1. كشف أسرار الله:نجد فكرة أصار الله مألوفة لدى إسرائيل منذ عصر الأنبياء. وتتعلّق هذه الأسرار بقصد الخلاص الذي حقه الله في التاريخ البشري، والذي يثسكّل موضوع الوحي "إنّ السيّد الربّ لا ينفذ كلمة إلا أن يكشف بسرّه (سود) لعبيده الأنبياء" (عاموس 3: 7، راجع عدد 24: 4 و16). وتتضح هذه العقيدة القديمة خاصّة في الإصحاحات المنسوبة إلى أشعيا: يتجاوب مصير إسرائيل التاريخي مع المخطّط الإلهي الذي أوحى به اللّه مقدّماً عن طريق الكلمة النبويّة، وهذا ما يؤكد مجيء الخلاص في نهاية الأزمنة (إشعيا 41: 21- 28). هذا هو الأساس لفكرة "السر" الإصطلاحيّة والدينيّة التي يشهد بها على استواء دانيال وكتاب الحكمة.2. دانيال وكتاب الحكمة:أ) يعتبر كتاب دانيال رؤيا، أي وحياً " بأسرار " إلهيّة (راز) (دانيال 2: 18 - 19 و 27 - 28 و47، 4: 6). وليست هذه الأسرار، أسوة بالحال في مؤلفات أخرى دخيلة، أسراراً عن الخلق، بل هي تتصل بما يجري في الزمن في صورة تاريخ متواصل ومتجه نحو هدف. وبمعنى آخر، هي أسرار قصد الله الخلاصي. إن تلك الأسرار مكتوبة في السماء، وسوف تتحقق بصفة أكيدة، ولذا يستطيع الله كشفها عن طريق أحلام أو رؤى أو بواسطة الملائكة (راجع 2، 4، 5، 7، 8، 10 إلى 12). ما من حكمة بشريّة يمكنها إزاحة الستار عن مثل هذه المعرفة للمسمقبل. ولكنّ الله " هو كاشف الأسرار " (2: 28 و47)، ويجعل الناس يعرفون مقدّماً "ما سيكون في آخر الأيّام " (2: 28). وإن كانت إعلاناته الغامضة لا تزال غير مفهومة للبشر، فهو يمنح بعض أخصائه حكمة (راجع 5: 11) وروحاً خارقة للطبيعة، بفضلهما " لا يعسر عليهم سر" (6:4). وما يكشفه الله هكذا هو أحكامه " التي تمهد للخلاص "، وعلى كل، فإنَّ هذا الموضوع كان متضمناً، منذ زمن طويل في كتب الأنبياء. فعندما يدقق دانيال النظر في كتاب إرميا، يأتي الملاك جبرائيل ويكشف له المعنى السريّ لنبؤة السبعين أسبوعاً (دانيال 9)، التي ترتكز على رمز الأعداد. وتشرح هكذا الكتب المقدّسة، على غرار الأحلام أو الرؤى، التي تعبّر، على شكل رموز غامضة، عن تدابير الله السريّة. ب) لا يجهل كتاب الحكمة وجود "أسرار" في العبادات الوثنية (حكمة 14: 15 و23). ولكن يتّفق مع كتاب دانيال، فيخصّص لفظة "أسرار" للحقائق الفائقة الطبيعة التي تشكل موضوع الوحي: أسرار الله عن ثواب نفوس الأبرار (2: 22) والأسرار الخاصّة بأصل الحكمة الإلهيّة (6: 22). وتخص هذه الأسرار نظام الخلاص ("العالم الآتي"، هدف قصد الخلاص)، ونظام الحياة الإلهية (كيان الله الصميم). فتطابق إذاً هذه الأسرار تلك التي عالجها كتاب الرؤى. 3. الفكر اليهودي خارجاً عن الكتاب المقدّس:أ) رؤى دخيلة: تنسب المؤلفات الدخيلة إلى أخنوخ، أسوة بدانيال، "معرفة أسرار القديسين" (1 أخنوخ 106: 19) أنّه قرأ لوحات السماء حيث سطّرت كلّ حوادث المستقبل، وبذلك علم بسرّ "المصير النهائي للأبرار" (103: 2- 4) وللأشرار (104: 10). فيقوم السر هنا في تحقيق قصد الله في آخر الأزمان. وهذه الفكرة سوف تحتفظ بها أيضاً رؤى عزرا وباروك.