مقدمة
إن الله، "صانع كل ما حدث، وكل ما يحدث الاَن وسيحدث في المستقبل " (يهوديت 9: 5- 6) يعمل "بمقدار وعدد ووزن" (حكمة 11: 21). ومعنى هذا أن التاريخ البشري لا يسير بحسب نزوات قدر أعمى بل هو نتيجة لإرادة اللّه، وبالتالي فهو موجّه منذ البداية إلى النهاية بالهدف الذي يسير نحوه. وهذا الهدف كما حدّده قضاء الله الأزلي له ثمة مظهران أساسيان: الأول الخلاص في المسيح والثاني خلاص جميع البشر. هذا هو " سر مشيئة الله أي ذلك التدبير الذي ارتضى قضاءه في المسيح ليحققه عندما تتم الأزمنة " (أفسس 1: 9- 10، راجع 3: 11). وقد كان مستتراً منذ قرون طويلة، حيث وضعت خطوطه الأولى في وحي العهد القديم، ولكن لم يكشف بملئه إلاّ في الزمن الذي فيه. دخل المسيح تاريخ عالمنا هذا (أفسس 3: ا- 12) ومع ذلك فإن هذا القصد الإلهي يعطي وحدة ومعنى لتاريخ شعب الله وللكتاب المقدّس بأسره. وإن كانت الإصطلاحات الدقيقة الخاصة بهذا القصد تظلّ نادرة في العهد القديم، إلاّ أنه يستشفّ عنه في خطوطه العريضة من خلال أول صفحاته إلى آخرها.
العهد القديم
يعطي العهد القديم لقصد الله اللمسات الأولى التقريبية، غير الكاملة والمؤقتة، وهي توجد في التيّارات الأدبيّة المختلفة التي تقابل المواقف المتنوّعة لإيمان شعب إسرائيل إزاء التاريخ المقدّس.
أولاً: الإقرارات الإيمانيّة الطقسيّة
لقد احتفظت لنا مدرسة تثنية الاشتراع بنصوص طقسيّة مثل الإقرارات الإيمانيّة (تثنية 26: 5-10) وملخّصات تعليميّة (خروج 26:12 - 27، تثنية 20:6..) ورؤوس مواضيع لعظات كهنوتيّة (يشوع 24: 2- 15)، كلّها منقولة من نفس النموذج، وهي نصوص تدلّ كلّها على المكانة الخاصة التي كانت تحتلها فكرة قصد الله في إيمان شعب إسرائيل: فقد كان هذا الإيمان يستقي من هذه الفكرة الفهم الديني للتاريخ القومي في خطوطه العريضة. في هذا السياق، يتمّ على يد الله، اختيار الأسلاف، والوعد بذريّة ووطن، وتتميم هذا الوعد بواسطة أحداث مرتّبة من العناية الإلهيّة، ومن أهمّها الخروج وعهد سيناء، وهبة الشريعة وغزو أرض كنعان. ويبقى المستقبل مفتوحاً، لا مجال للشك في أن الله الذي بدأ في تحقيق مصيره لهذه الأحداث سوف يقوده إلى نهايته. ويعلم الإسرائيلي إذاً أن حياته كلّها مندمجة في درامة تدور في عدة فصول ولكن لا تنكشف له نهايتها إلاّ جزئيّاً.
