مقدمة
يرغب الإنسان من أعماق قلبه في السلام. ولكنّه غالباً ما يجهل طبيعة الخير الذي يصوّب نحوه كلّ أمانيه. والسبُل التي يسلكها لاقتناء السلام ليست هي دائماً سبُل الله. ولذا، فلا بدّ له من أن يتعلّم من التاريخ المقدّس كيف يمكن السعي إلى السلام الحقيقي، وأن يصغي إلى الله المعلِن عطية هذا السلام في يسوع المسيح.
أولاً: السلام، سعادة كاملة
وحى نُقدر الحقيقة المتضمنة في هذا اللفظ تقديراً كاملاً، لا بدّ لنا من أن نحسَّ بنكهة التربة السامية التي نشأ فيها والتي لا تزال قائمة في التعبير عن السلام حتى في مفهومه الروحي العميق، كما نجدها في الكتاب المقدس بجملته.
1. سلام وهناء:
إنّ اللفظ العبري "شالوم" يشتقّ من مصدر يدل، تبعاً لمواطن استعماله، على وجود الشيء في وضعه السليم، الكامل (أيوب 9: 4)، مثل تشييد منزل (1 ملوك 9: 25)، أو يشير إلى الفعل الذي به تعاد الأشياء إلى وضعها القديم السليم، مثل ترضية داثن (خروج 21: 34)، أو الوفاء بنذر (مزمور 50: 14). لذلك، فليس السلام في الكتاب المقدس هو مجرد " الميثاق " الذي يتيح حياة هادئة، ولا " زمن الصلح " مقابل " زمن الحرب " (جامعة 3: 8، رؤيا 6: 4)، وإنما السلام يدل على هناء الحياة اليومية، ووضع الإنسان الذي يعيش في وئام مع الطبيعة، مع نفسه، ومع الله. وبصورة واقعية، هو بركة، وراحة، ومجد، وغنى، وخلاص، وحياة.
2. سلام وسعادة:
أن أكون "صحيح الجسد"، أو أن "أكون في سلام". هذان تعبيران. متوازيان (مزمور 38: 4). ويكون الاستفهام عن الصحة وعن الحال للإنسان بالسؤال: "هل هو سالم" (2 صموئيل 18: 32، تكوين 43: 27). ويقول الكتاب المقدس عن ابراهيم الذي "مات بشيبة صالحة شيخاً وقد شبع من الحياة" (تكوين 25: 8)، إنه قد ذهب بسلام إلى آبائه (تكوين 15: 15، راجع لوقا 2: 29). وبتعبير أوسع، السلام هو الأمان. ليس على جدعون أن يخاف الموت أمام الرؤية السماوية (قضاة 6: 23، راجع دانيال 10: 19) وليس على إسرائيل أن يخشى الأعداء، بفضل يشوع الظافر (يشوع 21: 44، 23: 1)، وداود (2 صموئيل 7: 1)، وسليمان (1 ملوك 5: 4، أيام 22: 9، سيراخ 47: 13). وأخيراً، السلام هو الوئام في حياة أخوية: إنّ عشيري، صديقي، هو " صاحب سلامي " (مزمور 41: 10، إرميا 30: 10). والسلام هو ثقة متبادلة، مثبتة غالباً بعهد (عدد 25: 12، سيراخ 45: 24) أو ميثاق حسن الجوار (يشوع 9: 15، قضاة 4: 17، 1 ملوك 5: 26، لوقا 14: 32، أعمال 12: 20).
3. سلام وتحية:
كلّ هذه الخيرات المادية والروحية، متضمنة في التحية، في الدعاء بالسلام (بالعربية: السلام عليكم) الذي يلقى، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، في تعبير يعادل: "نهارك سعيد" و"إلى اللقاء"، سواء في المخاطبة الشفوية (تكوين 26: 29، 2 صموئيل 18: 29)، أو في المراسلات (مثلاً في دانيال 3: 98، فيلمون 3). على أنه، إذ حسن أن يرجو الإنسان السلام، أو أن يسأل عن استعداد الزائر إزاء السلام (2 ملوك 9: 18)، فذلك لأنّ السلام هو حالة يجب اكتسابها أو الدفاع عنها. إنه نصر على عدوّ ما. يرجو جدعون وآحاب أن يرجعا بسلام. أو أن ينتصرا في الحرب (قضاة 8: 9، 1 ملوك 22: 27- 28). وكذلك يلقى السلام لنجاح حملة استطلاعيّة (قضاة 18: 5- 6)، أو للتغلب على العقم (1 صموئيل 1: 17)، أو للتمنّي بالشفاء (إرميا 6: 14، إشعيا 57: 18- 19). وأخيراً، تقدّم "ذبائح سلام" للتعبير عن الشركة بين الله والإنسان (لاويين 3: 1).