ب) وتعلّق نصوص قمران أهميّة كبرى على معرفة "سر المستقبل" هذا، الذي سوف يتحقق "في يوم الافتقاد "، وسوف يحدّد مصير الأبرار والأشرار. وتبحث هذه النصوص عن وصف هذا المستقبل في الكتب النبويّة التي فسرها لهم "معلم الصلاح " لأن الله جعل أمامه كلّ أسرار كلمات عبيده الأنبياء " (راجع، دانيال 9). فيتعلق الأمر بتفسير ملهم، يوازي وحياً جديداً " سوف تدوم الأزمنة الأخيرة مدة أطول من كل ما تنبأ به الأنبياء، لأنّ أسرار الله عجيبة ". ولكن الله يحتفظ بهذا الإعلان للذين يسيرون " في كمال الطريق ": إنه إعلان سرّيّ، لا يليق إبلاغه للأشرار " لأولئك الرجال الذين من الخارج.العهد الجديدأولاً: تعليم يسوعلم ترد في الأناجيل الإزائيّة لفظة mysterion إلا مرّة واحدة. ولم يستعملها قط إنجيل يوحنّا. "أمّا أنتم فقد أنعم عليكم بسر ملكوت الله. وأما أولئك فكل شيء يلقى إليهم بالأمثال" (مرقس 4: 11 //). هكذا يجيب يسوع على التلاميذ الذين يسألونه عن معنى مثل الزارع. إنه يميّز، بين مستمعيه، من يقدرون أن يسمعوا السرّ، وأولئك "الذين تحول صلابة قلوبهم دون أن يفهموا"، على حدّ عبارة إشعيا في 6: 9- 10 (مرقس 4: 12 //). إنّ مجيء الملكوت لا يزال لغزاً بالنسبة إلى أولئك، ولا يعطيهم التعليم بالأمثال مفتاح شرحه. أما التلاميذ، فوهب لهم معرفة أسرار الملكوت وتفسير الأمثال. والسر المشار إليه هنا هو إذن مجيء الملكوت، طبقاً للقصد الإلهي الذي تشهد له النبوّات القديمة: يعود هنا يسوع إلى موضوع رئيسي من مواضيع الرؤى اليهوديّة. أما عمله هو فيقوم في تأسيس الملكوت على الأرض، والإعلان بالكمال عن الأسرار الإلهيّة التي تخصه والتي كانت "خفيّة منذ إنشاء العالم " (متّى 13: 35). فمع المسيح، يتّم الوحي وتنجز الوعود: إن سرّ الملكوت حاضر على هذه الأرض في شخصه. ولكن، نتيجة لذلك، تنقسم البشريّة قسمين: التلاميذ الذين يقبلون المسيح، وأولئك الذين من الخارج " الذين يغلقون قلوبهم، أمامه ". إذن، فإعلان السر ليس مقصوراً على فئة معينة (راجع مرقس ا: 15 //، 4: 15 //). إلا أنّ ستار الأمثال لا يزاح إلا لمن لهم آذان للسمع (راجع 13: 9 و43). بل حتى لهؤلاء أنفسهم لا يرجع فضل إدراك السر إلى العقل البشري، وإنما ذلك عطية من الله.ثانياً: تعليم القدّيس بولسلكي نفهم أوجه استعمال لفظة mysterion في رسائل القدّيس بولس، لا بدّ من أن ننظر إليها من نفس الزاوية الرؤيوية اليهودية. توحي هذه اللفظة بحقيقة عميقة لا توصف، وتفتح نافذة على اللامتناهي. لا يختلف الموضوع الذي تعنيه عن موضوع الإنجيل ذاته: تحقيق الخلاص بموت يسوع المسيح وقيامته وترسيخه في التاريخ بإعلان الكلمة. إلا أن هذا الموضوع يعتبر سراً إلهياً، لا يبلغه العقل البشري خارج الوحي (راجع 1 كورنتس 14: 2). وهكذا تحتفظ لفظة mysterion بطابعها الإسكاتولوجي، ولكنها تنطبق على المراحل المتتالية التي يتحقّق خلالها الخلاص المعلَن عنه أي مجيء يسوع على الأرض، وزمن الكنيسة، ومنتهى