مقدمة
بدون مفهوم الاختيار، لا نفهم شيئاً عن قصد الله ومشيئته بخصوص الإنسان. ولكنّ الإنسان الخاطئ الذي فقد ثقته بالله نهائياً والذي لا يشعر إلاّ بالحسد نحو أخوته يرفض قبول نعمة الله وسخائه، بل يعترض عليهما عندما ينعم بهما أحد غيره (متى 20: 15). أمّا إذا انتفع هو بهما، فإنه يتباهى بها كأنها خيرات اكتسبها بفضله وحده. وهناك فرق شاسع بين غضب قايين على أخيه (تكوين 4: 4- 5) وغمّ بولس الذي يتألم من أجل بني قومه (رومة 9: 2- 3)، فيصبّ غصّة قلبه في صلاة شكر لله على "قراراته الخفية وطرقه غير المفهومة" (11: 33)، فبين الموقفين، يمتدّ الطريق كله الذي يقود من الخطيئة إلى الإيمان، هذه هي مسيرة الفداء، ومضمون الكتاب المقدس بأجمعه.
العهد القديم
أولاً : خبرة الاختيار
1. الحدث الأصلي:
تقوم خبرة الاختيار عند إسرائيل في إدراكه أن مصيره يختلف عن مصير الشعوب الأخرى، وأنه يتمتّع بوضع فريد يرجع ليس إلى الصدفة أو إلى توفيق بشري، ولكن إلى مبادرة مقصودة وسامية من جانب يهوه. وإذا كانت المصطلحات الأصلية المعبّرة عن الاختيار (مثل الكلمة العبرية "باحار" ومشتقّاتها) حديثة العهد، إلا أنّ الوعي بهذا التصرّف الالهي قديم قدم وجود إسرائيل. ولا ينفصل هذا الوعي عن العهد، بل يعبّر في آن واحد عن طبيعته الفريدة (إسرائيل وحده بين كثيرين آخرين) وعن سرّه الباطني (ان الله قد اختاره). وهكذا فإن هذا الوعي يعطي عمقاً دينياً للعهد ويرفعه إلى مرتبة السر.
2. الاختيار الالهي:
ترجع الاقرارات الأولى بالاختيار الإلهي إلى أقدم الصيغ المعبّرة عن إيمان إسرائيل. فالصلاة الطقسية الخاصة بالبواكير التي يذكرها كتاب التثنية 26: 1- 11 تحتوي على قانون إيمان قديم جدّاً يقوم جوهره على المبادرة الإلهيّة التي أخرجت العبرانيّين من مصر لتقودهم نحو الأرض المباركة. ورواية العهد المبرم في شكيم على يشوع ترجع بتاريخ إسرائيل إلى اختيار من الله: "فأخذت إبراهيم أباكم" (يشوع 24: 3)، وتنوّه بأنّه لا يمكن أن تتم الاستجابة لهذه المبادرة الاّ بقبول حر من الشعب: "فاختاروا لكم من تعبدون" (24: 15). لاشكّ في أن الصيغ المذكورة بمناسبة عهد سيناء أكثر حداثة من حيث الزمن: "اتّخذنا ملكاً" (خروج 34: 9)، "فإنكم تكونون لي خاصّة من جميع الشعوب" (19: 5)، ولكنّ هذا الإيمان المعلن قائم من قبل في إحدى نبوءات بلعام: "كيف ألعن من لم يلعنه الله … إنّه شعب سيسكن وحده ولا يحسب بين الأمم" (عدد 23: 8- 9). وأقدم من ذلك أيضاً نجده في نشيد دبورة، الذي يقرن بالتناوب عظائم "الرب إله إسرائيل" (قضاة 5: 3 و 5: 11) بسخاء المحاربين الذين قدّموا أنفسهم "للرب" (قضاة 5: 2 و9 و13 و23).
3. الاختيار حادث متواصل:
كلّ هذه الإقرارات تروي تاريخاً، وتشهد باستمرارية قصدٍ واحدٍ وتظهر اختيار الشعب ممهّداً له بمجموعة اختيارات سابقة، ومواصلاً نموه بانتقاء مختارين جدد.
