مقدمة
لايمكن أن ينفصل روح الله عن الآب والابن، ومعهما يكشف عن ذاته في يسوع المسيح، ولكن له طريقته الخاصة في الكشف عن ذاته، كما له شخصيته المتميزة. وفي انسانية شبيهة بإنسانيتنا يكشف الابن، في نقس الوقت، عن ذاته وعن الآب الذي لايكفّ عن مشاهدته. ونستطيع أن نرسم ملامح الابن الآب، ولكن الروح لا صورة له، ولا حتى اسم يمكن أن يوحي بوجه إنساني. ففي جميع اللغات، يعبّر عنه باسم عام (في العبرية "رووَّح"، وفي اليونانية pneuma، وفي اللاتينية، spiritus وهو مقتبس من الظواهر الطبيعية كالريح والتنفس، بحيث إن النص نفسه: "ترسل روحك فيخلقون، وتجدد وجه الأرض " (مزمور 104: 30)، قد يوحي، بالقدر نفسه من الصواب، بالنسمة الإلهية التي ترتب تداول المواسم، بإفاضة الروح الذي يحيي القلوب. ومن المتعذر أن نتحكم في الروح. إننا "نسمع صوته "، ونتبيّن عبوره خلال ظواهرغالباً ما تكون خارقة، ولكن لا ندري "من أين يأتي وإلى أين بذهب " (يوحنا 3: 8). وهو لا يعمل أبداً إلا خلال شخص آخر، عن طريق الاستحواذ عليه وتحويله. وهو بلا شك يحدث ظواهر خارقة " تجدد وجه الأرض " (مزمرر 104: 30)، ولكن عمله ينطلق دائماً من الباطن، ونتعرّف عليه أيضاً من الباطن: "تعرفونه لأنه مقيم معكم وهو فيكم " (يوحنا 14: 17). والرموز الأساسية المشيرة إلى الروح، وهي الماء، والنار، والهواء، والريح، تنتمي إلى عالم الطبيعة، ولا تتضمن ملامح متميّزة. إنها تشير خاصة إلى حضور غامر وإلى نمو لا يقاوم، متجهاً دوماً نحو العمق. ومع ذلك، فإن الروح ليس أكثر أو أقل سراً واعجازاً من الآب والابن، ولكنه يذكرنا بقوة بأن الله هو السر الذي لا يدرك، ويحول دون أن ننسى أن " الله روح " (يوحنا 4: 24)، وأن " الرب هو الروح " (2 كورنتس 3: 17).
العهد القديم
في العهد القديم، لا يظهر بعد روح الله كأقنوم، ولكن كقوّةِّ إلهية تحول الشخصيات البشرية، فتجعلها جديرة بتصرفات خارقة. وتهدف تلك التصرفات دائماً إلى تثبيت الشعب في دعوته، وجعله خادماً ومعاوناً للإله القدوس. وإذ يأتي الروح من الله ويوجه نحو الله فهو روح قدس. وإذ يأتي من إله إسرائيل ويكرس إسرائيل لإله العهد. فهو روح يمنح القداسة. وهذا العمل وهذا الوحي يتأكدان خاصة في اتجاهات ثلاثة: اتجاه مستاني للخلاص، واتجاه نبوي للكلمة والشهادة عادة، واتجاه للخدمة والتكريس المبني على الذبيحة. وفي هذه الانجاهات الثلاثة، يدعى شعب إسرائيل بأسره لقبول الروح.
أولاً: الروح والخلاص
1. القضاة:
يقيم روحُ الله قضاةَ إسرائيل مثل شمشون وجدعون وشاول. فنرى بعض أولاد الفلاحين البسطاء يتحولون فجأة وكلية، بدون أي توقع أو تمهيد أو إمكانية المقاومة. فيصبحون لا أهلآ للإتيان بأعمال خارقة في الجرأة والقوة فقط " بل يتمتعون أيضأ بشخصية جديدة تمكنهم من القيام بدور قيادي وإتمام رسالة تحرير شعبهم. وعلى أيديهم وبروحهم، يجدد روح الله ملحمة الخروج والبرّية، ويكفل وحدة إسرائيل وخلاصه، عاملاً بذلك على إنشاء الشعب المقدس. فمنذ ذلك الوقت، يقوم عمله في الباطن، ولو أنه يشار إليه في صور تبرز الاستحواذ الفجائي والغريب: فالروح "كان " على عتنئيل ويفتاح (قضاة 3: 10، 11 -29)، "ويحل " كالوحش على فريسته (قضاة 14: 6، 1 صموئيل 11: 6)، و"يتملك " على الإنسان (قضاة 6: 34).