4. سلام وبِرّ:
إنّ السلام هو أخيراً الخير بالتعارض مع ما هو شرّ (أمثال 12: 20، مزمور 28: 3، راجع مزمور 34: 15). "لا سلام للمنافقين " (إشعيا 48: 22)، وبالعكس، "لاحظ الكامل وانظر المستقيم فإن الذريّة لصاحب السلام " (مزمور 37: 37). وأيضاً " أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون بكثرة السلام " (مزمور 37: 11، راجع أمثال 3: 2). إن السلام هو مجموعة الخيرات التي يمنحها الله للرجل البارّ. وهذه الخيرات تقوم في امتلاك أرض خصبة، والأكل حتى الشّبع، والسكنى في الأمان، والنوم بدون إزعاج، والانتصار على الأعداء والحصول على ذرية وفيرة العدد، فيتمّ كلّ ذلك في آخر الأمر بفضل وجود الله معنا (لاويين 26: 1- 13). فالسلام، بعيداً عن أن يكون عدم الحرب فحسب، هو بالأحرى كمال السعادة.
ثانياً: السلام عطية الله
إن كان السلام هو ثمرة البِرّ، فهل يكون الأشرار في سلام (مزمور 73: 3)؟ سيتوارد الجواب على هذا السؤال المثير للقلق، خلال التاريخ المقدّس كلّه. لقد اعتبر الإنسان السلام أولاً سعادة أرضية، وفيما بعد، بدا له خيراً يزداد روحانية أكثر فأكثر، بحكم مصدره السماوي.
1. إله السلام:
منذ بداية التاريخ المدوّن في الكتاب المقدّس، نرى جدعون يبني مذبحاً للرب ويدعوه "سلام الرب" (قضاة 6: 24). إن الله الذي له السلطان والهيبة (أيوب 25: 2)، يمكنه أن يجري السلام (إشعيا 45: 7). ومنه إذاً ننتظر هذا الخير. "تَعَظَّمَ الربُّ الذي يهوى سلام عبده" (مزمور 35: 27): يمنح السلام لإسرائيل (عدد 6: 26)، شعبه (مزمور 29: 11)، ويعطي بيت داود سلاماً (1 ملوك 2: 32). وكذلك الكهنوت (ملاخي 2: 5). ولذلك، من اعتمد على الرب يمكنه أن ينام بسلام (مزمور 4: 9، راجع إشعيا 26: 3). "إسألوا السلام لأورشليم! ليسعد: الذين يحبونك" (مزمور 122: 6، راجع مزمور 125: 5، 128: 6).
2. أعط السلام، يا رب:
يحصل الإنسان على هذه العطية الإلهيّة بالصلاة المفعمة ثقة، ولكن أيضاً بممارسة " أعمال البر"، لأنّ عليه، بحسب تدبير الله عينه، أن يشارك في تأسيس السلام على الأرض. وتبدو مشاركته ملتبسةً من جراء الخطيئة الحاضرة دائماً. إنّ تاريخ زمن القضاة هو تاريخ الله الذي يقيم محررين يكلفهم بأن يعيدوا السلام الذي فقده إسرائيل بخطاياه. قد ظن داود أنه قام بواجبه لما أراح البلد من كل أعدائه (2 صموئيل 7: 1) إلا أن الملك المثالي هو سليمان، ومعنى اسمه: رجل سلام (1 أيام 22: 9). وقد اتحد خلال ملكه شعبا الشمال والجنوب اتحاداً أخوياً (1 ملوك 5).
