14: 15 و21 و23) والتضحية بكل شيء في سبيل اتباعه (مرقس 10: 17- 21، لوقا 4 1: 25- 27). وبالتالي نشاهد من خلال كل صفحات الإنجيل، الانقسام الذي يصبح بين الذين يقبلون هذا الحب والذين يرفضونه ولا سبيل هنا إلى الحياد (يوحنا 6: 60- 71، راجع 3: 18- 19 ، 8 : 13- 59 ، 12: 48).ب) وعلى الصليب، يكشف الحب شدته وطابعه الدرامي بطريقة حاسمة. كان يجب أن يتألم يسوع (لوقا 9: 22 ، 17 : 25، 24: 7 و26: راجع عبرانيين 2: 17- 18) لكي يسطع ببهاء طاعته للآب (فيلبي 2: 8) ومحبته لذويه (يوحنا 13: 1). وهو.بملء حريته (متى 26: 51- 54، يوحنا 10: 18). يحتمل صمت الله الظاهري (متى 26: 39 -44، 27: 46. راجع عبرانِيين 4: 15) ويقاسي العزلة الإنسانية المطلقة (مرقس 14: 50، 15: 20- 32). رغم ذلك كله؟ نراه يصفح للجميع، فاتحاً قلبه للجميع (لوقا 23: 28 و 34 و 43، يوحنا 19: 29- 27)، وهكذا يصل يسوع إلى هذه اللحظة الحاسمة، لحظة الحب الأعظم (يوحنا 15: 13). وأثناءها يعطي ذاته لله (لوقا 23: 46)، ولجميع الناس بدون استثناء (مرقس 10: 54، 14: 24، 2 كورنتس 5: 14- 15، 1 تيموتاوس 2: 5- 6). فبالصليب يتمجد الله تماماً (يوحنا 17: 4)، ويستحقَ يسوع (1 تيموتاوس 2: 5) لنفسه وللإنسانية جمعاء أن يكونا موضوع حب الله بدون حدود (يوحنا 10: 17، فيلبي 2: 9- 11)، وهكذا يلتقي الله والإنسان في الوحدة، بحسب صلاة يسوع الأخيرة (يوحنا 17) مع مراعاة توجب على الإنسان أن يقبل طوعاً هذا الحب الكامل بكل مطالبه، وقد يصل به الأمر إلى التضحية بحياته على أثر المسيح (17: 19). وهو يجد في طريقه عثرة الصليب التي ليست إلا عثرة المحبة. وهنا تتجلى في كمالها هبة العريس للعروس (أفسس 5: 25- 27، غلاطية 2: 20)، ولكن تظهر أيضاً للبشر التجربة الكبرى التي تعرضهم لخرق الأمانة.
3. المحبة الشاملة في الروح القدس:
حقاً، تجلّى الحبّ الكامل على الجلجلة، لكنه ظهر بطريقة كانت بمثابة اختبار حاسم: وفعلاً، قد تخلى أصدقاء يسوع عنه في صلبه (مرقس14: 50، لوقا 23: 13- 24)، وهذا يرجع إلى أن الإذعان للدرب الإلهي ليس موضوع تواجد جسدي أو برهنة عقلية، وبالإيجاز ليس هو موضوع معرفة بشرية (2 كورنتس 5: 16). ولكن لا بد له من هبة الروح الذي يخلق في الإنسان قلباً" جديداً (راجع إرميا 31: 33- 34، حزقيال 36: 25 - 27). فالروح الذي أفيض يوم العنصرة (أعمال 2: 1- 40)، بحسب وعد المسيح (يوحنا 14: 16- 18، راجع لوقا 24: 49)، لا يزال موجوداً منذ تلك اللحظة في العالم (يوحنا 14: 16) بواسطة الكنيسة (أفسس2: 21- 22)، وهو يعلّم البشر ما قاله لهم يسوع (يوحنا 14: 26) ويمكنهم من فهمه من الداخل فهماً دينياً حقيقياً. ويتساوى هذا الناس، سواء أكانوا شهوداً لحياة يسوع على الأرض أم لم يكونوا، بدون تمييز في الزمن أو في العنصر، حيث يحتاج كل إنسان إلى الروح لكي يستطيع أن يقول" أباً أيها الآب" (رومة 8: 15) وبمجد المسيح (يوحنا 16: 14) ستفيض فينا محبّة الله (رومة 5: 5) وتأخذ بمجامع قلوبنا (2 كورنتس 5: 14)، وهي محبة لا يستطيع أي شيء أن يفصلنا عنها (رومة 8: 35- 39)، وهى تعدّنا للقاء النهائي مع المحب الإلهي حيث سنعرف مثلما تحن معروفون " (1 كورنتس 12:13).