ثانياً: الفهم النبوي للأحداث
وعلى هذا الأساس، يضيف الأنبياء عناصر جديدة، "فالله لا ينفّذ كلمة إلا بعد أن يكشف سرّه لعبيده الأنبياء" (عاموس 3: 7). فقبل أن تتمّ الأحداث، تسبقها مشورة إلهيّة (إشعيا 5: 19، 14: 26، 19: 17، 28: 29، 46: 10، إرميا 23: 18- 22)، وتخطيط (ميخا 4: 12)، ومشيئة إرادة مطلقة (إشعيا 44: 28، 46:10، 48: 14، 53: 10). هذه هي الحقيقة الخفيّة التي يعلنها الأنبياء لشعب الله. وهم يبرزون وجودها في التاريخ القومي: أثناء الخروج، أراد الله أن يرفع الشعب الإسرائيلي إلى مرتبة الإبن (إرميا 3: 19 - 20)، ويجب تقييم التصرّف الحالي لهذا الشعب العاقّ بالنسبة إلى هذه الحقيقة،التي تتطلّب منه توبة خالصة. فلا يزال قصد الله يقود التاريخ الحاضر: فإذا كان نبوكد نصّر يفرض نيره على إسرائيل وعلى البلاد المجاورة، فهو يفعل هذا كخادم لله (إرميا 27: 4- 8)، وكآلة لغضبه ضد شعوب مذنبة (إرميا 25: 15…). وإذا لحق الدمار بهذه الأمة الوثنيّة أو تلك، فهذا يتم بموجب تخطيط محدّد ولإظهار حكم الله (إرميا 49: 20، 50: 45). و إذا أصبح كورش سيّد الشرق، فهذا مرتّب لتنفيذ إرادة إلهيّة وتحقيق خلاص إسرائيل (إشعيا 44: 28، 46: 10، 48: 14). وأخيراً، في نبوّاتهم الخاصة عن نهاية الأزمنة، يكشف الأنبياء الهدف الذي إليه يقود الله التاريخ ألا وهو الخلاص: خلاص يتحقّق لجميع الأمم بالاشتراك مع إسرائيل (راجع إشعيا 2: ا- 4 الخ)، خلاص تعطي عنه الأحداث الماضية صورة جزئيّة، لأنها كانت تمثّله مقدّماً، خلاص يتجاوز المستوى الزمني، إذ إنه سيتضمّن فداء للخاطئين مطابقاً لقصد الله (إشعيا 53: 10) فإذن تشمل الصورة التي رسمها الأنبياء هذا القصد بأجمعه، بل قد يحدث أن تجتمع كل هذه الاعتبارات في وحدة شاملة، كما جاء في المثل الذي يذكر فيه حزقيال ماضي شعب إسرائيل وحاضره ومستقبله على التوالي (حزقيال 16).
ثالثاً: النظريّات الإجماليّة التاريخيّهَ
تقدّم إقرارات الإيمان والفهم النبوي للأحداث الإطار الفكري الذي يعطي الأسلوب التاريخي نوعيته الخاصة. وبالرغم من أن المواد التاريخية في نظر العلم الحديث، قد جمعت من مصادر مختلفة، وأنها ذات قيمة متباينة، فاستعمالها، بصورة منتظمة، يعطي لهذه المحاولات قيمة دائمة، تتجاوز مستوى مجرَد جمع الوثائق. فالإيمان يوحد التاريخ، ليتيح للعقل أن يدرك تواصله (وهذا ما نراه في مجموعة التقاليد اليهودية). كما أن هذا الإيمان يبرز قوانين العناية الإلهية التي تفسّر مجرى التاريخ، كما ورد في التقديم الشامل لسفر القضاة (2: 11- 13). وهكذا تظهر جميع الأحداث راجعة إلى قصد خلاص واحد. وبالرغم من أن الاهتمام موجه مباشرة إلى مصير شعب إسرائيل وحده، إلا أن النظرة الشاملة للخلاص لا تزال موجودة (راجع تكوين 9: 12، 10، 12: 3، 49: 10). وبمرور الزمن، تكشف أحداث جديدة، بطريقة أوضح العناصر الأساسية لهذه النظرة الإجماليّة. وهكذا تضيف مدرسة الّتثنية إلى مجموعات التقاليد القديمة- التي سيوجزها المؤرخ الكهنوتي- تاريخ الغزو (يشوع)، وتاريخ القضاة (قضاة)، والمملكة (صموئيل وملوك) حتى زوال المؤسسات القومية. وإذ يتناول مؤرخ الأخبار الأيام نفس التصميم. فهو يختمه بتاريخ النهضة اليهودية ا (أخبار. عزرا " نحميا). ومن البديهي أن نعرف هنا تحقيقاً عمليّاً للمخطط الإلهي الأزلي. القادر أن يبطل خطط البشر (مزمور 33: 10- 11). ولذا.تندمج مباشرة هذه النظريات التاريخية الإجمالية في صلاة شعب إسرائيل (مزمور77، 78، 105، 106)، فيتغذى الإيمان بمعرفة القصد الإلهي المعلن من خلال الأحداث.