3. الكفاح من أجل السلام:
أ) الصراع النبوي:
ولكنّ هذا المثل الأعلى سرعان ما يفسد. فيحاول الملوك أن يحققوا السلام، لا كثمر للبرّ الإلهي، بل على أساس أحلاف سياسية تخلو من الإيمان. إنه لسلوك خدّاع تسنده كلمة ذات مظهر نبويّ صادرة عن بعض رجال، لا يعنون بسماع كلام الله، قدر مبالاتهم بمن " يلقّمهم في أفواههم" (ميخا 3: 5). وهم رغم حالة الخطيئة السائدة، يتجاسرون على إعلان سلام ثابت (إرميا 14: 13). فحوالى سنة 850، ينتصب ميخا بن يملة منكراً على هؤلاء الأنبياء الكَذَبة كلمة السلام وحقيقتها (1 ملوك 22: 13- 28). ويصبح الصراع حامياً بمناسبة حصار أورشليم (راجع إرميا 23: 9- 40). فعطية السلام تتطلب هجر الخطيئة، وبالتالي تسبقها عقوبة. يوجّه إرميا الاتهام قائلاً: "ويداوون كسر بنت شعبي باستخفاف، قائلين سلام سلام، وليس سلام" (إرميا 6: 14). ويصيح حزقيال: كفانا تطيين برديء الملاط... لا يبقى السور (حزقيال 13: 15- 16). ولكن عندما وقع السور، أخذ الذين كانوا يتنبأون بالخراب، يعلنون السلام من جديد، ليقينهم أنه لم يعد بعد محل للخداع. يعلن الله للمنفيّين: "لأن أفكاري التي أفكّر فيكم، أنا أعلمها، يقول الرب، أفكار سلام لا ضرّ، لأبقي لكم باقية ورجاء " (إرميا 29: 11، راجع 33: 9). يبت الله لهم عهد سلام، ويكفّ عنهم الوحش الضاري، مما يكفل لهم أمانة وبركة (حزقيال 34: 25- 30). لأنّ الله يقول: "ويكون مسكني معهم " (37: 26).
ب) السلام الإسكاتولوجي:
إن هذا الجدال حول السلام كامن في الرسالة النبوية برمّتها. وإذ أصبح السلام الحقيقي عنصراً أساسياً من عناصر الكرازة المتعلقة بالأزمنة الأخيرة، فإنه يتحرر من قيوده الأرضية وشبُهاته الشريرة المزيّفة. وتنتهي عادة تهديدات الأنبياء بإعلان تجديد وافر (هوشع 2: 20... عاموس 9: 00013 الخ). ويحلم إشعيا "برئيس السلام" (إشعيا 9: 6، راجع زكريا 9: 9- 10) الذي سيهب "سلاماً لا انقضاء له" (إشعيا 9: 6)، ويفتح فردوساً جديداً، لأنه "يكون هو سلاماً" (ميخا 5: 5). سوف تخضع الطبيعة لإنسان، وتتصالح المملكتان المنفصلتان (يهوذا وإسرائيل)، وتحيا الأمم في سلام (إشعيا 2: 2 ...، 11: 1 ...، 32: 15- 20، راجع 65: 25). "وينبت في أيامه الصدّيق " (مزمور 72: 7). إنّ إنجيل السنلام هذا (ناحوم 2: 1) أي الخلاص من سبي بابل (إشعيا 52: 7، 55: 12)، يحققه عبد الرب المتألم (53: 5)، الذي سوف يعلن بذبيحته مقدار ثمن السلام. حينئذ يكون "السلام للبعيد وللقريب، قال الرب، وسأشفيه" (57: 19). وسيتميز ولاة الشعب بالسلام والعدل (60: 17). "ها أنذا أدير إليها (أورشليم) السلام كالنهر، ومجده الأمم كالسيل الجارف" (66: 12، راجع 48: 18، زكريا 8: 12).جـ) أخبراً، إنّ التأمل في كتب الحكمة يتناول مسألة السلام الحقيقي. فمن جهة يؤكد الإيمان "أن الذين يحبون شريعتك لهم سلام جزيل، وما لهم من معثرة " (مزمور 119: 165)، ولكن من جهة أخرى يبدو أنّ الواقع ينفي ذلك (مزمور73: 3)، فتبرز حينئذٍ مشكلة الجزاء، ولن تجد هذه المشكلة حلّها كاملاً إلا مع الاعتقاد في بقاء الإنسان ما بعد الموت بقاءً كاملاً وشخصياً: "أما نفوس الصديقين فهي بيد الله... وفي ظن الجهال أنهم ماتوا... أما هم ففي سلام " (حكمة 3: 1- 3)، أي في كمال الخيرات والاتحاد بواهبها، وهذه هي السعادة الحقيقية.