2. الملوك:
ليس القضاة إلا محررين وقتيين، فالروح يتركهم على أثر اتمام رسالتهّم. ويخلفهم الملوك "، مكلّفين بمهمة دائمة. وتدل المسحة التي كانوا يكرسون بموجبها على طابع لا يمحى، يمنحه الروح وتسبغ عليهم جلالاً قدسياً (1 صموئيل 10: 1، 16: 93).
3. المسيا:
لا تكفي المسحة الطقسية لجعل الملوك خداماً أوفياء لله قادرين على أن يكفلوا لإسرائيل الخلاص والعدالة والسلام. ولكن لإنجاز هذه الأعباء، تظهر الحاجة إلى عمل من الروح أكثر عمقاً، ألا وهو مسحة الله المباشرة التي سوف تميز المسيا. فعليه أن لا ينزل الروح قط، بل يستقر (إشعيا 11: 2)، وفيه سوف يفجر كل مواهبه: "حكمة وفهم" بصلائيل (خروج 35: 31) وسليمان، و"مشورة وقوة" في داود، و"معرفة ومخافة الله"، وهي جميعها المثل العليا لأتقياء إسرائيل. وستكون هذه المواهب فتحاً لعهد سعادة وقداسة (إشعيا 11: 9).
ثانياً: الروح والشهادة
1. بنوالأنبياء:
سبق وجود الأنبياء، بمعنى الكلمة، جماعة من الأتقياء الذين انخذوا من الانخطاف الديني حرفة لهم. فهؤلاء لم يميزوا دائماً بين الممارسات البشرية التي تخرجهم عن طورهم و بين العمل الإلهي. هولاء هم "أبناء الأنبياء". وهم إحدى الدعامات الحية في إسرائيل، لأنهم يشهدون لقدرة يهوه. وكان القوم يتعرفون، خلال القوة التي تدلهم إلى الكلام باسم الإله الحقيقي، إلى حضور روحه (خروج 15: 20، عدد 11: 25 27، 1 صموئيل 10: 6، 1 ملوك 18: 22).
2. الأنبياء:
لا ينسب الأنبياء الكبار، وعلى الأقل القدامى منهم، عملهم إلى الروح مباشرة، بل يفضلون غالباً أن يرجعوا القوة التي تحركهم إلى يد الله (إشعيا 8: 11، إرميا 1: 9، 15: 17، حزقيال 3: 14). فليس ذلك لعدم اعتقادهم بأنهم يمتلكون الروح، ولكن لإدراكهم أنهم يحصلون عليه بنوع مغاير لحال أبناء الأنبياء أسلافهم. واذ يمارسون مهنة، ويتنبوؤن مركزاً، فإنهم يشعرون عن وعي كامل، وأحياناً عن تمرد يشمل كيانهم كله، بقوة أعظم منهم تجبرهم على الكلام (عامرس 3: 8، 7: 14- 15، إرميا 20: 7- 9). والكلمة التي يعلنونها تصدر عنهم، ويعرفون مقدار ما كلفتهم، إلا أنها لم تولد بداخلهم، بل هي بالذات كلمة الله الذي يرسلهم. وهكذا نتبيّن الرابطة التي تظهر أولاً عند إيليا (1 ملوك 19: 12- 13)، ولن تنقطع بعد ذلك الرابطة بين كلمة الله وروحه. وهكذا لا يكتفي الروح بخلق شخصية جديدة لخدمة عمله، وإنما يشركها في تفهم سرعمله. فلا يعود الروح "فهماً وقوة" فحسب، بل أيضاً "معرفة الله " وطرقه (راجع إشعيا 11: 3). وبينما يبصّر الروح الأنبياء بكلمة الله إلى حد كشف المجد الإلهي لهم (حزقيال 3: 12، 8: 3) فهو "يقيمهم على أقدامهم (2: 1، 3: 24)، للتحدث إلى الشعب (11: 5) وإنذاره بالدينونة" الآتية. وهكذا يجعل منهم شهوداً ويؤدّي هو ذاته شهادة لله (نحميا 9: 30 راجع زكريا 7: 12).
ثالثاً: الروح والتكريس، عبد يهوه
هناك تلاق بين دور الروح المسياني والمحرر، ودوره النبوي في إعلان الكلمًة والدينونة. فهذا التلاقي، الذي ظهر أولاً في المسيا الذي ينبئ عنه إشعيا، تأكد تماماً في "عبد يهوه". ولأن الله قد "جعل روحه عليه"، فسوف "يبدي عبد يهوه الحكم للأمم" (إشعيا 42: 1، راجع 61: 1 3). على النبي أن يعلن العدل "، ولكن على الملك أن يحققه. والحال أننا نرى العبد الذي "يفضل آلامه سوف يبرر جموعاً كثيرة" (11: 53)، أي أنه سوف يقيمهم في البر. فتتخذ رسالته طابعاً سلوكياً، وتتلاقى المهمات النبوية والمهمات المسيانية، حيث يحققها الروح عينه. ولما كان "العبد" من جهة أخرى هو ذلك الذي "تسّر به نفس الله" (42: 1)، فإن هذه المرة التي ينتظرها من تقديم الذبائح الواجبة له، تشمل حياة عبده هذا وموته، لما فيها من قداسة وتكفير عن الخطأة وخلاص الجموع. وهكذا يقبل دور الروح القدس في التقديس.
