1. الغيرة عند الله الواحد:في معظم مجموعات أساطير الشعوب، تكون الآلهة، التي يبتدعها الإنسان، مشتركة في مشاعره. فتظهر بمظهر الغياري أمام سعادة البشر، المهتمة بالدفاع عن امتيازاتهم. ويحاول البشر إرضاء الآلهة. بمنحها جميعها جزءاً من العبادة التي تطلبها. وقد عرف شعب اسرائيل نفسه مثال هذا التوفيق الساذج (2 ملوك 23: 4- 14)، في حين أنه كان ينبغي أن يكون الشعب بكامله من خاصة الله (تثنية 18: 13). إلاّ أن غيرة الله لا علاقة لها بتلك التفاهات الخسيسة من جانب البشر. فالله لا يغار من أي "آخر" يكون ندّاً له، ولكنه يريد من الإنسان، الذي خلقه على صورته، عبادة مقصورة عليه وحده، لا تقدم لآخر سواه، وهذا المطلب، المعبّر عنه بألفاظ تقوم على تشبيه الله بالإنسان، يترجم بالغيرة من "آلهة أخرى". فعلى هذا النحو تبرّر أقدم النصوص الوصية الأولى من الوصايا العشر: "لا تسجد لإله آخر، لأن الله يُدعى الغيور، إنه إله غيور" (خروج 20: 5، 34: 14، تثنية 6: 14- 15). إن هذا التشديد القاطع الذي لا مثيل له في الاديان الوثنية، يبدو واضحاً في النصوص القديمة والحديثة، ويعادل "النار الآكلة" (تثنية 4: 24). فالأوثان تجعل الله غيوراً (مزمور 78: 58، تثنية 32: 16 و21، 1 ملوك 14: 22)، فهي تُدعى عادةً، "أصنام الغيرة" (حزقيال 8: 3 و5، 2 ملوك 21: 7). على أنه في النهاية، إن كان الله غيوراً، فلأنه قدوس، ولا يمكن أن يتسامح في أن يتطاول أحد على شرفه (يشوع 24: 19- 20). 2. غيرة رب الصباؤوت:فالإحساس بالحسد قائم في أصل ردود الفعل الإلهية في تاريخ العهد: إنها غيرة عنيفة تدافع عن المضطهدين وتعاقب الأشرار. لكنّنا نلاحظ باستغراب أن البيّين هوشع وإرميا، اللذين قدما العهد مصوراً بملامح عرس، لا يعرفان لفظ الغيرة. فبالنسبة إليهما، ما يعبّر عن حرارة حبّ الله، هو الغضب. منذ أقدم النصوص (خروج 20: 3- 6، 34: 14)، وحتى السبي (تثنية 6: 15، 29: 19، حزقيال 5: 13، 16: 38 و42، 23: 25)، وغيرة الله لا تصف إلاّ علاقات الله، واسرائيل لا غير، وتبدو كردّ فعل للقداسة الإلهية المهانة (يشوع 24: 19، تثنية 4: 23- 24) التي تضع في خدمتها كل طاقة عنفها الخاص (حزقيال 16: 38 و42، 23: 25). غير أن الامتهان، خلال المنفى. الذي لحق باسرائيل شعب الله وحامل الإسم الإلهي في نظر الأمم، يجرّ وراءه امتهان الإسم ذاته (39: 25، راجع 36: 23). ولذا فإن غيرة الله. لكي تنتقم لشرف قداستها؟ تتّجه حينئذ ضد الوثنيين، صانعي انتهاك الحرمات هذا (35: 11، 36: 5- 6). إلاّ أنها تصنع في الوقت نفسه خلاص اسرائيل، وتعمل للفداء الذي شرع الله فيه لصالح شعبه، وبصفته "غويل" المحارب المنتقم (إشعيا 42: 13، 59: 17، 26: 11). ولئن صرخ اسرائيل نحو الله بعدم صبره، مستغيثاً برحمته وبأحشاء أبوّته، وباسم غيرته القديرة (63: 15)، فإن الله يعده بأن هذه الغيرة ستطلق مجيء الأزمنة المسيانية (9: 6). فإذ ذاك يبدو بوضوح أن الحمية التي كانت تشتعل في قلب الله القدوس، المقيم في وسط شعبه (ثنية 6: 15)، لم تكن إلا تعبيراً عن مطلق محبته. على أن هذه الحمية تصبح الآن شيئاً واحداً مع حنان الله (يوئيل 2: 18، راجع زكريا 1: 14- 15، 8: 2)، بل مع محبته أيضاً، حيث يلتقي الله واسرائيل في ملء وأمان لا يتزعزعان (نشيد 8: 6).