ثالثاً: سلام المسيح
يصبح رجاء الأنبياء والحكماء حقيقة ممنوحة في شخص المسيح يسوع، لأنه به وفيه قهرت الخطيئة. ولكن، مالم تمت الخطيئة في كلَ إنسان، ومالم يأتِ الربّ في يوم ظهوره الأخير، يظل السلام خيراً مرجوّاً. فتحتفظ الرسالة النبوية بقيمتها: "ثمرة البر تزرع في السلام للذين يعملون من أجل السلام" (يعقوب 3: 18، راجع إشعيا 32: 17). هذه هي الرسالة التي يعلنها كلّ العهد الجديد.
مقدمة
إن كان لفظ "السماء" يدل على ميدان اهتمام الفلكيّين وروّاد الفضاء، فإنه ينطبق أيضاً على المقر الذي يجمع الله فيه مختاريه، وليس ذلك من باب الخلط الفاحش الذي قد يرجع إلى الأسلوب البدائي المستعمل في الكتاب المقدّس، ولكنّه انعكاس لاختيار بشري عالمي وحتمي. فإن الله يتجلّى للإنسان خلال خلقه برمّته، بما في ذلك مكوّناته المنظورة. ويقدّم الكتاب المقدّس هذا الوحي في صورة متشعبة أحياناً، ولكنّها خالية من كلّ أنواع الالتباس. ويميز الكتاب المقدّس تماماً السماء الطبيعيّة التي هي من نفس طبيعة الأرض: "السماء والأرض"، عن سماء الله: "السماء التي ليست هي الأرضي". ولكن المعنى الأول يتيح للإنسان عادة أن يفكّر في الثاني.
أولاً: السماء والأرض
يعتبر الشعب العبراني مثلنا أنّ السماء قسم من الكون، يختلف عن الأرض، ولكنّه يتّصل بها، وهو يحيط بها على شك نصف دائريّ ويكوّن معها العالم. وهذا العالم، لعدم وجود لفظة خاصة تدلّ عليه، يطلق عليه "السماء والأرض " (تكوين 1: 1، متى 24: 35). وإذا كان الإسرائيليّ يتأثر ببهاء السماء، ويتوق إلى نورها: ويعجب بنقائها (خروج 24: 10)، إلا أن صلابة جلد السماء الراسخة، لها وقع خاص على نفسه (تكوين 1: 18). إنّه يعتبر السماء بناء لا يقلّ عن الأرض متانة، قائماً على أعمدة (أيوب 26: 11) وأسس (2 صموئيل 22: 8)، ومزوّداً بخزائن للمطر والثلج والبرد والرياح، ومجهّزاً " بمنافذ" و"كوى" تتفجّر منها، في الوقت المناسب، العناصر المختزنة (تكوين 7: 11، 2 ملوك 7: 2، ملاخي 3: 10). وتشهد النيّرات المثبّتة في جلد السماء وجلد الكواكب التي لا تُحصى (تكوين 15: 5)، بتناسق ترتيبها البديع، على عظمة هذا البنيان (راجع إشعيا 40: 26، أيوب 38: 31- 32).