رابعاً: تفكير كتب الحكمة
ولهذا السبب بالذات. نرى تفكير" الحكماء" الذي يحمل عادة طابعاً يتجاوز الزمن - منصباً هنا نحو التاريخ الواقعي ،لكي يستخلص منه العبر. فهو يقوم على التأمل في طرق الله التي تختلف كل الاختلاف عن طرق الإنسان (إشعيا 55: 8).والتي يعجز الخطأة عن إدراكها (مزمور 94: 10). ويشزّ صاحب سفر الجامعة عن هذا الإجماع عندما يتغنّى بالعودة الدائمة للظواهر الأرضيّة (جامعة 1: 4- 11)، وبعدم إمكانيّة إدراك الأزمنة المختلفة (3: 1- 11). فإذا هو متشبعّ بسرية الحياة، لا يقتنع بالحلول السهلة. ولكن في نصوص أخرى من كتب الحكمة، يختلف الاتجاه الفكري تماماً. فيتأمّل ابن سيراخ في سيرة الأسلاف (سيراخ 44 إلى50). ويكشف صاحب كتاب الحكمة، في تاريخ الآباء وفي "الخروج "، القوانين الأساسيّة للتصرف الإلهي، المطبقة باستمرار في تحقيق قصده على هذه الأرض (حكمة 10 إلى 19). وهذا درس ثان لأناس يعلمون ارتباطهم بهذا القصد وهم في انتظار إنجازه الكامل.
خامساً: الأدب الرؤيوي
في نقطة التقاء الحكمة والنبوّة، يجمع التيّار الرؤيوي أخيراً ما كانت اليهودية المتأخرة تعرفه عن قصد الخلاص،في ضوء الكتب المقدسة القديمة التي يكمّلها وحي سماوي: لقد سبق ورأى إشعيا (25: 2) في سقوط "مدينة الشر" تنفيذ المشورة الإلهية. ولكن النبي دانيال هو الذي يشمل،في نظرة إجمالية، تاريخ الأمة الماضي، ووضعها الحاضر والمستقبل الاسكاتولوجي الذي تنزع إليه. تزول الدول ولكن، من خلال تتابعها، يتهيّأ مجيء ملكوت الله، موضوع المواعيد القديمة (دانيال 2: 7). تدبّر قوى الاضطهاد مؤامراتها ضد شعب الله، ولكنها تتجه نحو فنائها. بينما الشعب الإسرائيلي يسير نحو خلاصه (دانيال 8: 19 - 26 ،10: 20، 12: 4). هذا هو السر (دانيال 2: 22 و 27- 28) الذي كان جوهره كامناً في العدد الرمزي المذكور ني الكتب المقدّسة (دانيال 9). وإننا نجد نفس التفكير في الأدب الرؤيوي الدخيل (أخنوخ)، وهو يعتبر خاصة من خصائص اليهودية المعاصرة للعهد الجديد. وهكذا نرىَ الدور الأساسي لموضوع القصد الإلهي في العهد القديم: فالتاريخ المقدس يحققه وكلمة الله تعلنه، وليس معنى هذا أن الإنسان يسيطر بنوع ما على الأسرار الإلهية، ولا الله، في محبته، يكشفها له تدريجياً ملقياً في نفس الوقت الضوء على معنى وجوده.
العهد الجديد
يندمج العهد الجديد بأسره في نفس التخطيط، إلا أنه يحدد فقط الحلقة الأخيرة، وهي أكثر أهميَة، بظهور المسيح، الذي ينكشف فيه قصد الله بملئه، وفي نفس الوقت، يتحقق بصورة تاريخية.