ثانياً: غيرة الله1. غيورو الله:الله وسائل متعددة ببعث بها في إسرائيل غيرة تشبه غيرته. فيثير مثلاً حسد شعبه بإغداقه نعمته على الأمم (تثنية 32: 21)، كعادته قي إشراك هذا أو ذاك المختار في حميته. ففنحاس مثلاً، على ما يقول الرب، "كانت فيه غيرتي"، وقد أخذ بذلك يرضى عن الشعب (عدد 25: 11). ثم ان إيليا النبي، رغم وقوعه في وهم حقيقي بأن حالته فريدة، يشعر بأنه يشتعل بغيرة إلهية (1 ملوك 19: 14، سيراخ 48: 2). وأخيراً يستطيع المرتل أن يهتف: "إن غيرة بيتك أكلتني" (مزمور 69: 10، 119: 139). ويحلّ متتيّا المكابي عن معرفة، محلّ من سبقوه في طريق غيرة الله (1 مكابيين 2: 54 و58): فأمام كرامة الله الممتهنة من الوثنيين، قد ارتعش حقواه (2: 24- 27). وخلال انتفاضة ضد الممارسات الوثنية التي تقود إلى تواطؤ مع الوثنيين (2 مكابيين 4: 14)، سيظهر الأتقياء (1 مكابيين 2: 42) الذين سوف يخلفهم الفريسيون، أنهم "ممتلئون غيرة على الخير" (سيراخ 51: 8)، باحثين عنه بحرارة. والبعض الآخر ممن سيدعون "المتعصبين" يعتقدون أنه من الضروري الدعوة إلى الفتنة ضد المحتل الوثني (أعمال 5: 35- 36)، والى استخدام العنف ضد من يظنونهم هراطقة، مثل بولس (23: 12- 14).2. الغيرة المسيحية:إن أتباع يسوع سوف يجدون أنفسهم تحت رحمة الغيرة اليهودية التي تريد إبادتهم (أعمال 5: 17، 13: 45، 17: 5). ونفس هذه الغيرة الدينية الصادقة أصلاً، ولكن السائرة دون هدى، كانت تحرّك شاول عندما كان يضطهد كنيسة الله (فيلبي 3: 6، غلاطية 1: 14، أعمال 22: 3). ولم يستطع المسيحيون أن يستسلموا لعدوى هذه الغيرة، ولو أن روح العدوى قد تظل حيّة لدى بعض "أصحاب الغيرة على الشريعة" (أعمال 21: 20). لكن يسوع هو أرفع من أن يكون من المتعصبين، ولذا فهو يرفض إشعال الفتنة ضد قيصر (متى 22: 15- 21). أجل، إنه يقبل بين تلاميذه سمعان الغيور (مرقس 3: 18)، إلاّ أنه يدين تعصب "ابني الرعد" (3: 17، لوقا 9: 54)، وإن قبل منهما قولهما باستعدادهما للشهادة (متى 20: 22). وأخيراً، وفيما أعداؤه يقبضون عليه، يرفض أن يقاومهم بالسلاح (متى 26: 51- 53)، لأنه أبعد من أن يكون فيه شيء من "مجرم"، أي من "رئيس عصابة" (26: 55ِ). على أن يسوع، وإن رفض كل روح تعصّب، إلاّ أنه يحتفظ بحميته فيما يتعلّق بملكوت السماوات، الذي "يؤخذ بالعنف" (متى 11: 12)، وكل من يريد أن يتبعه ينبغي أن يضحّي بكل شيء حتى بحياته ذاتها (16: 24- 25). ويرى التلاميذ في طرد باعة الهيكل، فعل البارّ، الذي ينبغي أن تقوده غيرته إلى الموت (يوحنا 2: 17). في الواقع، إن ثمة غيرة مسيحية، كتلك التي يظهرها بولس تجاه الكنائس التي اؤتمن عليها، كصديق للعريس (2 كورنتس 11: 2): إن النقاء الذي يدافع عنه فيها هو الصون من كل تعليم كاذب، كما كانت الغيرة في العهد القديم تهاجم عبادة الأصنام. فغيرته تجاه شعب اليهود ما هي إلأ صدى لغيرة الله، الذي كان يثير حسد شعبه بإغداق نعمه على الأمم (رومة 11: 11 و14، 10: 19). وقد تظهر الغيرة بطرق شتى، في صورة سباق في خدمة المسيح (فيلبي 3: 12- 14)، كما في مناسبة جمع التبرعات (2 كورنتس 9: 2). وينبغي أن تقوم دوماً على البحث عن أفضل العطايا (1 كورنتس 12: 31، 14: 1 و12 و39)، لأن الخلاص الذي اكتسبه لنا المسيح قد أقام "شعباً حريصاً (= غيوراً) على الأعمال الصالحة" (تيطس 2: 14، راجع 1 بطرس 3: 13).