ثانياً: السماء التي ليست هي الأرض
إن السماء، مثلما تتراءى للنظر، بسعتها ونورها وتناسقها البديع والمحيّر، تفرض على الإنسان، بطريقة ظاهرة ودائمة، انطباعاً مباشراً بكلّ ما يحويه الكون من سرّ لا يسبر غوره. لا شك أن الإنسان لا يدرك أيضاً أعماق الأرض والغمر (أيوب 38: 4- 6 و16- 18)، ولكن لا يزال لغز السماء معروضاً عليه وكأنه متمثّل أمامه بطريقة منظورة. ينتسب الإنسان إلى الأرض، أمّا السماء فتخفى عليه: "لم يصعد أحد إلى السماء" (يوحنا 3: 13، راجع أمثال 30: 4، رومة 10: 6). وكان من قبيل الجنون أن يحلم ملك بابل بالصعود إلى السماء (راجع تكوين 11: 4): يعتبر ذلك بمثابة التشبّه بالعليّ (إشعيا 14: 13- 14). هكذا تقام تلقائياً علاقة بين السماء والله: فالسماء مقرّ إقامة الله: "سماء السماوات للربّ، والأرض جعلها لبني البشر" (مزمور 114: 16). وهذا الانطباع الديني الذي تتركه السماء تلقائياً في النفس يفسّر لنا صيغة الجمع "السماوات " المستعملة في الترجمة السبعينية. وقد أبرز كلّ من كتبة اليهودية والعهد الجديد القيمة الدينيّة لهذا الجمع، إلى حدّ أن ملكوت السماوات أصبح مطابقاً لملكوت الله. إلا أنّه لا يمكن أن تسستخرج لا من الترجمة السبعينيّة ولا من العهد الجديد، كقاعدة عامة، أنّ صيغة المفرد تدلّ على السماء الطبيعية، وصيغة الجمع على مقرّ إقامة الله. وقد يتّفق أنّ هذا الجمع يعبّر عن المفهوم المنتشر في الشرق عن سماوات عديدة متطابقة (راجع 2 كورنتس 12: 2، أفسس 4: 10)، إلا أنه لا يشكّ غالباً إلا تعبيراً عن الحماسة الغنائيّة والشعريّة (راجع تثنية 10: 14، 1 ملوك 8: 27). فالكتاب المقدّس لا يعرف نمطين من السماوات، الواحد ماديّ والآخر روحي. ولكنّه يكتشف في السماء المنظورة سرّ الله وسرّ صنعه.
ثالثاً: السماء مسكن الله
إنّ السماء، مسكن الله، بعد أن بسطها كسجف، وسقّف بالمياه علاليّها (مزمور 104: 2- 3)، يندفع جاعلاً السحاب مركبة له (مزمور 68: 45: 3، تثنية 33: 26). ويدوّي صوت الربّ علي المياه المتدفّقة، في قصف الرعد (مزمور 29: 3). يقيم فيها عرشه ويدعو إليها حاشيته، " جند السماوات " الذين يرسلون وينجزون أوامره إلى أقاصي الأرض (1 ملوك 22: 19 راجع إشعيا 6: 1- 2 و8، أيّوب 1: 6- 12). هو حقيقة إله السماء (نحميا 1: 4، دانيال 2: 37). ليست هذه الصيغ صوراً صبيانيّة أو مبالغات شعريّة، بل هي رؤى، شعريّة بالطبع، ولكنّها عميقة وصحيحة، من واقع عالمنا، ومن واقع كون يخضع برمّته لسلطة الله وينكشف أمام نظره تعالى. إذا كان الربّ "يجلس على عرشه في السماوات "، فلأنه يضحك على ملوك الأرض ويستهزئ بمؤامراتهم (مزمور 2: 2- 4، راجع تكوين 11: 7): "وجفناه يختبران بني البشر" (مزمور 10: 5). إنه يحتاج إلى هذا العلوّ الشاهق حتى ينصف الجميع، وإلى " مجد فوق السماوات " حتّى "ينهض المسكين عن التراب" (مزمور 113: 4- 6)، وحتى يصل إليه "تضرّع كل عبد له وشعبه إسرائيل" (1 ملوك 8:. 3...). إذا كان يهوه إلهاً عن قرب، فهو أيضاً إله عن بعد (إرميا 23: 24)، لا لأن "الأرض كلّها مملوءة من مجده" فقط. ولا أيضاً لأنّ لا شيء في العالم، حتّى "السماوات وسماوات السماوات" يستطيع أن يسعه (1 ملوك 8: 27). حقاً يوحي مسكن الله السماوي، قبل كل شيء، يسموّه المطلق، ولكنّه يشير أيضاً، على مثال إحاطة السماء حول الإنسان من كلّ جانب، إلى حضوره القريب والشامل. فأكثر من نصّ يربط بطريقة واضحة بين ذلك البعد اللامتناهي وهذا القرب، ابتداء من السلّم التي رآها يعقوب في بيت إيل "منتصبة على الأرض ورأسها إلى السماء" (تكوين 28: 12)، حتّى الإعلانات النبويّة: " السماء عرشي... فأيّ بيت تبنون لي؟... الذي أنظر إليه هو المنسحق والمتواضع الروح " (إشعيا 66: 1- 2، 57: 15).