آ ) قبل إبراهيم:
يحتوي تصميم البشرية على تفضيلات إلهية (هابيل، تكوين 4: 4)، ومعاملات تمييزية (أخنوخ، تكوين 5: 24)، وحادث فريد (نوح "إني إياك رأيتُ بارّاً أمامي في هذا الجيل" (7: 1)، والبركة الممنوحة إلى سام (9: 26). إلاّ أن ذاك التصميم لم يعرف بعدُ الاختيار بمعناه الدقيق، لكنه يفترضه باستمرار: فلقد بُني كل ذلك التاريخ لكي يستطيع الله، الذي يتتبّع بنظره كل الأجيال، أن يختار يوماً، من وسط كل هذا الجمهور البشري الواقع فريسة الخطيئة والمطامح إلى فتح السماء، مختاره إبراهيم، "ليبارك فيه جميع عشائر الأرض" (تكوين 12: 3).
ب ) ومن خلال الآباء:
يظهر الله استمرارية قصده في الاختيار. فقد اختار لذاته أمّة، وأبقى على هذا الاختيار، ولكن ليس الوارث الطبيعي في هذه الأمة هو الذي سيحمل بركة الله، مثل أليعازر أو إسماعيل أو عيسو أو روبين، بل في كلّ مرّة تتولّى مبادرة خاصّة من الله في تعيين مختاريه: اسحق (تكوين 18: 19) ويعقوب ويهوذا. ويقوم موضوع كتاب التكوين على الجمع الغريب بين النتائج الطبيعيّة لاختيار إبراهيم في البدء، وبين التصرفات التي يقلب الله بها مشروعات الإنسان، ويحتفظ هكذا في الوقت نفسه بأمانته في مواعيده مع الأولويّة المطلقة لمبادراته. وفي هذه الروايات، تثبت سمة دائمة خاصّة بالاختيار. فبينما في نظر البشر، تسبب ميزة المختار تلقائياً سقوط الذين استُبعدوا، ولنا شاهد على ذلك في اللازمة التي تتخلّل النبوءات الصادرة عن الآباء: "سيكون أخوتك عبيداً لك" (9: 25، 27: 29، 27: 40) فإنّه في المواعيد الإلهيّة تجعل كلمة الله من المختار بركة للأرض كلّها (12: 3، 22: 18، 26: 4، 28: 14).
جـ ) من داخل شعبه المختار:
ينتخب الله لنفسه رجالاً يجعلهم وكلاء على رسالة، مؤقّتة كانت أو دائمة، ويحمل هذا الانتخاب، الذي به يفرزهم ويكرّسهم، سمات اختيار إسرائيل، وبالنسبة للأنبياء، يظهر الاختيار غالباً خلال الدعوة أي نداء الله المباشر، الذي يعرض أسلوباً جديداً للحياة ويطلب جواباً. ونرى في دعوة موسى النموذج المثالي (خروج 3، راجع مزمور 106: 23 "مختاره"). ولكن عاموس (عاموس 7: 15)، وإشعيا (إشعيا 8: 11)، وإرميا (إرميا 15: 16- 17، 20: 7) قد مرّوا بالاختبار عينه: فقد اجتذبهم الله وانتزعهم من حياتهم العاديّة، ومن عشرة البشر، فأرغمهم على إعلان وجهة نظره ومعارضة شعبهم. يختار الله الملوك. هكذا اختار شاول (1 صموئيل 10: 24)، وخاصة داود الذي تمّ اختياره في الوقت نفسه الذي رذل فيه شاول (1 صموئيل 16: 1). وكان ذلك بمثابة اختيار لا رجعة فيه، له ولذريّته التي قد تتعرض لعقاب صارم من الله، إلاّ أن الله لن ينبذها أبداً (2 صموئيل 7: 14- 16). لا مجال هنا لنداء مسموع، فالله يعرب عن اختياره للملك على لسان النبي (1 صموئيل 10: 1) الذي يتلّقاه من خلال كلمة الله (1 صموئيل 16: 6- 12، حجّاي 2: 23). وغالباً ما يستعمل الله مجرى الأحداث ليرفع على العرش الملك الذي اختاره، مثلما فعل مع سليمان الذي فضّله على أدونيّا (1 ملوك 2: 15). ولكنّا