4. الله محبة:
إن المسيحيين، إذ ينقادون بالروح لكي يحيوا مع ربهم حوار المحبة، يقتربون من سرّ الله ذاته. لأن الله لا يكشف لأوّل وهلة عمن هو، ولكنه يتكلّم ويدعو ويعمل، وعن هذا الطريق، تزداد معرفة الإنسان عمقاً. لقد كشف الله، بإعطائه ابنه، أنه هو الذي يعطي نفسه بداء الحب (راجع رومه 8: 32). وإذ يحيا الابن الوحيد مع أبيه في حوار محبة مطلقة يكشف أيضاً أنه هو والآب "واحد" منذ الأزل (يوحنا 10: 30، راجع 17: 11 و21- 22)، وأنه هو ذاته الله (يوحنا 1: 1، راجع 10: 33- 38، متى 11: 27). ويعرفنا الابن الوحيد، الذي في حضن الآب، بالله الذي "ما من أحد رآه " (يوحنا 1: 18). وهذا الإله الواحد قائم فيه وفي أبيه المتّحدين في الروح القدس. ويستطيع "التلميذ المحبوب "، الذي عاش اختبار المحبة والإيمان، أن بعبر بلا شك عن الكلمة الأخيرة في جميع الأمور: "الله محبة"(1 يوحنا 4: 8 و 16). فمن بين جميع الكلمات البشرية بما فيها من غًنى وتقصير، نبقى كلمة " المحبة"هي التي تسمح لنا بأن نتبيَن، على أفضل وجه، سرَ الثالوث الإلهي والهبة المتبادلة والأزلية ببن الآب والابن والروح القدس.
ثانياً: المحبة الأخوية
العهد القديم:
منذ العهد القديم ،كملت وصية محبة الله "بالوصية الثانية": "أحبب قريبك كنفسك" (لاويين 19: 18). وفي واقع الأمر، لم تعطَ لهذه الوصية، في التقديم، الأهمية التي أعطيت للوصية الأولى (راجع لاويين 19: 1-37 وتثنية الاشتراع 6: 4- 13)، وقد يكون لكلمة القريب معنى محدوداً جداً. ولكن الإسرائيلي مطالب، منذ ذلك الوقت، بأن يعير اهتماماً "الآخرين". وتظهر أقدم النصوص أن موقف اللامبالاة أو العداء نحو الغير يُعَدُّ إهانة موجهة لله (تكوين 3: 12، 4: 9). تضيف الشريعة إلى واجباتنا نحو الله المتطلبات التي تنظّم العلاقات بين البشر: ومنها مثلاً ما جاء في الوصايا العشر (خروج 20: 12-17) و" قانون العهد" الذي تتوفر فيه الأوامر الحاثة على مراعاة الفقراء والصغار (خروج 22: 20- 26، 23: 4- 12). وكل التراث النبوي (عاموس 1: 2، إشعيا 1: 24- 17، إرميا 9: 52، حزقيال 18: 5- 9، ملاخي 3: 5) وكلّ تعليم كتب الحكمة (أمثال 14: 21، 1: 8-18، سيراخ 25: 1، حكمة 2: 10 - 12)، تسير في نفس الاتجاه. فلا يستطيع المرء أن يرضي الله بدون احترام سائر البشر وبخاصة المنبوذين منهم ومن لا يثيرون " الاهتمام ". ولم يعتقد أبدأ أنه من الممكن أن يحب الإنسان الله بدون أن يهتم بالناس، فقد جاء في الكتاب المقدس: " أجرى الحق والعدل... لقد أجرَى الحكم للبائس والمسكين... أليست هذه هي معرفتي؟ (إرميا 22: 15- 16). وتخصّ النبؤة مباشرة الملك يوشيّا ولكها تنصب على إسرائيل بأسره (راجع إرميا 9: 4). قليلاً ما أطلق على هذا الواجب تسمية "محبة" صراحة ( لاويين 19: 18، 19: 34، تثنية 10: 19). غير أنه في مناسبة المحبة نحو الغرب، تبنى الوصية على واجب الإنسان أن يقتدي بمعاملة الله لبني إسرائيل أثناء الخروج: "يحب الله الغريب، يرزقه طعاماً وكسوة، أحبوا الغريب، فإنّكم كنتم غرباء في أرض مصر" (تثنية 15: 18- 19). وليس الأمر مبنياً على مجرد التضامن الطبيعي ولكن على تاريخ الخلاص. قبل مجيء المسيح، عمقت