رابعاً: السماء، مصدر البركات
بما أن إله إسرائيل هو إله مخلّص، وأنّ السماء مقرّ إقامته، فهو قائم فيها بكلمته (مزمور 119: 89- 90) ونعمته وأمانته، ويوجد فيها لينشر الخلاص على الأرض. وكما أن السماء هي رمز حضور الله السامي والمكتنف كلّ شيء، هي أيضاً رمز الخلاص الذي أعدّه الله للأرض. فمنها ينزل، بمثابة بركة للأرض، المطر المخصب والندى المبكّر، تعبيراً عن سخاء الله وعطاياه المجّانيّة. تتضافر الرموز الطبيعيّة والذكريات التاريخية لتجعل من رجاء إسرائيل انتظاراً لحدثٍ آتٍ من السماء: "آه! ليتك تشقّ السماوات وتنزل "! (إشعيا 64: 1، راجع 45: 8). ولنا من قبل في ارتفاع أخنوخ (تكوين 5: 24) واختطاف إيليا نحو السماء (2 ملوك 2: 11)، ما يدعو إلى البحث في هذا الاتّجاه عن الشركة الدائمة مع الله الذي أدخلهما فيها. ويتسلّم بدورهم أصحاب الرؤى، حزقيال، وزكريّا وخصوصاً دانيال، من الله المقيم في السماء، وحي الأسرار الخاصّة بمصير الشعوب (دانيال 2: 28). وهكذا يكون خلاص إسرائيل مسجّلاً في السماء وسوف يأتي منها. وينقضّ جبرائيل من السماء على دانيال (1: 21) ليعده بنهاية الخراب (9: 25). وعلى سحاب السماء، سوف يظهر ابن البشر ليعطي الملك للقدّيسين (7: 13- 27). وأخيراً، يرسل الله من السماء جبرائيل، "القائم في حضرته " (لوقا 1: 19)، إلى زكريّا، ومريم. والى السماء يعود الملائكة الذين أتوا ليحتفلوا " بمجد الله في العلى وبالسلام في الأرض " (2: 11- 15). فيشكّل حضور ملائكة الله فيما بيننا العلامة على أنّ الله شقّ السماوات حقيقة، وأنه عمانوئيل أي الله معنا.
خامساً: في شخص المسيح، السماء حاضرة على الأرض
1. يتكلم يسوع عن السماء:
إنّ السماء لفظة تتردّد كثيراً على لسان يسرع، ولكنّها لا تعني أبداً حقيقة توجد بذاتها، مستقلة عن الله. يتكلّم يسوع عن ملكوت السماوات وعن الأجر المدّخر في السماوات (متّى 5: 12)، وعن الكنز الواجب توفيره في السماء (6: 20، 19: 21)، وذلك لأنه يفكّر دائماً في الآب الذي في السماوات (5: 16 و45، 6: 1- 9)، الذي يعلم، والذي "يرى في الخفية" (6: 6 - 18). وإنّ السماء هي حضور الآب غير المنظور والساهر الذي يشمل بجوده الغزير العالم وطير السماء (6: 26)، والأخيار والأشرار (5: 45). ولكن في الأوضاع الطبيعيّة، يخفى هذا الحضور أمام أعين البشر. وحتّى يصبح هذا الوجود حقيقة حيّة وظاهرة، وحتّى يأتي ملكوت السماوات، جاء يسوع ليتكلّم بما يعلم، وليشهد بما رأى (يوحنا 3: 11).
2. يسوع يأتي من السماء:
فالواقع أنه عندما يتكلّم يسوع عن السماء، لا يذكرها كحقيقة عجيبة وبعيدة، ولكن باعتبار أنها عالمه الخاص والتي تشكّل بالنسبة إليه الحقيقة العظمى والتي تستحق أكبر الاهتمام في عالمنا. إنه حائز على أسرار ملكوت السماوات (متّى 13: 11). وله عن الآب الذي في السماوات معرفة خاصة، معرفة الابن لأبيه (12: 50، 16: 17، 18: 19). وحتّى يتكلّم هكذا عن السماء لا بدّ من أن يكون آتياً منها، لأنه "لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، أعني ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنّا 3: 13). ولأنّه ابن الإنسان أي إنسان ينتمي مصيره إلى السماء، ولأنه إنسان أتى من السماء من أجل أن يعود إليها (يوحنّا 6: 62)، فإنّ أعماله هي من السماء وعمله الأساسي، أي الذبيحة التي يقدّم بها جسده ودمه، إنّما هو الخبز الذي يعطينا الله إياه، الخبز " الذي من السماء " (يوحنّا 6: 33- 58)، والذي يعطي الحياة الأبديّة، حياة الآب، حياة السماء.