نحن هنا في صدد اختيار بمعنى الكلمة (تثنية 17: 15)، ليس فقط بسبب الكرامة الملكية والصفة القدسية للمسحة، ولكن أيضاً لأن اختيار مسيح الرب يرتبط دائماً بعهد الله مع شعبه (مزمور 89: 4)، ولأن وظيفة الملك الأساسية تقوم على إبقاء إسرائيل أميناً على دعوته. كذلك الكهنة واللاويون هم أيضاً موضع اختيار. فالخدمة المعهود بها إليهم بأن "يقفوا أمام الرب" تفترض حدوث "فرز" (تثنية 10: 8، 18: 5)، وأسلوب حياة مختلف عن أسلوب حياة باقي الشعب. والواقع، يرجع التكريس إلى مبادرة إلهيّة. قد اختّص الله اللاويين بدلاً من الأبكار الذين كانوا من نصيبه بحكم الشريعة. ولكنه لكي يبين أنه لا يريد فرض سيادته بطريقة عشواء، وبلا مبالاة، يهتّم بنوعيّة معاونيه وينتظر منهم تصديقاً فرحاً. وإذ اختار الله اللاويين ليكونوا خاصته وميراثه، فيجب عليهم أن يتعهّدوا بأن يتخذوا الله نصيباً لهم (عدد 18: 20، مزمور 16: 5- 6). وإن كان هناك تواصل بين اختيار الكهنة واللاويين واختيار إسرائيل، فلأن الرب قد اختار شعبه ليكون بأجمعه "مملكة أحبار وشعباً مقدّساً" (خروج 19: 6). ومثلما اختار الله شعبه، اختار الأرض والأمكنة المقدسة التي أعدّها له. لأنه، ليس مثل آلهة البعل، حبيس الينابيع أو الجبال التي يعمل فيها. وكما أنه اختار "سبط يهوذا" "اختار جبل صهيون الذي أحبه" (مزمور 78: 68) و "ابتغاه لسكناه" (مزمور 68: 17، 137: 13). وخاصة اختار هيكل أورشليم "ليحلّ فيه اسمه" (تثنية 12: 5 …، 16: 7- 16).
ثانياً: معنى الاختيار
إن كتاب التثنية، الذي جمع الاصطلاحات عن الاختيار حول المصدر "بَحَر" قد أبرز معناه:
1. اصل الاختيار:
يرجع أصل الاختيار إلى مبادرة إلهيّة مجانيّة. إن الرب هو الذي "لصق بكم واختاركم" (تثنية 7: 7)، ولستم أنتم الذين اخترتموه. والسبب الوحيد لهذه النعمة هو المحبة: لا يبرّرها أي فضل ولا أي امتياز، من جانب إسرائيل، فإنه يقلّ عن جميع الشعوب "ولكن… الرب أحبكم" (7: 7- 8). فيضع الاختيار علاقة حميمة بين الله وشعبه: "انتم بنو الرب" (تثنية 14: 1)، ولكن لا تقوم هذه القرابة على أي أساس جسدي، كما يحدث كثيراً في الوثنية بين الآلهة وعبّادهم، بل إنها قرابة روحية ناتجة عن اختيار الرب (14: 2)، وتعبّر عن سمو من يكون دائماً "حبه سابقاً لحبنا" (1 يوحنا 4: 19).
2. هدف الاختيار:
ويهدف الاختيار إلى تكوين شعب مقدس، مكرّس للرب، مرتفع "فوق جميع الأمم للتسبيح والذكر والمجد" (تثنية 26: 19)، لينشر بين الشعوب عظمة الرب وسخاءه. وتقوم الشريعة، خاصة عن طريق الحواجز التي تنصبها بين إسرائيل والأمم، بمثابة الوسيلة الكفيلة بتحقيق هذه القداسة (7: 1- 6).
3. نتيجة الاختيار:
إن نتيجة الاختيار الذي يفرز إسرائيل على حدة من بين الشعوب الأخرى، هي تقييدها بمصير لا يقارن بمصير سائر الشعوب: امّا سعادة فائقة وامّا شقاء لا مثيل له (تثنية 28). وتبقى كلمة عاموس دستوراً للاختيار: "إيّاكم وحدكم عرفت من بين جميع عشائر الأرض، فلذلك سأفتقدكم من أجل جميع آثامكم" (عاموس 3: 2).