رابعاً: حلول الروح على الشعب
يتخذ عمل الروح في الأنبياء وعبيد الله طابعاً نبوياً في حد ذاته. اذ هو يبشر، بإفاضته على الشعب بأسره، أشبه بنزول الغيث الذي يعيد الحياة للأرض الجرداء (إشعيا 32: 15، 44: 3، حزقيال 36: 25، يوئيل 3: 21)، و أشبه بنسمة الحي ة التي تأتي لتنعش وتحيي العظام اليابسة (حزقيال 37). تعتبر إفاضة الروح هذه بمثابة خلق جديد، تقيم الحق والعدل " في أرض متجددة، وتحدث، في القلوب المطهرة، حساسية خاصة لسماع صوت الله، وأمانة تلقائية نحو كلمته (1 أشعيا 59: 21، مزمور 143: 10)، وعهده (حزقيال 36: 27)، وشعوراً حيّاً بالتفرع (زكريا 12: 10)، والتسبيح (مزمور 51: 17). وإذ يتجدد إسرائيل بالروح، سوف يتعرّف على إلهه، وسوف يجد الله شعبه الضال: "لن أحجب وجهي عنهم بعد لأني أكون قد أفضت روحي على آل إسرائيل" (حزقيال 39: 29). وليست هذه الرؤية بعد سوى من قبيل الرجاء. ففي العهد القديم لا يستطيع الروح أن يقيم، لأنه "لم يعطَ بعد" (يوحنا 7: 39). ومعلوم بلا شك أنه منذ العهود الأولى في زمن البحر الأحمر والسحاب، كات الروح القدس يعمل في موسى ويقود إسرائيل إلى مكان راحته (إشعيا 63: 9 -14). ولكن نرى أيضاً أن الشعب قادر دائمأ على "إِحزان الروح القدس" (63: 10) وتعطيل عمله. وحتى نصبح الهبة كاملة ونهائية، ينبغي أن يأتي الله بتصرف خارق، فيتدخل شخصياً: "إنك أنت يا رب أبونا... لِمَ أضللنا يا رب عن طرقك؟ ليتك تشق السماوات وتنزل..." (63: 15- 19، 16: 1). أن تنفتح السمارات وأن ينزل إله على الأرض، وأن تتحول القلوب، هذا ما سوف يشكّل فعلاً عمل الروح القدس، لدى ظهوره النهائي في يسوع المسيح.
خامساً: الخاتمة، الروح والكلمة
فمن أول العهد القديم إلى آخره، لايتوقف الروح وكلمة الله عن العمل سوياً. إن كان المسيا يستطيع المحافظة على كلمة الشريعة التي أعلنها الله إلى موسى، وتحقيق البر، فلأنه حاصل على الروح. وإن كان النبي يؤدي الشهادة للكلمة فلأن الروح استولى عليه.وإن كان "عبد الرب" يستطيع أن يحمل إلى الشعوب كلمة الخلاص، فلأن الروح يستقر عليه. وإن كان اسرائيل يستطيع يوماً حفظ هذه الكلمة في قلبه، فلن يكون ذلك إلاّ في الروح. وإن كانت هاتان القوتان غيرمنفصلتين، إلاّ أن لكليهما صفات متميزة تماماً، فالكلمة تنفذ من الخارج، مثل السيف الذي يخترق الأجساد، أما الروح فيتسرّب بشكل غير محسوس. إن الكلمة قابلة أن تسمع وتعرف، ولكنّ الروح يظل غير منظور. الكلمة تنير، أما الروح فيعمل على التحوّل الباطني. الكلمة تقف ثابتة، وتظل قائمة بذاتها، أما الروح فيهبط ويفيض ويغمر. ونجد بوضوح هذا التوزيع في الأدوار التي يمتاز بها الأقانيم الثلاثة، والمشاركة القائمة بينها، في العهد الجديد: فكلمة الله إذ صار جسداً، بفعل الروح، لايعمل شيئاً دون الروح، كما أن إتمام عمله هو موهبة الروح.