الروحانية اليهودية طبيعة المحبة الأخوية" وشملت محبة الغير الخصم اليهودي بل حتى العدوّ والوثني، وهكذا اتّسعت دائرة المحبة، بالرغم من أن إسرائيل لا تزال تحتلّ مركزها الأساسي. ونسمع هليل يقول: ابتغ السلام، أحب المخلوقات وقدها إلى الشريعة. واكتشف يهود هذه الفترة أن المحبة تواصل العمل الإلهي: "كما أن القدوس، تبارك اسمه، يكسي العراة، ويعزّي الحزانى ويدفن الموتى، كذلك أنت أيضاً اكس العراة، افتقد المرضى... الخ ". و بناء على ذلك، كان من السهل أن يربط الإنسان بين الوصيتين المتعلقتين بمحبة الله والقريب، وهذا ما فعله يوماً ما أحد علماء الشريعة، في مقابلة له مع يسوع (لوقا 10: 26-27).
العهد الجديد:
إذا كان المفهوم اليهودي يرى في المحبة الأخوية وصية تضاف إلى وصايا أخرى وعلى نفس المستوى فالرؤية المسيحية توليها الصدارة بل تعتبرها الوصية الوحيدة.
1. الوصيتان:
من أول صفحات العهد الجديد إلى آخرها، يظهر حبّ القريب غير قابل للانفصال عن الحب الإلهي: فالوصيّتان هما قمة الشريعة ومدخلها (مرقس 12: 28 -33//)، "المحبة الأخوية هي تمام العمل بالشريعة" (غلاطية 5: 14، 6: 2، رومة 13: 8- 9، كولسي 3: 14)، وهي في آخر الأمر، الوصية الوحيدة (يوحنا 15: 12، 2 يوحنا)، وهي العمل الوحيد والمتعدّد الأوجه لكل إيمان حي (غلاطية 5: 6 و22//). "لأن الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه ونعلم أنّا نحبّ أبناء الله إذا كنا نحب الله" (1 يوحنا 4: 20- 21، 5: 2). ولا يمكننا أن نجد تعبيراً أوضح من هذا، ليؤكّد أنّ في جوهر الأمر لا يوجد إلا حب واحد. تتّخذ إذاً محبة القريب طابعاً دينيّاً، وهي ليست مجرد محبة طبيعية للبشر، فهي دينية بمثلها الأعلى ألا وهو محبة الله نفسه (متى 5: 44 45، أفسس 5: 1 -2 و 25، 1 يوحنا 4: 11-12). وأخيراً، هي دينية بالأخص من حيث مصادرها، إذ هي عمل الله فينا: لن يتّسنى لنا أن نكون رحماء مثل الآب السماوي (لوقا 6: 36)، ما لم يعلّمنا الرب (1 تسالونيكي 4: 9)، وما لم يسكب الروح في قلوبنا المحبة (رومة 5: 5. 15: 30 ). تأتي هذه المحبة من عند الله وتحل فينا بمجرد أن يتّخذنا الله كأبناء له (1 يوحنا 4: 7). وهي إذ تأتي من عند الله، تعود إليه: لأننا عندما نحب إخواننا نحب الرب نفسه (متى 25: 40)، إذ كلنا معاً نكون جسد المسيح (رومة 12: 5- 10، 1 كورنتس 12: 12- 27). وهكذا نستطيع أن نتجاوب مع المحبة التي سبق وأحبنا بها الله (1 يوحنا 3: 16، 4: 19-20). وفي انتظار مجيء الرب، تشكّل المحبة المطلب الأساسي الذي بموجبه تتمّ دينونة البشر (متى 25: 31- 46). هذه هي الوصية التي تركها يسوع لنا: "ليكن حبّ بعضكم لبعض كما أنا أحببتكم " (يوحنا 13: 34-35)، ويواصل المسيح عمل حبه من خلال أعمال التلاميذ هذه الوصية، بالرغم من أنها قديمة، لأنها مرتبطة بينابيع الوحي نفسها (1 يوحنا 2: 7-8)، إلا أنها وصية جديدة ، لأن المسيح افتتح عهداً جديداً بذبيحته وأسس الجماعة الجديدة التي أنبأ عنها الأنبياء، وأعطى لكل واحد الروح الذي يخلق قلوباً جديدة. فإذا اتّحدت الوصيتان فهذا لأن المسيح يواصل حبه من خلال المحبة التي يبديها التلاميذ بعضهم لبعض.
