مقدمة
إن عناصر علم الإنسان، كما وردت في الكتاب المقدس، قدمت في هذا المعجم، خلال بحوث مخصصة، دراسةً لكل من الألفاظ التالية: نفس، قلب، جسد، جسم، وروح. وطبقاً لهذا المفهوم الشمولي للإنسان، الذي يغاير تماماً العقلية الجارية في ايامنا، وهي ترى في الجسم والروح العنصرين المكونين للإنسان، فإن الإنسان يعّبر عن ذاته كلها، بمختلف وجوهه المتنوعة: فهو نفس من حيث ان نفخة الحياة تبثّ فيه الحياة. وهو لحم من حيث أنه خليقة قابلة للفناء. وهو روح من حيث انه منفتح على الله، وأخيراً هو جسم من حيث انه يعّبر عن ذاته للخارج. يضاف إلى هذا الفارق الأول بين كلتا العقليتين، فارق آخر أكثر منه عمقاً. ففي نظر الفلسفة الأغريقية يكون المطلوب تحليل الإنسان، هذا الكون الصغير الذي يضمّ عالمين، الروحي والمادّي. أما الكتاب المقدس، فبموجب طابعه اللاهوتي، لا ينظر إلى الإنسان إلا من حيث كونه تجاه الله وباعتباره مخلوقاً على صورته. وبدلاً من أن يكون الكتاب المقدس محصوراً داخل عالم طبيعي مغلق يشرع نوافذه على أبعاد التاريخ، على تاريخ يكون لاعب الدور الأول فيه الله: الله الذي خلق الإنسان، والذي من أجل أن يفتديه، صار هو نفسه إنساناً. ويصبح علم الإنسان، المرتبط أصلاً بعلم اللاهوت، غير قابل للانفصال عن العلم الخاص بالمسيح. وهكذا نجد أن مختلف أشكال السلوك البشري طوال مجرى التاريخ، تُجمل في فئتين: فئة الإنسان الخاطئ، وفئة الإنسان الجديد، وهاتان الفئتان تمثلان تمثيلاً حالياً صورتي الشخصيتين المعلّنتين في لحظات ممتازة من التاريخ المقدس. آدم، وعبد يهوه، وتكتملان بيسوع المسيح. ان النموذج الأصيل للإنسان الحيّ، ليس آدم، بل يسوع المسيح، أي ليس ذلك الذي خرج من الأرض، وانما ذلك الذي هبط من السماء ؛ أو بالأحرى هويسوع المسيح، المرموز اليه بآدم. آدم السماوي المصمم على شبه آدم الأرضي.
أولاً: على صورة الله
1. آدم الأرضي:
إن الفصل الثاني من كتاب التكوين لا يتعلق بتاريخ انسان فحسب وانما بتاريخ الانسانية جمعاء، كما يدل على ذلك لفظ آدم، الذي يعني الإنسان. وبحسب عقلية الجماعات السامية، فإن جدّ أية سلالة يحمل فيه الجماعة "الخارجة من كليتيه". ففي شخصه يتمثل حقاً جميع الأحفاد، فهم مندمجون فيه. وهذا ما أمكن تسميته "بالشخصية الاتحادية". وبحسب الفصل الثاني من كتاب التكوين، يظهر الإنسان في آدم بعلاقاته الأساسية الثلاث: مع الله، ومع الأرض، ومع اخوته.