العهد الجديد
أولاً: عمل الروح في يسوع
1. عمل الروح القدس في عماد يسوع:
كان يوحنا المعمدان، في انتظار المسيا، ينتظر، في الوقت نفسه، الروح في كمال قدرته. فهو العتيد أن يستبدل بأعمال الانسان عمل الله الذي لا يردّ: "أنا أعمدكم بالماء من أجل التوبة.... أما هو فسوف يعمدكم بالروح القدس والنار" (متى 3: 11). فمن الرموز التقليدية، يختار يوحنا أبعادها عن المادية إلا وهي اللهيب. ولا ينقض يسوع هذا الاعلان، بل ينجزه في صورة تذهل يوحنا. فهو يقبل العماد منه، وينزل عليه الروح القدس في صورة بسيطة جداً وإلهية في الوقت نفسه، ظاهراً مع الماء والريح، في رؤية السماء التي تفتح، والحمامة التي تنزل عليه. فالعماد في الماء الذي ظنه يوحنا قد بطل، يصبح بفعل يسوع العماد بالروح. ففي هذا الانسان الذي يختلط بصفوف الخطأة، يعلن الروح المسيا الموعود به (لوقا 3: 22= مزمور2: 7)، الحمل المقدم كذبيحة من أجل خطيئة العالم (يوحنا 1: 29)، والابن الحبيب (مرقس 1: 11). ولكنه يكشف عنه بطريقته الخاصة السرية، دون أن يظهر عمله، فلابن يعمل ويقبل العماد، والآب يخاطب الابن، ولكنّ الروح لا يتكلم ولا يعمل. ومع ذلك، فلا بد من حضوره لكي يتم الحوار بين الآب والابن. فمع أنه لاغنى عنه، يظل الروح صامتاً، وغير عامل في الظاهر، فلا يضمّ صوته إلى صوت الآب، ولا يقرن بعمل يسوع أي عمل من قبله. فماذا يعمل إذاً؟، إنه يعمل على تحقيق اللقاء، فهو يبلّغ يسوع كلمة الرضا والفخر والحب، التي تأتيه من الآب، ويقيمه في موقفه كابن. ويُصعِد الروح نحو الآب تكريس المسيح، باكورة ذبيحة الابن الحبيب.كان يوحنا المعمدان، في انتظار المسيا، ينتظر، في الوقت نفسه، الروح في كمال قدرته. فهو العتيد أن يستبدل بأعمال الانسان عمل اللهالذي لا يردّ: "أنا أعمدكم بالماء من أجل التوبة.... أما هو فسوف يعمدكم بالروح القدس والنار" (متى 3: 11). فمن الرموز التقليدية، يختار يوحنا أبعادها عن المادية إلا وهي اللهيب. ولا ينقض يسوع هذا الاعلان، بل ينجزه في صورة تذهل يوحنا. فهو يقبل العماد منه، وينزل عليه الروح القدس في صورة بسيطة جداً وإلهية في الوقت نفسه، ظاهراً مع الماء والريح، في رؤية السماء التي تفتح، والحمامة التي تنزل عليه. فالعماد في الماء الذي ظنه يوحنا قد بطل، يصبح بفعل يسوع العماد بالروح. ففي هذا الانسان الذي يختلط بصفوف الخطأة، يعلن الروح المسيا الموعود به (لوقا 3: 22= مزمور2: 7)، الحمل المقدم كذبيحة من أجل خطيئة العالم (يوحنا 1: 29)، والابن الحبيب (مرقس 1: 11). ولكنه يكشف عنه بطريقته الخاصة السرية، دون أن يظهر عمله، فلابن يعمل ويقبل العماد، والآب يخاطب الابن، ولكنّ الروح لا يتكلم ولا يعمل. ومع ذلك، فلا بد من حضوره لكي يتم الحوار بين الآب والابن. فمع أنه لاغنى عنه، يظل الروح صامتاً، وغير عامل في الظاهر، فلا يضمّ صوته إلى صوت الآب، ولا يقرن بعمل يسوع أي عمل من قبله. فماذا يعمل إذاً؟، إنه يعمل على تحقيق اللقاء، فهو يبلّغ يسوع كلمة الرضا والفخر والحب، التي تأتيه من الآب، ويقيمه في موقفه كابن. ويُصعِد الروح نحو الآب تكريس المسيح، باكورة ذبيحة الابن الحبيب. كان يوحنا المعمدان، في انتظار المسيا، ينتظر، في الوقت نفسه، الروح في كمال قدرته. فهو العتيد أن يستبدل بأعمال الانسان عمل اللهالذي لا يردّ: "أنا أعمدكم بالماء من أجل التوبة.... أما هو فسوف يعمدكم بالروح القدس والنار" (متى 3: 11). فمن الرموز التقليدية، يختار يوحنا أبعادها عن المادية إلا وهي اللهيب. ولا ينقض يسوع هذا الاعلان، بل ينجزه في صورة تذهل يوحنا. فهو يقبل العماد منه، وينزل عليه الروح القدس في صورة بسيطة جداً وإلهية في الوقت نفسه، ظاهراً مع الماء والريح، في رؤية السماء التي تفتح، والحمامة التي تنزل عليه. فالعماد في الماء الذي ظنه يوحنا قد بطل، يصبح بفعل يسوع العماد بالروح. ففي