أولاً: يسوع في قصد الله
1. يرى يسوع نفسه في مركز القصد الإلهي: بعد نهاية "مرحلة الإعداد، أي في ملء الأزمة. يعبر عن هذا ا الإدراك من خلال عبارات متنوعة: إرسال يسوع من قبل الآب (متى 15: 24، يوحنا 6: 57، 10: 36)، ومجيئه في هذا العالم (متى 5: 17، مرقس 10: 45، يوحنا 9: 39)، تحقيق إرادة الآب (يوحنا 4: 34، 5: 0 3، 6: 38)، وتحقيق الكتب المقدسة (لوقا 22: 37، 24: 7 و 26 و 44، يوحنا 13: 18، 17: 12) أو فقط ضرورة آلامه (يجب عليه... مرقس 8: 31، لوقا 17: 25، يوحنا 3: 4 1، 2 1: 34) وتجيء ساعته (بوحنا 12: 23). تحدّد هذه التعبيرات موقفاً حاسماً، يعمل دائماً يسوع بمقتضاه. فكرازته بالبشرى السارة الخاصة بالملكوت (متى 4: 17 و 23)، وشفاؤه المرضى وطرده الشياطين، كلَ هذا وفي أنه هو الذي يجب أن يأتي (متى 11: 3- 5) وأن ملكوت الله قد حضر (متى 12: 28). ومن خلاله يصل قصد الله إلى نقطته الحاسمة وفيه تتحقَق نبوَات الكتب المقدسة التي كانت ترسم مقدماً هدفه. ففي تلقي النور على معنى مصيره في مرحلته الأرضية: هذا المصير الذي يعبر خلال الصليب ليصل إلى المجد، وبعكس ذلك، يلقي مصيره الأرضي الضوء على الكتب المقدّسة. مظهراً كيفيَة تحقيق هذه النبوّات في الأحداث.02 إلى هذا الإعلان العملي. يضيف يسوع تصريحات شفوية أكثر وضوحاً. صح خلال الأمثال "، حيث يصنف أسرار" ملكوت الله (متى 13: 11)، ويُظهر كيف يصل قصد الخلاص إلى هدفه بطريقة غير متوقعة. أجل، إن موته بالذات هو بمثابة النقطة الأساسية لقصد الخلاص (متى 21: 38 -39)، لكي "يصيرِ الحجر، الذي رذله البناءون رأس الزاوية " (21: 42). ونتيجة لذلك، يزرع كرم " الملكوت من شعب إسرائيل لكي يعهد إلى كرّامين آخرين (متى 21: 43)، وستقدَم وليمة العرس "في آخر الأزمنة التي رفضها المدعوون من شعب إسرائيل إلى الفقراء والخطأة الآتين من الخارج (متى 22: 1-11//). وفضلاً عن ذلك، لن يتحقق الملكوت على الأرض بتحويل مفاجئ للعالم: فالكلمة" التي يزرعها يسوع ستنبت ببطء في القلوب، مثل الحبة في الأخاديد، وستجتاز فترات فشل بجانب فترات نجاح باهرة (متى 13: 1- 9 و 18- 23). وبالرغم من ذلك، سيشمل الملكوت العالم كله في النهاية، مثل الشجرة الفارعة التي تنشأ من حبة صغيرة (متى 13: 31-32//)، وسيحوله تحويلاً جذرياً كما تفعل الخميرة في العجين (متى 13: 33-11). وهذا يتطلّب زمناً طويلاً. ولذا يميز يسوع في المستقبل عدة مستويات متتالية: مستوى آلامه الوشيكة الوقوع الملحقة بقيامته في اليوم الثالث، ومستوى عودته المجيدة تحت سمات ابن البشر (متى 24: 30- 31). كذلك عندما يفكر في إنشاء الملكوت، يميز بين زمن تأسيسه وزمن تحققه الكامل (متى 13: 24- 30 و 47-49). فيدخل بهذا، في النظرة النبوية الإسكاتولوجيّة. بعداً زمنياَ لم يكن شيء يسمح، إلى ذلك الحين، بالتفكير فيه، حتى ولا تبشير يوحنا المعمدان. وسيمرّ القصد الإلهي بمرحلة جديدة تتخلل فترة ملء الأزمنة ونهاية الدهور (متى 28: 20). وترقباً لهذه المرحلة. يؤسس يسوع الكنيسة، معطياً صورة مؤقتة عن الملكوت. على شكل مؤسسَة منظومة (راجع متى 16: 18).