ثالثاً: الاختيار الجديد، الاسكاتولوجي
1. اختيار ورذل:
يحتفظ هذا التهديد الشديد الذي يذكره عاموس بناحية إيجابية مشجعة: لكي يعاقب الله شعبه هكذا، فهذا دليل على عدم التخلّي عنه. وأهول ما في الأمر الاحتمال أن يرجع الله عن الاختيار، ويترك إسرائيل يذوب بين الشعوب الأخرى. فمثلما رذل الله الأخوة السبعة ليختار داود (1 صموئيل 16: 7)، وكما رذل افرائيم ليختار يهوذا (مزمور 78: 67- 68)، ألا يحتمل أن "يخذل هذه المدينة أورشليم التي اختارها" (2 ملوك 23: 27)؟ كم يضطّر الأنبياء، وخاصّة ارميا، أن يفكّروا في هذه العاقبة! فإسرائيل مثل الفضة المرذولة التي لا يمكن أن تنقّى (إرميا 6: 30، 7: 29): و"هل رذلت يهوذا؟" (14: 19). وفي آخر الأمر، ستكون الإجابة على هذا السؤال بالنفي: "إن أمكن أن تقاس السماوات من فوق، وأن يفحص عن أسس الأرض من تحت، فأنا أيضاً أرذل جميع ذريّة إسرائيل" (إرميا 31: 37، راجع هوشع 11: 8، حزقيال 20: 32). في الحقيقة، أنّ العروس الخائنة "قد طلّقها بعلها بسبب خطاياها"، ولكن برغم ذلك فقد يسأل الله قائلاً: "أين كتاب طلاق أمّكم؟" (اشعيا 50: 1). يبقى الاختيار قائماً، ولكن في صورة جديدة: "سيعود الرب يختار أورشليم" (زكريّا 1: 17، 2: 12)، "ويعود فيصطفي إسرائيل" (اشعيا 14: 1)، متجاوزاً خطيئته وسقوطه على صورة البقّية التي لن تكون نتيجة للصدفة بل لعمل الله القدير. فهي "الزرع المقدس" (اشعيا 6: 13)، و "النبت" (زكريّا 3: 8)، و "السبعة آلاف رجل الذين لم يجثوا على ركبتهم للبعل" (1 ملوك 19: 18)، وهم الذين، بحسب تفسير القدّيس بولس، قد استبقاهم الربّ لذاته (رومة 11: 4).
2. العبد المختار:
كثيراً جدّاً ما يطلق الوحي، على لسان الله نفسه تسمية "المختار" على هذه البقية "إسرائيل الجديد" (اشعيا 41: 8، 43: 20، 44: 2، 45: 4، 43: 10، راجع 65: 9 و15 و22). وهذا الاسم مناسب جدّاً للإشارة إلى مبادرة الله الخلاّقة، القادرة على أن تخرج من وسط تشيع فيه الوثنية، شعباً مكرّساً لخدمة الإله الحقّ. ففي صميم العالم وتاريخه، اختار الله لنفسه هذا الشعب. وإليه تصبو أفكاره ومن أجله يدبّر كلّ العالم، ويختار رجلاً مثل كورش (45: 1)، وينصره على الأمم "لأجل إسرائيل مختاري" (45: 4). وفي قلب هذا العمل، يبرز الله هذا الشخص العجيب، ولا يطلق عليه أية تسمية أخرى سوى "عبدي" (42: 1، 49: 3، 52: 13) و "مختاري" (42: 1). ليس هو ملكاً ولا كاهناً ولا نبياً، لأنّ كل هؤلاء المختارين هم أوّلاً رجال لا يمتازون عن غيرهم في شيء قبل أن يدركوا رسالتهم: يسمعون نداء دعوة ويقبلون مسحه. أما عبد الربّ فإنه يتبين دعوة الله وهو في بطن أمه (راجع ارميا 1: 5). واسمه لم يعطَ له من البشر بل من الله (إشعيا 49: 1) ومنه يستمد كل كيانه، القائم أساساً على الاختيار، ولذا فليس هذا الوجود إلاّ خدمة وتكريساً: فالمختار هو بالضرورة العبد.
