خير وشر Bien et malمقدمة"رأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جداً" (تكوين 1: 1 3). ولكن، لكي يستعجل مجيء الملكوت الاسكاتولوجي يطلب منا السيد المسيح أن نردد في الصلاة الربانية: "نجنا من الشرير" (متى 6: 13). ويطرح تضاد هذين النعبيرين على معاصرينا سؤالاً نجد في الكتاب المقدس نفسه عناصر لحله، من أين يأتي الشر في هذا العالم الذي خلق حسناً؟ متى وكيف سينهزم؟أولاً: الخير والشر في العالم1. تبدو بعض الأشياء لمن يراها أو يختبرها حسنة أو سيئة من وجهة نظره الشخصية.والكلمة العبرية "طوب"، ويقابلها باليونانية بدون تفرقة كلمتان agathos, kalos أي حسن وصالح (راجع لوقا6: 27- 35)، تعني أصلاً الأشخاص أو الأشياء التي تسبب رؤياها احساسات ممتعة أو الشعور بالارتياح للكائن كله، مثل طعام طيب (قضاة 19: 6- 9، 1 ملوك 21: 7، راعوت 3: 7) أو شابة جميلة (استير 1: 11)، أو أناس أسخياء (تكوين 40: 14). وقصارى القول يدعى خيراً كل ما يسبب السعادة أو يسهل الحياة في الصعيد الجسدي أو السيكولوجي (راجع تثنية 35: 15). وعلى عكس ذلك، كل ما يؤدي إلى المرض أو الألم بجميع أشكاله، وبالأخص إلى الموت، هو (بالعبرية، رَع باليونانية، kalos, poneros) .2. هل من الممكن أن نتكلم أيضاً عن صلاح موضوعي للمخلوقات بالمعنى الذي كان يقصده الفلاسفة اليونانيون؟ كانوا يتصورون لكل شيء مثلاً أعلى يجب الاقتداء به أو تحقيقه، كانوا يقدمون للإنسان مثالاً kalos-kagathos أعلى، حاوياً في نفسه جميع الصفات الأدبية الجمالية منها والاجتماعية، وهو بالتالي منشرح ولذيذ العشرة ونافع للمجتمع. من هذه الزاوية الخاصة، كيف نستطيع أن نتصور الشر؟ هل كنقص، كمجرد شيء سبي آم هو عدم الخير؟ أو بالعكس كحقيقة لها وجودها الخاص، ناتجة من هذا المبدأ الشرير الذي كان يلعب دوراً كبيراً في الفكر الإيراني؟ أما الكتاب المقدس فهو لا يفهم الصلاح الحقيقي للأشياء على هذا الشكل. فعندما يقول: "رأى الله أنه حسناً (تكوين 1، 4)، يقصد أن هذا الصلاح لا يقاس بالنسبة إلى خير مجرد، بل بالنسبة إلى الإله الخالق الذي وحده يعطي الأشياء حسنها وصلاحها.3. ويجب اعتبار صلاح الإنسان اعتباراً خاصا لأنه مرتبط جزئياً بحكمه الشخصي. فمنذ الخلق "، وضعه الله أمام شجرة" معرفة الخير والشر، تاركا له إمكانية الطاعة والتمتع بشجرة الحياة، أو العصيان والتعرض للموت (تكوين 2: 9 و17)، وهي تجربة حاسمة للحرية تتكرر لكل إنسان. إذا رذل الشر واختار الخير (إشعيا 7: 15، عاموس 5: 14، راجع إشعيا 1: 16- 17) ومارس شريعة الله وامتثل إلى إرادته (راجع تثنية 6: 18، 12: 28، ميخا 6: 8)، صار صالحاً ومقبولاً عند الله (تكوين 6: 8)، وإلاّ كان شريراً وغير مقبول في عينيّ الرب (38: 7). ولما كان الإنسان مسئولأ، فعليه أن يختار عن وعي الأمر الذي يحدد نوعيته الأخلاقية وبالتالي مصيره.4. وقد اختار الإنسان الشر منذ البدء تحت اغراء الشرير (راجع شيطان)، فبحث عن خيره في أشياء مخلوقة "طيبة للمأكل وشهية للعيون (تكوين 3، 6)، متعدياً على إرادة الله، وفي هذا يقوم أساساً ثمر الخطيئة. ولم يجد في عمله هذا إلا ثماراً مرّة قائمة في الألم والموت (تكوين 3: 16-19). وعلى أثر. خطيئته، دخل الشر في العالم وانتشر. وقد تمادى أبناء آدم في الشر لدرجة أن الله ندم على خلقهم (تكوين 