هذا الانسان الذي يختلط بصفوف الخطأة، يعلن الروح المسيا الموعود به (لوقا 3: 22= مزمور2: 7)، الحمل المقدم كذبيحة من أجل خطيئة العالم (يوحنا 1: 29)، والابن الحبيب (مرقس 1: 11). ولكنه يكشف عنه بطريقته الخاصة السرية، دون أن يظهر عمله، فلابن يعمل ويقبل العماد، والآب يخاطب الابن، ولكنّ الروح لا يتكلم ولا يعمل. ومع ذلك، فلا بد من حضوره لكي يتم الحوار بين الآب والابن. فمع أنه لاغنى عنه، يظل الروح صامتاً، وغير عامل في الظاهر، فلا يضمّ صوته إلى صوت الآب، ولا يقرن بعمل يسوع أي عمل من قبله. فماذا يعمل إذاً؟، إنه يعمل على تحقيق اللقاء، فهو يبلّغ يسوع كلمة الرضا والفخر والحب، التي تأتيه من الآب، ويقيمه في موقفه كابن. ويُصعِد الروح نحو الآب تكريس المسيح، باكورة ذبيحة الابن الحبيب.
2. عمل الروح الدس في ولادة يسوع:
إن حضور الروح في يسوع، الذي ظهر فقط ساعة العماد، يرجع إلى أصول كيانه ذاتها. فعماد يسوع ليس مشهداً يروي نشأة دعوته، وإنما هو حقاً حفل تنصيبه كمسيّا وفيه يقدّم الله ابنه، "العبد" الذي كان محتفظاً به منذ الأزل، كما كانت تنبئ بذلك العبارات النبوية المستهلّة بلفظ "هذا هو" (إشعيا 42: 1، 52: 13). ونجد القضاة الأنبياء والملوك يغمرهم الروح في لحظة معيّنة من حياتهم، ويحل الروح على يوحنا المعمدان قبل ولادته بثلاثة أشهر ولكن في يسوع لا يقيم الروح شخصية جديدة، وهو يسكن فيه، ويمنحه الوجود من أول لحظة له. فمنذ تكوينه في أحشاء أمه، يقيم من يسوع ابناً لله. وتبرر بشارتا الطفولة هذا الفعل الأوّلي (متى 1: 20، لوقا 1: 35). وبقمارنة البشارة لمريم بالبشائر السابقة، يظهر لوقا بوضوح أن عمل الروح هنا يتجاوز مجرد التكريس. فقد كرّس شمشون (قضاة 13:5)، وصموئيل(1 صموئيل 1: 11)، ويوحنا المعمدان (لوقا 1: 15) منذ الحبل بهم بصورة غير كاملة ومباشرة. أما يسوع، فبدون أيّة مراسيم، ودون تدخّل أي انسان، بل يعمل الروح وحده في مريم العذراء، بحيث لا يصبح فقط مكرساً لله، وإنما "قدوساً" بذات كيانه (لوقا 1: 35).
3. الروح القدس يقود يسوع في تصرفاته:
يُظهر يسوع في كل مسلكه عمل الروح فيه (لوقا 4: 14). فهو في الروح، يواجه إبليس (متى 4: 1)، ويحرر ضحاياه من قبضته (12: 28)، ويبشّر الفقراء، معلناً لهم كلمة الله (لوقا 4: 18)، وفي الروح، يتصل بالآب (لوقا 10: 21). وفي معجزاته التي تنقض الشر والموت، وكلمته القوية الحق، وعلاقته الحميمة مع الآب، نرى الدليل على أن روح الله مستقر عليه (إشعيا 61: 1)، وأنه في الوقت نفسه هو المسيا المخلّص، والنبي المنتظر، "والعبد" الحبيب. وعند الملهمين من بني اسرائيل، كان حلول الروح يحمل دائماً طابعاً عارضاً ومؤقتاً، ولكن عند يسوع يتميز بصفة الدوام. فانه لا يتلقّى كلمة الله، وإنما يفصح عنها في كل أقواله. ولا ينتظر توقيتاً ما ليقوم بمعجزة، بل تصدر عنه المعجزة، كما تتأتّى عنا أبسط الأعمال. وهو لا يتلقى أسرار الله، وإنما يعيش دائماً في حضرته تعالى في شفافيّة تامة. لم يحز أحد قط الروح القدس بقدر ما يمتلكه هو، "بغير حساب" (يوحنا 3: 34). وما من أحد أيضاً قد حاز الروح قط بالصورة التي حازه هو بها. فالملهمون في العهد القديم، حتى عندما يحتفظون بوعيهم، يعرفون أنهم تحت سيطرة من هو أقوى منهم. ولكن لا نرى في يسوع أي أثر لضغط، قد نرجعه إلى الهام خارجي. فلإتمام أعمال الله، يبدو كما لو كان لا يحتاج إلى روح. وليس معنى ذلك أنه يستطيع أبداً الاستغناء عنه، كما أنه لا يستطيع أيضاً الاستغناء عن الآب، ولكن كما أن الآب كان "معه في كل حين" (يوحنا 8: 29)، فكذلك الروح لا يمكن أن يغيب عنه. لا تظهر على يسوع الظواهر التي تصحب الروح، وهذا دليل أكيد على ألوهية. فهو لا يختبر الروح كقوة تأتيه من الخارج لتغمره، وإنما طبيعياً، هو في الروح، والروح فيه: فهو روحه الخاص (راجع يوحنا 16: 14- 15).