العهد الجديد
أوّلاً: يسوع المسيح المختار من الله
رغم أنّ العهد الجديد لم يطلق على يسوع تسمية "المختار" الاّ نادراً (لوقا 9: 35، 23: 35، ومن المحتمل يوحنا 1: 43)، إلاّ أنّها تطلق عليه دائماً في المناسبات الاحتفالية: العماد التجلّي والصلب. وهي تشير دائماً إلى صورة "العبد". وإذ يذكرها الله نفسه، فهو يشهد أنّه قد أتمّ في شخص يسوع الناصري التدبير الذي شرع فيه عندما اختار إبراهيم وإسرائيل. نعم، لقد وجد المختار الأوحد الذي استحقّ هذه التسمية على كل وجه، والوحيد الذي يستطيع تكليفه بعمله والقادر على تحقيق رغبته تعالى. إنّ عبارة أشعيا: "هذا هو الذي اخترته" كانت تنبئ بانتصار الله، بيقينه من أنه وجد الشخص الذي لن يخيّب أبداً أمله. وعبارة الآب بشأن يسوع "هذا هو الذي اخترته" تعلن سرّ هذا اليقين: إن هذا الإنسان الحقيقي قد قدّسه الله منذ كان في أحشاء أمّه ودعاه ابنه (لوقا 1: 35)، وإنّه "قبل إنشاء العالم "أعدّه" ليجمع فيه كلّ شيء" (أفسس 1: 4 و10، 1 بطرس 1: 20). إن المسيح وحده هو "المختار من الله" بكل معنى الكلمة ولا يوجد مختارون إلاّ فيه. هو الحجر المختار، الوحيد القادر على تحمّل البناء الذي يشيّده الله (1 بطرس 2: 4- 6). بالرغم من أنّ يسوع لا يذكر أبداً هذه التسمية، إلاّ أنّه يتمتع بوعي واضح باختياره: هو على يقين من أنه يأتي من عالم آخر (مرقس 1: 38، يوحنّا 8: 14)، وأنّه من الملأ الأعلى (يوحنّا 8: 23)، وأن عليه أن يحيا مصيراً فريداً هو مصير ابن الإنسان، وأن يصنع عمل الله نفسه (يوحنّا 5: 19، 9: 4، 17: 4). تسرد جميع الكتب المقدسة اختيار إسرائيل، ويعلم يسوع أنها كلها تشير إليه (لوقا 24: 27، يوحنا 5: 46). ولكن لا يدفعه هذا الوعي إلا إلى الرغبة في الخدمة وإتمام عمله إلى النهاية (يوحنا 4: 34).
ثانياً: الكنيسة شعب مختار
1. اختيار الاثني عشر:
منذ اختيار يسوع "الاثني عشر" تظهر رغبته في إتمام عمله بمشاركة "الذين أرادهم" (مرقس 3: 13- 14). وهم يمثّلون حوله الأسباط الاثني عشر للشعب الجديد، فهذا الشعب إنما يدين بنشأته لاختيار المسيح (لوقا 6: 13، يوحنا 6: 70)، الذي يرجع أخيراً إلى اختيار الآب (يوحنا 6: 37، 17: 2)، ويتمّ بفعل الروح القدس (أعمال 1: 2). وفي بدء انطلاق الكنيسة، كما في نشأة إسرائيل، نجد اختيار الله: "لم تختاروني أنتم" (يوحنا 15: 16، راجع تثنية 7: 6). ويُظهر اختيار متّيا (أعمال 1: 24) وبولس (أعمال 9: 15) أن الله لا ينوي أن يبني كنيسته إلاّ على الشهود الذين يقيمهم بنفسه (أعمال 10: 41، 26: 16).