6: 5- 7): إذ ليس هناك واحداً يعمل الخير على الأرض (مزمرر 14: 1- 3، رومة 3: 10-62). هذا هو اختبار الإنسان: يصاب يخيبة أمل لعدم إشباع أشواقه الجشعة (جامعة 5: 9- 11، 6: 7)، وحرم عليه أن يتمتع تماماً بخيرات الأرض (جامعة 5: 14، 11: 2- 6)، غير قادر على صنع الخير دون خطأ (جامعة 7: 20) إذ يخرج الشر من أعماق قلبه (تكوين 6: 5، مزمور 28: 3، إرميا 7: 24، متى 15: 9ا-20). وقد أصيب في حريته (رومة 7: 19) وأصبح عبداً للإثم (6: 17)، ثمَ امتد الإختلال إلى عقله أيضاً: أو يفسد نظام الأشياء، ويسميّ الخير شراً والشر خيراً (إشعيا 5: 20، رومة 1: 21- 25) وأخيراً، تحت وطأة القنوط وخيبة الأمل، يرى أن كل شيء باطل (جامعة 1: 2)، ويختبر بمرارة "أن العالم كله تحت حكم الشرير" (1 يوحنا 5: 19، راجع يوحنا 7: 7). ويظهر الشر فعلا ليس كمجرّد غياب للخير، ولكنه كقوة حقيقية تستعبد الإنسان وتفسد العالم (تكوين 3: 17 18). لم يحققه الله ولكن بما أنَه قد ظهر، أو يقاومه. وتبدأ حرب بلا هوادة، تدوم دوام التاريخ: فلكي يخلص الله الإنسان، يجب عليه وهو القدير أن ينتصر على الشر والشرير (حزقيال 38، 39 رؤيا 12: 7- 17).ثانياً: الله وحده صالح1.إن صلاح الله هو أسمى ما يعلنه لنا العهد القديم. إن إسرائيل، تحت ثقل العبودية التي قاساها في أرض مصر، اكتشف الخير في الله مخلصه. فهو ينقذهم من الموت (خروج 3: 7- 8، 18: 9)، ثم يقودهم إلى أرض الميعاد، "هذه الأرض الصالحة" (تثنية 8: 7- 10) التي تدر " لبناً وعسلاً" وحيث يوجّه الله دائماً نظره. وفيها سيجد إسرائيل السعادة (راجع تثية 4: 40)، إذا حافظ على أمانته للعهد (تثنية 8: 11-19، 11: 8- 12 و18- 28). 2.الله يضع شرطا لهباته: يجد إسرائيل نفسه كما كان آدم في الفردوس، موضوعاً أمام اختيار سيحدد مصيره. يضع الله أمامه البركةّ واللعنة (تثنية 11: 26- 28)، لأن الخير المادي والخير الأدبي كلاهما مرتبط بالله: فإذا "نسي إسرائيل الله" وكف عن محبته وعن العمل بوصاياه وقطع العهد، سيحرم في الحال من هذه الخيرات الأرضية (تثنية 11: 13)، ويعود مجدداً إلى العبودية، بينما تتحول أرضه إلى صحراء جدباء (تثنية 30: 15- 20، 2 ملوك 17: 7 23، هوشع 3: 4- 14). ويختبر إسرائيل، عبر تاريخه، صدق هذا التعليم الأساسي عن العهد. فمثل ما حدث في درامة الفردوس، إنَ اختبار الشقاء تابع حتما لاختبار الخطيئة .3. سعادة الأشرار وشقاء الصالحين: ولكنَ هناك نقطة رئيسية قد يتعذر فيها تطبيق هذا المبدأ: ألا يظهر الله كأنه يغمر الأشرار بالخيرات ويترك الصالحين في البؤس والشقاء؟ نرى الأبرار يتعذبون والأنبياء يقتلون وعبد الرب يُضطهد (راجع إرميا 12: 1- 2، 15: 15- 18، إشعيا 53، مزمور 22 أيوب 23، 24). وهذا اختبار أليم وغامض للعذاب، ولا يفهمه المرء من أول وهلة، غير أن بواسطته، يتعلّم مساكين يهوه تدريجياً أن يتجردوا عن خيرات هذا العالم العابرة المتقلبة (صفنيا 3: 11- 13، راجع متى 6: 19- 21، لوقا 12: 33- 34)، لكي يجدوا قوتهم وحياتهم وخيرهم في الله الذي وحده يبقى لهم، عندما يضيع كل شيء، فيتمسكون به بإيمان ورجاء عظيمين (مزمور 22: 20، 42: 6، 73: 25، إرميا 20، 11). ثم، إنهم لا يزالون معرضين للشر، ولكن يرافقهم مخلصهم الذي سيفوز بالنصر يوم الخلاص. عندئذ، سينالون هذه الخيرات التي وعد بها الله