ثانياً: سسيوع يعد بمنح الروح
ومع أن يسوع مملوء من الروح القدس، ولا يعمل إلاّ به، إلاّ أنه لا يتكلم قط عنه. إنه يظهره عن طريق كل أعماله، ولكنه ما دام يحيا بيننا، لايستطيع أن يظهره متميّزاً عنه. فحتى يفاض الروح ويُعرًف، ينبغي ليسوع أن يمضي (يوحنا 7: 39، 16: 7)، فحينئذ سوف يُعرَف من هو الروح، ومن هو مرسله. ولذلك فإن يسوع لا يتحدث عن الروح إلاّ لدى افتراقه حسيّاً عن تلاميذه، بصورة وقتية (متى 10: 10)، أو نهائية (يوحنا 14: 16 و15 و26، 16: 13- 15). وفي الاناجبل الازائية، يبدو أنه ليس على الروح أن يظهر إلاّ في المواقف الخطيرة، وسط أخصام منتصرين أي أمام المحاكم (مرقس 13: 11). ولكن في خطابه بعد العشاء، يفضي يسوع لرسله بسرائر قلبه، وهي تنطوي على قدر كبير من الدقائق: فعداء العالم ليسوع ليس واقعة عارضة، وإن كان لا يظهر دوماً بصورة اضطهادات عنيفة، إلاّ أن أتباعه سوف يشعرون كل يوم بثقل تهديد العالم لهم (يوحنا 15: 18- 21)، ولذلك أيضاً سوف يكون الروح معهم، كل الأيام (14: 16 و17). وكما أن يسوع قد شهد لأبيه بكل حياته (يوحنا 5: 41، 8: 50، 12: 49)، كذلك سوف يكون على أتباعه أن يؤدوا الشهادة للرب (مرقس 13: 9، يوحنا 15: 27). طالما كان يسوع يعيش بينهم، ما كانوا ليخشوا شيئاً، فكان هو بالنسبة اليهم البارقليط، الحاضر دائماً لإبداء الدفاع عنهم وانقاذهممن مضايفهم (يوحنا 17: 32). أما بعد مضيّه، فإن الروح سوف يحلّ محله، ليكون لهم البارقليط (14: 16، 16: 7). وإذ يتميز هو عن يسوع، إلاّ أنه لن يتكلم باسمه الخاص، وإنما دائماً عن يسوع الذي لا ينفصل عنه والذي "سوف يمجده". (16: 13- 14). كذلك سوف يذكّر التلاميذ بأعمال الرب وأقواله، ويعطيهم نعمة فهمها (14: 26)، وسوف يسبغ عليهم القوة حتى يواجهوا العالم باسم يسوع ويكتشفوا معنى موته، وليؤدّوا شهادة السر الإلهي الذي تحقق خلال هذا الحادث الشائن، إذ فيه إدانة الخطيئة، وهزيمة إبليس، وانتصار بر الله (16: 8- 11).
ثالثاً: يسوع يمنح الروح
بعد موته وقيامته، يهدي يسوع الكنيسة هبة الروح. فأي انسان يموت، مهما عظم قدره، ومهما ترك من الأثر العميق، يتحتم مع ذلك عليه، أن يدخل في طيات الماضي. وقد يصمد عمله بعده، ولكنه لا يظل ملكاً له، ولا حول ولا قدرة له عليه، ولا مفرّ من أن يترك مصيره لأهواء الناس وتقلباتهم. وعلى عكس ذلك، فعندما يموت يسوع ويسلّم روحه "إلى الله"، "يحوّله" في الوقت نفسه إلى الكنيسة (يوحنا 19: 30). فحتى موته، كان الروح يبدو محصوراً داخل حدود ذاتيته البشرية، ودائرة نشاطها. والآن، وقد ارتفع ابن الانسان بمجد إلى يمين الآب (12: 23)، فإنه يجمع البشرية التي نالت الخلاص ويفيض عليها الروح (7: 39، 20: 22 و 23، أعمال 2: 33).