الدهور. هذا هو السرّ الذي بمعرفته ومشاهدته يحقق كل مسيحي جزءاً كبيراً من مبتغاه (كولسي 2: 2، أفسس 1: 15- 16، 3: 18 - 19).1. تحقيق السرّ في الزمن:يتناول بولس في رسائله الأولى (2 تسالونيكي، 1 كورنتس، رومة) النواحي المختلفة للسر، كلاًّ بدورها. فهناك تطابق بين إعلان "سر الله" (1 كورنتس 2: 1 بحسب بعض المخطوطات) والإبلاغ ببشارة (1: 17) يسوع المصلوب (راجع ا: 23، 2: 2). إن هذا هو مضمون الرسالة التي يقدمها بولس إلى أهل كورنتس عثاراً لليهود وحماقة للوثنيّين. وأما للمؤمنين فهي حكمة (1: 23- 24). إنّ حكمة الله هذه، السريّة (2: 7)، كانت محجوبة حتّى ذلك الحين، لم يعرفها أحد من رؤساء هذه الدنيا (2: 8- 9). ولكن الله قد كشفها لنا بالروحِّ الذي ينفذ حتّى إلى أعماق الله (2: 10- 12). وهذه الحكمة لا يصل إليها الإنسان النفساني المتروك لقواه الطبيعيّة وحدها، ولكن يدركها الإنسان الروحاني، لأن الروح يعلّمه إياها (2: 15). غير أنه "للكاملين" فقط (راجع 2: 6) وليس للأطفال في المسيح (3: 1- 2)، إذ يستطيع الرسول، "وكيل أسرار الله" (4: 1)، أن "يعبّر عن الأمور الروحانية بعبارات روحانيّة" (2: 13)، حتى يفهم الكاملون كل مواهب النعمة (2: 12) الكامنة في هذا السرّ. يتّم إعلان الإنجيل للجميع، ولكنّ المطلوب من المسيحيين أن يتعمّقوا تدريجيّاً في معرفته. والحال أنّ هذا السرْ الذي يعمل حالياً على الأرض لخلاص المؤمنين، يتصارع مع "سر الإلحاد" (2 تسالونيكي 2: 7)، أعني مع عمل الشيطان، الذي يبلغ ذروته مع ظهور المسيح الدجّال. ويتحقق هذا السر في التاريخ بسبل تظهر لأول وهلةٍ على شكل مفارقة. يعني ذلك أنه كان لا بدّ من قساوة فئةٍ من إسرائيل حتّى يصل الخلاص إلى عامة الوثنيّين (رومة 11: 25): وهذا هو سر حكمة الله العسيرة الإدراك (11: 33) التي حوّلت سقوط الشعب المختار إلى خير. وعندما يصل إلى هدفه، سوف ينتصر المسيح، عندما يقوم الأموات، ويتحوّل الأحياء ليشتركوا في حياته السماوية (1 كورنتس 15: 51- 53). ويشمل "سر الله " كلَّ التاريخ المقدّس، منذ مجيء المسيح على الأرض حتّى ظهوره الثاني المجيد. وما الإنجيل إلا كشف هذا السرّ الذي ظل مكتوماً مدى الأزل، وكُشف الآن وبُلغّ إلى الشعوب الوثنية بكتب الأنبياء (رومة 16: 25- 26).2. سرّ المسيح والكنيسة:في رسائل الأسر (كولسي وأفسس)، يركز بولس انتباهه على المرحلّة الحاضرة "لسر" الله " (كولسي 2: 2)، وهو " سر المسيح " (كولسي 4: 3، أفسس 3: 4) الذي يحقّق الخلاص بواسطة كنيسته. إن هذا السرّ قد ظل مكتوماً في الله طوال الدهور (كولسي 1: 16 أفسس 3: 9، راجع 3: 5،، ولكن كشف الله اليوم لقديسيه (كولسي 1: 26) وأطلعنا على سرّ مشيئته (أفسس 1: 9)، وبيّن تدبير هذا السرّ (3: 9)، وكشفه لرسله وأنبيائه، وخاصة لبولس نفسه (3: 4- 5)، هذا السر هو مضمون الإنجيل وهو الهدف الأخير في القصد الذي صمّمه الله منذ زمن طويل حتّى يحقّقه في ملء الأزمنة "أن يجمع في المسيح كلّ شيء مما في السموات وفي الأرض" (1: 