1. في أصول الصراع مع يسوع:يبدو تاريخاً أن المسئولية عن موت يسوع تقع أولاً على الطائفة الكهنوتية وعلى الصدّوقيين. فخلال سرد آلام المسيح لم يرد ذكر الفريسيين (فيما عدا يوحنا 18: 3). فما أكثر أولئك الذين كانوا يرغبون في الاتّصال بيسوع بدعوته إلى مائدتهم (لوقا 7: 36، 11: 37، 14: 1). وقد اتّخذ بعضهم صراحة موقف الدفاع عنه (لوقا 13: 31، يوحنا 7: 50)، وعن المسيحيين (أعمال 5: 34، 23: 9). ورأى كثيرون منهم في يسوع المسيح من تمّم إيمانهم اليهودي (أعمال 15: 5)، مثال ذلك بولس أشهر ممثليهم (أعمال 26: 5، فيليبي 3: 5). يبقى مع ذلك أن عدداً كبيراً منهم قد قاوموا بشدّة تعليم يسوع وشخصه. إن هذه المقاومة هي التي كانت لها أهميتها في نظر الإنجيليين وليس انتهازية كبار الكهنة، لأنها هي التي كان بها يتميّز الصراع بين اليهودية والمسيحية. وحتى لا نحكم حكماً فرّيسياً على فرّيسي الزمن السابق، فمن المهمّ أن نعترف، بالصفات التي يرجع إليها أصل تطرّفاتهم. فيسوع يحترم غيرهم (متى 23: 15)، واهتمامهم. بالكمال والطهارة (5: 20)، ويبرز بولس رغبتهم في تطلق الشريعة بكلّ دقّة، فهم يستحقون الإعجاب لتمسكهم بتقاليد شفهية حيّة. ولكن البعض منهم، اعتداداً بمعرفتهم للشريعة، يبطلون وصيّة الله تحت وطأة تقاليدهم الإنسانية (متى 15: 1- 20)، ويحتقرون الجهلة، باسم برارتهم الشخصيّة (لوقا 18: 11- 12)، إنهم يمنعون كل اتّصال بالخطأة والعشّارين، وبذلك يقصرون محبة الله في حدود أفقهم، بل يعتبرون أن لهم حقوقاً على الله بمقتضى أدائهم الممارسات الدينية (متى 20: 1- 15، لوقا 15: 25- 30). ومن حيث إنهم على حدّ قول بولس (رومة 2: 17- 24)، لا يستطيعون أن يطبّقوا عملياً هذا المثل الأعلى، لم يسلكون كمرائين، " قبور مكلّسة" (متى 23: 27). ذلك هو العالم المتزمّت المقيّد بحرفية الشريعة، كما صوّره الإنجيليون، راعين النظام الذي ينبغي أن يكون عليه مسلك هذا أو ذاك من الناس. ومن ثم يظهر مقصد كاتبي الأناجيل بعدم التوقّف عند بعض الأفراد، بل بالإشارة إلى مسلك المتعامين عن كل نور آتٍ من الخارج، ممن يرفضون أن يعدّوا يسوع إلا دجّالاً أو متحالفاً مع الشيطان. 2. الفرّيسية:إن هذا الإستخدام للفظ "فريسيين" في معرض الجدال، قد أدّى لسوء الحظ، إلى تطرف في التعبير لا يمكن وصفه بأنه مسيحي. فإذا ما طبَعْنا بهذه الوصمة لا اليهود، بل سلوك كل إنسان منغلق على نفسه، فالنزعة الفريسية pharisaisme المعنيّة بهذا المفهوم لا صلة لها بمذهب الفريسين pharisianisme، إنما هي روح مناهضة لروح الإنجيل. ولقد احتفال الإنجيل الرابع يعض المشاهد كنماذج لتعامي الفرّيسيين (يوحنا 8: 13، 9: 13 و40)، ولكنه يسوّي عادة بينهم وبين " اليهود" "، مبيّناً هكذا أن صراعهم مع يسوع له وزن عبر التاريخ، فيحْمِلُ وصمة الفريسيّة كل من يتستّر وراء قناع البرّ، بقصد إعفاء ذاته من سلوك البر داخلياً في الحياة، أو من الاعتراف بأنه خاطئ، ومن الإصغاء لنداء الله، أو حينما يحبس محبة الله داخل حدود معرفته الدينية الفائقة. ونصادف مثل هذه العقليّة خلال نشأة المسيحيّة، في أوساط المسيحيين من أصل يهودي ممن اصطدم بهم بولس (أعمال 15: 5): فقد كانوا يرغبون في أن يخضعوا المهتدين من أصل وثني، لبعض الأوضاع الطقسيّة اليهودية، وبالتالي أن يبقوهم تحت نير الشريعة، بينما كانوا قد تحرروا منها بموت المسيح. والفريسيّة تقوم أيضاً عند المسيحي الذي يحتقر اليهودي لأنه مقضّب من الشجرة (رومة 11: 18: 20). والفريسيّة تهدّد المسيحية بقدر ما تتقهقر المسيحيّة إلى مستوى التمسّك بالقانونية الجامدة، وتتجاهل السمة العالميّة الشاملة في النعمة.