رابعاً: الكنيسة تقبل الروح
إن الكنيسة، وهي الخليقة الجديدة لا يمكن أن تولد إلا من الروح الذي منه يولد كل. مولود من الله (يوحنا 3: 5- 6). و يعتبركتاب "أعمال الرسل" بمثابة "إنجيل الروح". وفيه نجد عمل الروح متميزاً بالظاهرتين اللتين لاحظناهما منذ العهد القديم. فمن جهة أخرى نرى آيات وأعمال خارقة: ملهمون تأخذهم النشوة (أعمال 2: 4 و6 و11)، ومرضى وممسوسون يحررون (3: 7، 5: 12 و15...) وثقة بطولية يظهرها التلاميذ (4: 13 و31، 5: 20، 10: 20). ومن جهة أخرى، تعلن هذه الآيات وهي علامات الخلاص النهائي- أن التوبة ممكنة وأن الخطايا قد غفرت وأنه قد حانت الساعة حيث يفيض الله في الكنيسة روحه (2: 38،3 26، 4: 12، 5: 32، 10: 43). هذا الروح هو روح يسوع، وهو يعمل على استعادة أعمال يسوع والتبشير بكلمته (4: 30، 5: 42، 6: 7، 9: 20، 18: 5، 19: 10- 20)، وترديد صلاته (أعمال 7: 59- 60- لوقا 23: 34 و46، أعمال 21: 14- لوقا 22: 42)، كما أنه يعطي للرسل أن يخلّدوا سر َشكر يسوع، في كسر الخبز، وهو يحفظ ما بين الأخوة الوحدة (أعمال 2: 42، 4: 32) التي كانت تجمع التلاميذ حول يسوع. ومن العبث إرجاع هذا كله إلى عادات ترسّخت من كثرة الاتصال به وإلى الإرادة الواعية في إعادة وجوده. فأثناء حياة يسوع على الأرض مع رسله، كانت شخصيته القوية قادرة وحدها على حفظهم حوله، أما الآن والتلاميذ لم يعودوا يرونه، ومع علمهم بكل ما يتعرّضون له، فهم يقتفون آثاره عن طيب خاطر: لقد قبلوا روح يسوع. فالروح القدس هو القوة التي تدفع بالكنيسة الناشئة "إلى أقاصي الأرض" (1: 8)، فتارة يحل مباشرة على الوثنيين (10: 44)، فيثبت بذلك أنه قد "يفاض على الناس أجمعين " (2: 17)، وأخرى يبعث للرسالة أولئك الذين اختارهم: فيلبس (8: 26 و29- 30)، وبطرس (10: 20)، وبولس وبرنابا (13: 2 و4). ولا يقف دوره عند بداية الخدمة: إنه يلازم الرسل ويوجّه نشاطهم (16: 6 و7)، ويسبغ على قراراتهم من سلطانه (15: 28). فإن كانت الكلمة "تنمو وتنتشر" (6: 7، 12: 24)، فترجع القوة الداخلية لهذا الانطلاق المتسم بالفرح، إلى الروح (13: 52).
خامساً: اختبار الروح لدى القديس بولس
1. الروح مجد المسيح فينا:
إن "الذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات" (رومة 8: 11)، بقوة روح القداسة (رومة 1: 4). وجعل منه "روحا محيياً" (1 كورنتس- 15: 45). جعل في الوقت نفسه من الروح "مجد الرب" القائم من بين الأموات (2 كولسي3: 18). فهبة الروح القدس هي حضور مجد الرب فينا. الذي يحولنا إلى صورته. لذلك فإن بولس لا يفصل ما بين المسيح والروح، ما بين الحياة "في المسيح" والحياة "في الروح". الحياة للمسيحي "هي المسيح" (غلاطية 2، 20). وهي أيضأ الروح (رومة 2:8 و10). فمن يكون "في يسوع المسيح" (رومة 8: 1) يسلك في سبيل "الروح" (8: 5...).