9- 10). كانت، المدرسة الرؤيوية الوديّة تدقق في عجائب الخلق. وجاء الوحي المسيحي فكشف عن عجائب الخلق على أعمق سرّ من أسراره: "المسيح، بكر الخلائق كلّها، به يجد الله قوام كلّ شيء، (كولسي 1: 15- 17) وبه شاء الله " أن يصالح كل موجود" (كولسي 1: 20). كانت النظرة اليهوديّة تتلمّس أيضاً طرق الله في التاريخ البشري، وأما الوحي المسيحي فيجمع اتجاه هذه الطرق نحو المسيح الذي يدخل الخلاص في التاريخ بفضل كنيسته (أفسس 3: 10). فمن الآن فصاعداً يشترك الوثنيون مع اليهود في نفس ميراث المسيح وجسده ووعده (3: 6). وقد أقيم بولس خادماً لهذا السر (3: 87)، الذي فيه يجد كل شيء معنى سرياً، هكذا يرمز اتحاد الرجل بالمرأة إلى اتّحاد المسيح بالكنيسة (5: 32). وفي هذا السر أيضاً، يجد الوثنيون، أسوة باليهود، أساس الرجاء (كولسي 1: 27). كم هو عظيم "سر الإيمان " هذا (1 تيموتاوس 3: 9)، "سرّ التقوى، الذي ظهر بشراً، وبرر في الروح، وتراءى للملائكة وبشر به عند الوثنّين، وأومن به في العالم، ورفع في المجد" (1 تيموتاوس3: 16)! هكذا نتقدّم تدريجياً من السرّ الذي كانت تتأمله الرؤى اليهوديّة إلى سر "ملكوت الله " الذي أعلنه يسوع وأخيراً إلى "سر المسيح " الذي يهتف به رسول الأمم. لا يوجد وجه شبه بين هذا السر الأخير والعبادات المقترنة بأسرار عند اليونانيّين أو المذاهب الشرقية، حتى لو اتّخذ بولس أحيانا بعض مصطلحات كانت تستعملها هذه المذاهب، ليبرز بوضوح أكبر، تعارض المظاهر الخاصّة في "سر الإلحاد" (راجع 2 تسالونيكي 2: 7) مع سرّ الخلاص الحقيقيّ، كما أنه مقابل في معرض آخر بين الحكمة البشريّة المزيّفة وبين الحكمة الإلهيّة الحقيقيّة المعلنة في صليب المسيح (راجع ا كورنتس 1: 17- 25).ثالثاً: رؤيا القدّيس يوحناقي كتاب الرؤيا، تدلّ لفظة mysterion، في موضعين، على المعنى السري للرموز التي يشرحها الرائي (رؤيا 1: 20) أو الملاك الذي يكلّمه (17: 7). ولكنّها تشير أيضاً في موضعين آخرين، إلى معنى قريب جداً من المعنى الذي يعّبر عنه بولس بهذه اللفظة. فيوجد على جبهة بابل الكبرى التي تمثل روما، إسم مكتوب، يعبّر عن سرّ (17: 5). لأن فيها يعمل، خلال التاريخ، "سرّ الإلحاد" هذا، الذي كان بولس يندّد به من قبل (راجع 2 تسالونيكي 2: 7). وأخيراً، في يوم الدينونة، عندما ينفخ الملاك السابع في البوق، ليعلن عن الدينونة الأخيرة، "يتم سر الله، وفقاً لما بشّر به عبيد الأنبياء" (رؤيا 10: 7، راجع 1 كورنتس 15: 20 - 28). هذا هو اكتمال السر الذي ترنو الكنيسة إليه، ومنذ الآن تحيا فيه، ولكنّها مندمجة في قلب "العالم الحاضر"، فلا تزال ممزقة بين القوّات الإلهيّة والقوّات الشيطانية. وسوف يأتي يوم، حيث يبيد الله أخيراً السلطات الشيطانيّة (راجع رؤيا 20، 1 كورنتس 15: 26- 27)، فتدخل الكنيسة في "العالم الآتي"، حينذاك يبقى سرّ الله وحده في عالم مجدّد (رؤيا 21، راجع 1 كورنتس 15: 28). وهذه هي خاتمة الوحي المسيحي.
تدبير الله الله سرّ وحي ختم
علامة
خير وشرّ