3. كما في السماء كذلك على الأرض:
إذا كان يسوع آتياً من السماء ويعود إليها ثانيةً، وإذا صحّ أيضاً القول إنّ المسيحيّين هم منذ الآن، معه في السماء، وإنّ الآب "أقامهم من الموت وأجلسهم في السماوات" (أفسس 2: 6، راجع كولسي 2: 12، 3: 1- 4)، إلا أنّ عمل يسوع يستمر ويقوم في اتحاد الأرض بالسماء اتحاداً لا ينفصم، وفي "تحقيق الملكوت" وفي تتميم مشيئة الله "كما في السماء كذلك على الأرض" (متى 6: 10)، وفي "مصالحة كلّ موجود، سواء في الأرض وفي السماوات" (كولسي 1: 20). وبما أنّه حاز بقيامته على كلّ سلطان في السماء والأرض (متّى 28: 18)، واجتاز بدم ذبيحته قدس الله أي السماء (عبرانيين 4: 14، 9: 24)، وبما أنه ارتفع إلى "أعلى من السماوات" (7: 26)، وجلس عن يمين الله، فقد أقام بين الأرض والسماء العهد الجديد (9: 25)، وفوّض إلى كنيسته بسلطانه، مصدّقاً في السماء على ما تعمله الكنيسة على الأرض (متى 16: 19، 18: 19).
4. السماوات مفتوحة:
أعطانا الله علامات لهذه المصالحة التي أتمّها يسوع. فقد انفتحت عليه السماوات (متى 3: 16)، ونزل الروح (يوحنّا 1: 32). وبدورهم مدّ رسل المسيح بهذا الاختبار: تنفتح السماء عليهم، وينزل الروح سواء بدويّ عظيم (أعمال 2: 2) أو في بريق نور (أعمال 9: 3)، وعلى شكل رؤية (10: 11). فيتحقق وعد يسوع: "سترون السماء منفتحة... فوق ابن الإنسان" (يوحنّا 1: 51).
سادساً: السماء موضوع الرجاء
"أمّا نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر بشوق مجيء المخلّص يسوع المسيح، الذي سوف يبذل جسدنا الحقير، فيجعله على صورة جسده المجيد، بما له من قدرة يخضع بها كلّ شيء" (فيلبّي 3: 20- 21). فقد تجمّعت هنا كلّ مقوّمات السماء المتضمنة في الرجاء المسيحي. إنّها مدينة وجماعة مجعولة لأجلنا، وهي أورشليم الجديدة (رؤيا 3: 12، 21: 3 و10- 12). وهي منذ الآن مدينتنا، ويبني الله فيها مسكناً نئنّ حنيناً إليه (2 كورنتس 5: 1). إنها عالم جديد (رؤيا 21: 5)، مركب، مثل كوننا، من "سماوات جديدة وأرض جديدة" (2 بطرس 3: 13، رؤيا 21: 1)، ولكن حيث "لن يبقى فيها للموت وجود، ولا للبكاء ولا للصراخ ولا للألم" (رؤيا 21: 4)، ولا "لشيء نجس" (21: 27)، ولا "الليل" (22: 5)، ليحلّ محلها مكان للسعادة والفرح دون حدود. وبظهور هذا العالم الجديد، يزول الكون القديم، بما فيه من سماء أولى، وأرض أولى (21: 1) ويهرب (20: 11)، ويطوي طيّ السجلّ (6: 14). ومع ذلك، ستكون السماء عالمنا الجديد، لأنّ عالم الكلمة المتجسّد وعالم جسده أصبح عالمنا. ولن تكون السماء شيئاً لنا إن لم تكن اتحاداً لا مع الربّ (1 تسالونيكي 4: 17، 2 كورنتس 5: 8، فيلبّي 1: 23)، الذي يخضع لنفسه كل شيء، ليسلّم كلّ شيء لله الآب (1 كورنتس 15: 24- 28).