المؤمنين (مزمور 22: 27، إرميا 31: 10- 14). في الحقيقة، "لا صالح إلاّ الله وحده" (مرقس 10: 18) . ثالثاً: ينتصر الله كل الشركشف الله عن نفسه كمخلّص، ولذلك بادر عن إعلان انتصاره المقبل على الشر. غير أنه كان لا بد من إظهار هذا الإنتصار في صورة نهائية، بجعله الإنسان صالحاً وبانتزاعه أن حكم الشرير (1 يوحنا 5: 18- 19)، "سيد هذا العالم" (لوقا 4: 6، يوحنا 12: 31، 14: 30) .1. نعم، قد سبق الله وأعطى الشريعة التي كانت صالحة ومعدة لمنح الحياة (رومة 7: 12- 14)، إذا حافظ الإنسان على الوصايا، استطاع أن يصنع الخير وينال الحياة الأبدية (متى 19: 16- 17) ولكن هذه الشريعة ظلت غير مجدية من تلقاء ذاتها، طالما لم يتغير قلب الإنسان المستعبد للخطيئة. في متناول الإنسان أن يريد الخير، ولكنه عاجز عن تحقيقه، فهو لا يفعل الخير الذي يريده (رومة 7: 18-20). وتكاد الشهوة تجرفه بالرغم منه، فتتحول الشريعة التي وضحت لخيره إلى سبب لموته (رومة 7: 12- 13، غلاطية 3: 19). ويجعله هذا النضال الداخلي في منتهى التعاسة، فلن يستطيع أن ينقذه (رومة 7: 14 - 14) ؟2. "ربنا يسوع المسيح" هو وحده (رومة 7: 25) الذي يستطيع أن يصل إلى جنور الشر، منتصراً عليه في عمق قلب الإنسان (راجع حزقيال 36: 26- 27). هو آدم الجديد (رومة 5: 2 1- 21) الخالي من كل خطيئة (يوحنا 8: 46)، وغير الخاضع البتة لسلطة الشيطان، وقد جعل نفسه مطيعاً حتى الموت على الصليب (فيليبي 2: 8) وبذل حياته لكي. تجد خرفانه المرعى (يوحنا 10: 9- 18)، وصار لعنة لأجلنا، كيما تنال بالإيمان الروح الموعود به" (غلاطة 3: 13- 14).3. ثمار الروح: وهكذا بتضحية السيد المسيح بحياته وبالخيرات الأرضية (عبرانيين 12: 2)، وبإرساله لنا الروح القدس، قد زودنا "بالعطاء الحسن" الذي يجب علينا أن نطلبه من الآب (متى 7: 11، راجع لوقا 11: 13). ولا يقوم هذا العطاء بعد في الخيرات المادية مثل التي وعد بها الله قديماً العبرانيين، بل في "ثمار الروح في داخلنا" (غلاطية 5: 22- 25). فبعد أن تحول الإنسان بواسطة النعمة، يستطيع الآن أن يعمل الخير (غلاطية 6: 9- 10)، ويعمل الصالحات (متى 5: 16، 1 تيموتاوس 6: 18- 19، تيطس 3: 8 و 14) ويقهر الشر بالخير" (رومة 12: 21). ولكي يصبح الإنسان أهلالهذه الخيرات الجديدة، لا بد له من التجرد، أي بيع كل ما يملك وإتباع المسيح (متى 19: 21)، وعليه أيضاً أن يكفر بنفسه ويحمل صليبه (متى 10: 38-39، 16: 24-26).4. انتصار الخير على الشر: إن المسيحي، باختياره أن يحيا هكذا مع المسيح، اذعانا لإلهامات الروح القدس، ينكر تضامنه مع موقف آدم. وعلى هذا يكون قد غلب حقاً الشر الأدبي في شخصه. ثم، تستمر نتائجه الجسدية والنفسية ما دام العالم الحالي باقياً، ولكن المؤمن يفتخر بتجاربه لأنها تكسبه الصبر (رومة 5: 4)، معتبراً "أن آلام هذه الدنيا لا توازي المجد " الذي سيتجلى فينا" (8: 1) لقد حصل ذلك كله منذ الآن، بواسطة الايمان ورجاء الغنى الذي لا يفسد (لوقا 12: 33- 34)، الذي يُعطى بواسطة المسيح، "حبر الخيرات المستقبلة" (عبرانبين 9: 11، 10: 1). ليس هذا إلا البداية، لأن الإيمان ليس برؤية، ولكنه ضمان الخيرات التي تُرجى" (عبرانيين 11: 1)، وهي خيرات الوطن السماوي (عبرانيين 11: 16)، خيرات العالم الجديد الذي سيخلقه الله لمختاريه (رؤيا 21: 1 - 3) .