ثانياً: إعلان قصد الخلاص
لقد جمعت الكنيسة الأولى كان هذه التعاليم بأمانه. فالإنجيل الذي تعلنه أمام الملأ ليس فقط إنجيل الملكوت، بل هو إنجيل الخلاص " وقد تمَ بيسوع المسيا، ابن الله؟ وهذا الخلاص هو، منذ الآن في متناول جميع الذين يؤمنون باسمي، (أعمال 2: 36 39، 4: 10 12، 0 1: 36، 13: 23). والكنيسة الأولى بكشفها هكذا السر الأخير للقصد الإلهي، ترى نفسها، في كرازتها لليهود، مضطرة مع ذلك أن تتغلب على عثرة الصيب: كيف يسمح الله بأن يقتل مسيحه ؟ ولكن كان هذا الموت " بالذات موضوع قصد محدد وعلم مسبق من قبل الله (أعمال 2: 23، 4: 28...)، كما تشهد بذلك الكتب المقدسة في نصوص كثيرة. وليس الأمر مجرد دفاع عن الإيمان بل إن التفكير المسيحي في عثرة الصليب ينفذ مباشرة إلى لب القصد الإلهي: "إن المسيح مات من أجل خطايانا، كما جاء في الكتب " (1 كورنتس 15: 3). وليس من باب الصدفة أن هذه الكتب قد رسمت، بطرق مختلفة، وجه البارّ المتألم: فهي كانت تشير بهذا الطريقة التي بها سينجز ابن الإنسان عمل الفداء.
ثالثاً: تعليم بولس عن القصد الإلهي
1. نظرة شاملة:
ينصبّ كلّ التعليم اللاهـوتي للقدّيس بولس حول إعلان القصد الإلهي في جملته (أعمال 20: 27). وتوجد هذه الفكرة ضمنياً في كل مكان من الرسائل، إلا أن بولس يستعيد آراء الجماعة الأولى معالجاً إيّاها بطريقة منهجيَة، خصوصاً فيما يتصل بمفارقة الصلب (1 كورنتس 1: 17- 25، 2: 1- 5). في حالتين يأتي هذا الموضوع في مكان الصدارة من تفكيره ويتضح صراحة: أولاً في النظرة الإجمالية التي يقدّم فيها بولس، بإيجاز، تخطيط الله الشامل، الذي تتحقَق ذروته في يسوع المسيح وفي كنيسته، حيث يتم هذا التخطيط طبقاً لمراحل محكمة الاتصال، لصالح الذين يحبّهم الله: الاختيار منذ الأزل ثم الدعوة ثم التبرير وأخيراً التمجيد (رومة 8: 28-.3). هذا التصميم يتوسع فيه بولس بإفاضة في النشيد الذي يفتتح به الرسالة إلى كنيسة أفسس (أفسس 1: 3- 14): كما يتضح أن "التدبير الذي ارتضى قضاءه " من قبل وحققه في ملء الأزمنة، يطابق سرّ الإرادة" الإلهية (1: 9- 10)، هذا السر الذي وضعه المسيح في سر ساطع والذي صار بولس خادماً له ( 3: 1- 21).