2. الاختيار الالهي في الكنيسة:
يظلّ الاختيار الإلهي في الكنيسة حقيقة معاشة. تقوم الجماعات المسيحية ورؤساؤها باختيار بعض الأشخاص ويكلّفونهم ببعض الإرساليات (أعمال 6: 5)، إلاّ أنهم بهذا يصدّقون فقط على اختيار الله ويقرّون بعمل روحه (6: 3). فإن وضع الأيدي من قبل الاثني عشر على السبعة (6: 6)، وفرز كنيسة أنطاكية لبولس وبرنابا، ما كانا إلاّ تحت تأثير الروح القدس الذي يرسل إلى عمله من ينتدبهم (13: 1- 3). وإن وجود مواهب الروح القدس في الكنيسة لدليل على دوام الاختيار الإلهي. والكنيسة إذ تجمع هذه الدعوات الخاصة وتصهرها في جسد واحد، تكون هي نفسها مختارة. إنه لا يمكن إرجاع موهبة الإيمان وتقبّل كلمة الله إلى عوامل بشرية كالحكمة والمقدرة والحب والنسب، ولكن إلى اختيار الله وحده (1 كورنتس 1: 26- 28، راجع أعمال 15: 7، 1 تسالونيكي 1: 4- 5). فمن الطبيعي أن يسمّي المسيحيّون أنفسهم "المختارين" (رومة 16: 13، 2 تيموتاوس 2: 10، 1 بطرس 1: 1)، وقد أدركوا أن الله "دعاهم من الظلمات" ليجعل منهم "ذرية" مختارة… وشعباً مصطفى" (1 بطرس 2: 9). وهذا هو سبب العلاقة التي وضعها الشعب بين كلمتي Ekklesia (الكنيسة) و Eklelte (المختارة). (راجع يوحنا 13، رؤيا 17: 14).
ثالثاً: مختارون أو مرذولون
على قدر ما يتكلم العهد الجديد عن المختارين، يتكلم أيضاً عن "مختاري الله"، مؤكّداً هكذا الطابع الشخصي والسامي لهذا الاختيار (مرقس 13: 20 و27//، رومة 8: 33). إلاّ أنه يتكلم أيضاً عن المختارين بنوع عام في أحاديث خاصة بنهاية العالم، ويشير هكذا إلى هؤلاء الذين اجتازوا مرحلة المحن، وأصبح الاختيار بالنسبة إليهم حقيقة ملموسة ومعلنة (متى 22: 14، 24: 22 و24). وكذلك يتكلم أيضاً عن الهالكين. قد عرف العهد القديم حالات رذل سابقة على مرحلة الاختيار، لهؤلاء الذين استعبدوا. إلاّ أن هذا الرذل كان ذا طابع مؤقت، باعتبار أن اختيار إبراهيم لا بدّ أن يكون بركة لجميع الأمم. وفي إطار الاختيار، لا يعتبر رذل المذنبين وغير المستحقين مناقضاً للوعد، ذلك أَنَّ الاختيار الإلهي لا رجعة فيه. ففي يسوع المسيح، يكمل اختيار إبراهيم وينتهي زمن رذل الأمم. وفي المسيح، يتصالح اليهود واليونان (أفسس 2: 14- 16) ويصبحون "مختارين" من الله ليكونوا شعباً واحداً "الشعب الذي افتداه الله" (أفسس 1: 11 و14). إن الاختيار قد لاشى كل الفوارق. ولكن مع ذلك، يمكن، "بعد الحصول على معرفة الحق، أن ندوس ابن الله .. ونعدّ دم العهد الذي قدّسنا به نجساً .. فنقع وما أهول الوقوع في يد الله الحيّ (عبرانيين 10: 26- 31). هناك احتمال رذل لا يناقض الاختيار، ولكنه يعبّر، في إطار الاختيار عينه، عن حكم "المختار" (المسيح) الذي لا يتعرّف على ذويه. فقوله "إنّي لا أعرفكم" (متّى 25: 12) لا يمحو تصريحه السابق: "إيّاكم عرفت" (عاموس 3: 2)، ولكنّه يعبّر عن خطورة الكلام الإلهي: "فلذلك سأفتقد عليكم جميع آثامكم". لا يدخل هذا الرذل في نطاق الزمن الحاضر ولكن في نطاق الأزمنة الأخيرة. ولذلك فإنه لم يقع على الشعب اليهودي. حقاً لقد لوّثت الخطيئة تاريخه: إنّ أبناء إسرائيل قد اصطدموا بالحجر المختار الذي وضعه الله (رومة 9: 32- 33) إذ رفضوا "مختاره"، ولكنّهم لا يزالون، "من حيث اختيار الله، أحبّاءه إكراماً للآباء" (11: 28) كما أنه لا يزال استعبادهم، مثلما كان رذل الأمم تحت العهد القديم مؤقتاً، ومدبّراً من العناية الإلهيّة (11: 30- 31). وطالما لم يحن مجيء الرب، فهم لا يزالون مدعوّين إلى الاهتداء ريثما يدخل جميع الوثنييّن في دائرة الاختيار، فيرجع كلّ إسرائيل إلى سابق امتيازه (11: 23- 27).