2. علامات الروح:
ولا تجعلنا الحياة في الروح ندرك الروح إدراكاً مباشراً، فهي حياة في ظل الإيمان. إلا أنها اختبار فعلي ويقين واقعي؟ لحضور ما، من خلال العلامات. وهذه العلامات متنوعة للغاية. إلا أنها كلها. ابتداء من المواهب الظاهرة خارجياً مثل موهة الألسن.. أو الشفاء (1 كورنتس 12: 28 و 29، 14: 12) إلى " المواهب السامية " (12: 31)، مثل الإيمان والرجاء والمحبة، تمنح لخدمة الإنجيل الذي تؤدي له الشهادة (1 تسالونيكي 1: 5- 6، 1 كورنتس 1: 65)، ولخدمة جسده المسيح الذي تعمل على بنيانه (1 كورنتس 12: 4- 30). فجميع هذه العلامات تجعلنا نرى أيضاً، خلال أعمال الإنسان ومواهبه، وخلال "المواهب التي نلناها من الله" (1 كورنتس 2: 12)، حضوراً شخصياً لكائن يحل (رومة 8: 11) فينا ويشفع لنا (8: 26) و"يشهد مع أرواحنا" (8: 16)، و"ينادي في قلوبنا" (غلاطية 4: 6).
3. الروح ينبوع الحياة الجديدة:
وفي إطار أشكال متنوعة، يظل اختبار الروِح واحداً في جوهره. فحيث تسود الدينونة والموت تحل الحياة. وبدل الشريعة" التي كانت تأسرنا في نظام الحرف القديم، أصبحنا نعمل فيا نظام الروح الجديد" (رومة 7: 6)، وتحل، بدل لعنة الشريعة، بركة ابراهيم في الروح الموعود به (غلاطية 3: 13-14). بعد عهد الحرف الذي يميت، يأتي عهد الروح الذي يحيي (2 كورنتس 3: 6). وبدل الخطيئة التي كانت تقتضي شريعة الجسد، تحلّ شريعة الروح والبر (رومة 7: 18 و25، 8: 2- 4). وبدل أعمال الجسد تظهر ثمار الروح (غلاطية 5: 19- 23)، وبدلاً من الإدانة التي كات تثقّل على الخاطئ " شدة الغضب الإلهي وضيقه " (رومة 2: 9) يحل السلام والفرح بالروح القدس (1 تسالونيكي 1: 6، غلاطية 5: 22 …..). هذه الحياة قد منحت لنا، وفي الروح لا يعوزنا شيء من الهبات (1 كورنتس 1: 7)، ولكنها تعطي لنا خلال الكفاح، لأننا في هذا العالم، لم نحظ بعد إلا "بعربون" الروح (2 كورنتس 1: 22، 5: 5، أفسس 1: 14)، و"الباكورة" (رومة 8: 23). ويدعونا الروح إلى محاربة الجسد. وتقترن العبارات التي تؤكد حضوره بواجب الامتثال لمتطلباته. "إذا كنا نحيا بالروح، فعلينا أن نقتفي آثار الروح" (غلاطية 5: 25، 6: 9، رومة 8: 9 و13. أفسس 30: 4). وندعه يحوّل "البشر الذين هم كأطفال في المسيح" إلى "أناس روحانيين" (1 كورنتس 3: 1).
4. الروح والكنيسة:
والخليقة الجديدة، المولودة من الروح هي الكنيسة. فالكنيسة والروح لا ينفصلان، ويتم اختبار الروح في الكنيسة، ويدخل إلى سر الكنيسة. وتزداد قيمة المواهب على قدر مساهمتها الفعّالة في بنيان الكنيسة (1 كورنتس 12: 7، 14: 4...)، وفي تقديس هيكل الله (1 كورنتس 3: 16، أفسس 2: 22). وإذ يجدد الروح باستمرار عمله ومواهبه، يعمل دون توقّف على المحافظة على وحدة جسد المسيح (1 كورنتس 12: 13). فمن حيث هو روح الشركة (أفسس 4: 3، فيلبيي 2: 1)، يفيض موهبة المحبة الفائقة في القلوب (1 كورنتس 13، 2 كورنتس 6: 6، غلاطية 5: 22، رومة 5: 5)، ويجمعها كلها في وحدته (أفسس 4: 4).
5. روح الله:
"جسد واحد وروح واحد... رب واحد... وإله واحد" (أفسس 4: 64). إن الروح يوحّد لأنه روح الله، والروح يقدّس (2 كورنتس 1: 22)، لأنه روح ابنه القدوس. ويقوم عمل الروح في تقريبنا إلى الله، ووضعنا في صلة حية معه وفي إدخالنا إلى أعماقه المقدسة، وإعلان "أسراره الإلهية" لنا (1 كورنتس 2: 10 و11). قي الروح، نتعرف على المسيح، ونعترف بأن "يسوع هو رب" (12: 3) ونتضرع إلى الله (رومة 8: 26)، ونناديه باسمه "أبّاً" أيها الآب (رومة 8: 15، غلاطية 4: 6). وما دمنا قد نلنا الروح، فلا شيء في العالم يقدر علينا. لأن الله قد وهب ذاته إلينا، و نحن نحيا فيه.