2. مصير شعب إسرائيل:
وداخل هذه النظرة الشاملة، يميز بولس نقطة خاصة حيث يُظهر قصد الله بطريقة في غاية المفارقة، ألا وهي مصير شعب إسرائيل " في تدبير الفداء. حقاً لقد كانت الطريقة المتخذة لتحقيق خلاص جميع البشر، طريقة لا تخلو من الغرابة وهي أن يوضع شعب على حدة وأن يخول امتيازات مقصورة عليه (رومة 9: 4- 5)، وأن يوضع ظاهرياً وحده في طريق الفداء". ولكن ما القول عندما لا يكتفي هذا الشعب ينبذ يسوع بل يقسّي قلبه إزاء دعوة الإنجيل ألا يشكّل هذا نوعاً من العثرة هل يكون الله قد نبذ شعب إسرائيل (رومة 11: 1)، وهو الذي لا رجعة في دعوته وهباته (رومة 11: 29)؟ كلاّ، بل إن هذا التصلّب " نفسه الذي تنبأت به الكتب المقدسة (رومة 9: 23، 10: 19، 11، 10) له دوره في قصد الخلاص: أراد الله أن يغلق على جميع البشر في العصيان، ليرحمهم جميعاً (رومة 11: 30 -32)، وأراد أن يقتطع مؤقتاً فروع الزيتون العقيمة ليطعّم بها الوثنيين محلهم (رومة 11: 16-24). وهكذا يظهر امتياز شعب إسرائيل في قصد الخلاص،على ضوئه الحقيقي. فبواسطة إسرائيل أعاد الله صلاته مع الإنسانية وبخطيئة إسرائيل، حقَق أخيراً الخلاص. والاَن قد انتهى زمان وضع إسرائيل على حدة، فيريد الله أن يسترجع وحدة البشر في المسيح، مصالحا اليهود والوثنيين في الكنيسة الواحدة (أفسس 2: 14 - 21)، ولم يستجب إلى هذا الوضع النهائي إلاّ بقيّة من إسرائيل (رومة 11: ا- 6)، ولكن سوف تستجيب جماهير الشعب بدورها لهذه الدعوة عندما يدخل معظم الوثنيين في الكنيسة (رومة 11: 25- 27). وعلى هذا يخضع تاريخ الكنيسة لقصد الله كما خضع له قديماً تاريخ إسرائيل: فهو (تاريخ الكنيسة) يكشف عن تدبير الله الأخير.
رابعاً: التحقيق النهائي لقصد الله
كان تقديم قصد الله في العهد القديم عتيداً أن يكمل في الأزمنة الأخيرة. فقد رسمت النصوص المقدسة مقدّماً نهايته. ويدرك العهد الجديد أن هذا الهدف قد تحقّق، لقد بدأ الملكوت وصار حاضراً في صلب الزمان " غير أنه لم يتحقق بعد بكليته. فزمان الكنيسة يشكَل المرحلة الأخيرة لقصد الله ولكنّه هو أيضاً يسير إلى غايته. ولذا هناك بعد مجال لإسكاتولوجية مسيحية تذكّر بدورها بانقضاء الدهور وتشمل من وجهة النظر هذه، التاريخ الذي يعدها. وهذا ما ترمي إليه سلسلة من النصوص ابتداء من الأناجيل الإزائية (مرقس 13//) مارة بالإشارات التي نجدها عند القديس بولس (1 تسالونيكي 4: 13- 17، 2 تسالونيكي 2: 1- 12، 1 كورنتس 15: 25-28) وانتهاءً برؤيا يوحنا بأجمعها. يفسّر هذا الكتاب الأخير شهادة النصوص المقدّسة القديمة في ضوء المسيح والاختبار الكلي، وينظر بحزم إلى المستقبل، ويواجه الأحداث التي ستبلغ بقصد الله إلى نهايته. فإن إغراءات المسيح الدجّال والاضطهادات ونذر الدينونة الأخيرة المسجّلة في كوارث التاريخ ليست من آثار الصدفة. فالله يعرفها بسابق علمه، ومن خلالها يواصل عمل الخلاص في هذه الدنيا حتى اليوم الذي سيستكمل فيه عدد مختاريه (رؤيا 7: 1- 8). عندئذ، يستطيع الابن أخيراً أن يسلم كل شيء لأبيه (1 كورنتس 15: 24)، ليكون الله كلاً في الكل (15: 28).