2. المحبة هبة:
تظهر المحبّة المسيحية، خاصة من خلال الأناجيل الإزائيّة و بولس الرسول، على صورة الله الذي سلم مجانا ًابنه لخلاص جميع الخطأة، بدون أي فضل من قبلهم (مرقس 10: 45، رومة 5: 6-8). فهي إذاً شاملة لا تبق على أي حاجز اجتماعي أو عنصري (غلاطية 3: 28)، ولا تزدري أحداً (لوقا 14: 13، 7: 39)، بل أكثر من ذلك، هي تطالب بمحبة الأعداءّ (متى 5: 43-47، لوقا:10 29- 37). ولا تعرف المحبة اليأس، فهي تتميز بالصفح " بدون حدود(متى 18: 21- 22، 6: 12 و 14- 15)، وبالمبادرة الطيّبة نحو الخصم (متى 5: 23-24)، بالصبر وبمقابلة ا لشر بالخير (رومة 12: 14- 21، أفسس 4: 25- 5: 2). وفي الزواج، تتّخذ المحبة شكل الهبة الكاملة، على مثال ذبيحة المسيح (أفسس 5: 25- 32). وأخيراً، هي للجميع خدمة متبادلة (غلاطية 5: 13)، ينكر فيه المرء ذاته مع المسيح المصلوب (فيلبي 3: 1- 11). وفي نشيده للمحبة (1 كورنتس 13)، يوضح بولس طبيعة المحبة وعظمتها. رغم انه لا يهمل أياً من التزامات المحبة اليوميّة (13: 4-6)، يؤكّد أن لا شيء له، قيمة بدون المحبة (13: 4-6)، بل يؤكد أن لا شيء له قيمة بدون المحبة الغير، كما أحب المسيح، سنختبر منذ الآن حياة إلهية وخالدة (13: 8-13)، كما أن المحبة تبني الكنيسة (1كورنتس 8: 1، أفسس4: 16)، وتجعل الإنسان كاملاً في يوم الرب (فيلبي ا: 9- 11).
3. المحبة شركة:
لا شك أن يوحنا يتكلم أيضاً عن اتساع المحبة ومجانيتها (يوحنا 3: 16، 15: 16، 1 يوحنا 4: 10)، ولكن، إذ هو يتميز بإدراكه لشركة الآب والابن في الروح القدس، فهو يلفت النظر إلى نتائج هذه الحقيقة بالنسبة إلى محبة المسيحيين بعضهم لبعض. يجب أن تعبر أخويتهم عن شركة تامة، يلتزم فيها كل واحد منهم بكل ما فيه من طاقات المحبة والإيمان. إزاء العالم جث لا يستطيع المسيحي أن يجلب سلطان" الشرير" (1 يوحنا 2: 14- 15،راجع يوحنا 17: 9)، سوف يحبَ أخوته بمحبة مضحّية وواقعيّة (1 يوحنا 3: 11- 18)، خاضعة لقانون إنكار الذات والموت التي بدونها لا توجد خصوبة حقيقية (يوحنا 12: 24- 25). وبواسطة هذه المحبة، يبقى" المؤمن في شركة مع الله (1 يوحنا4: 7 إلى 5: 4). وهذه هي صلاة يسوع الأخيرة: "لتكن فيهم المحبة التي إياها أحببتني فأكون أنا فيهم " (يوحنا 17: 26). وإذ يحيا التلاميذ هذه المحبة الأخوية، في عالم لا ينتمون إليه (17: 11و 15- 16)، فتستطيع محبتهم هذه أن تكون بمثابة شهادة يثبت للعالم من خلالها أن يسوع هو المرسل حقاً من الآب (17: 21) "ويعرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي إذا أحب بعضكم بعضاً" (35:13).
حب صدقة مواهب الروح القدس اتحاد ضمير عطية جوع وعطش تواضع أعمال صلاة وحدة أرامل