أ) الانسان وخالقه:
ليس آدم إلهاً منحدراً من عليائه، ولا جزءاً من روح هبط من السماء في جسم: إنه مخلوق حرّ، على علاقة مستمرة وجوهرية مع الله، وهذا ما يدل عليه أصله: انه مشتق من الأرض، لكنه ليس بواقف عند حدود الأرض. فوجوده معلّق على روح الحياة التي ينفخها الله فيه. فيصبح بذلك نفساً حيّة أي في الوقت ذاته كائناً شخصياً، وكائناً تابعاً لله. ولا يجيء " الدين " ليكمّل فيه طبيعة انسانية ذات كيان تام. وإنما الدين داخل منذ الأصل في تكوينه ذاته. وعليه، فالتكلم عن الإنسان بدون الأخذ بعين الاعتبار علاقته مع الله هو من المحال. ويضيف الله إلى النفخة التي تشكّل الإنسان الحي، "كلمته"، وهذه الكلمة الأولى تتخذ صورة التحذير: "من جميع شجر الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. فانك يوم تأكل منها تموت موتاً" (تكوين 2: 16- 17). وهكذا فطوال وجوده، يبقى الإنسان مرتبطاً بخالقه، بالطاعة لإرادته. وتبدو له هذه الوصية بمثابة منعٍ وحدٍّ، مع أنها في الواقع ضرورية لتكامله، اذ تتيح له أن يدرك أنه ليس إلهاً، وأنه تابع لله الذي منه يستمد الحياة، وان هذه النسمة هي التي تنعشه دون أن يفطن إلى أمرها. إذن يتّحد الإنسان بالخالق بصفة تبعيّة حيوية وأوليّة، وعلى حريته أن تعبّر عنها بصورة الطاعة. وهذا الناموس المسجّل في قلب الإنسان هو الضمير الذي عن طريقه يقيم الله الحيّ حواراً مع خليقته.
ب) الإنسان أمام الكون:
يجعل الله الإنسان في إطار خليقة جميلة طيبة (تكوين 2: 9)، حتى يزرعها ويحفظها، ويكون وكيله عليها. وهو يريد أن يؤكّد لادم سيادته على الحيونات بتسميتها (2: 19- 20، راجع 1: 28- 29)، فيعني بذلك أن الطبيعة ليست موضع تأليه، ولكن محل لسيطرة وإخضاع. وإن واجب العمل في الأرض لا يخلف واجب الطاعة لله، ولكن يرجع إلى الطاعة لله باستمرار. وإن أوّل قصة لعملية الخلق تشهد لذلك بطريقتها: فاليوم السابع، يوم الراحة، يحدّد مقياس العمل الإنساني، لأن عمل يدي الإنسان ينبغي أن يعبّر عن عمل الخالق.
ج) الإنسان في المجتمع:
وأخيراً فالانسان كائن اجتماعي بطبيعته (راجع جسد)، وليس بمقتضى وصيّة خارجة عنه. والفارق الأساسي بين الجنسين هو في الوقت نفسه نموذج ومصدر للحياة الاجتماعية، التي لا تقوم على القوة ولكن على المحبة. فالله ينظر إلى هذه العلاقة بين الجنسين على انها عون متبادل، وعندما يتضح للرجل أن في المرأة التي قدّمها الله إليه تعبيراً عن ذاته، حينئذ يستعدّ للخروج الخطير عن ذاته، خروجاً تشكله المحبة. فكل لقاء مع القريب يجد في هذه العلاقة الأولى مثله الأعلى، لدرجة أن الله ذاته سيعبّر عن العهد المبرم مع شعبه، بصورة الزواج. وكان الرجل والمرأة بغير لباس: "كانا كلاهما عريانين... دون أن يخجل أحدهما أمام الآخر". ولذلك دلالته أنّ العلاقة الاجتماعية لا تزال حينذاك بلا شائبة، لأن الاتحاد مع الله هوكمال يشعّ مجداً. لذلك نجد أن الإنسان لا يخشى الله، بل هو في سلام مع ذلك الذي يتمشى دون كلفة في حديقته، أو على حوار شفّاف مع رفيقته، ومع سائر الحيوانات، ومع كل الخليقة.
د) عل صورة الله:
تقدم القصة الكهنوتية (تكوين 1) تلخيصاً لبيانات الكاتب اليهوي، إذ توضح أن خلق الإنسان يجيء لتتويج خلق الكون، وتذكيراً لهدف الله: "وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا... أكثروا... أخضعوا الأرض وتسلّطوا على جميع الحيوان" (تكوين 1: 26- 28). فالإنسان يستطيع أن يدخل في حوار مع الله لأنه مخلوق على صورته. فهو ليس الله، بل يعيش في تبعية الله، في علاقة مماثلة لعلاقة ابن بأبيه (راجع تكوين 5: 3)، مع هذا الفارق أن الصورة لا يمكن أن تبقى قائمة مستقلّة عن الذي تعبّر عنه، كما تشير إلى ذلك كلمة "نفخة" في قصة الخليقة. فالإنسان يباشر دوره كصورة في نشاطين أساسيين: فهو كصورة للأبوة الإلهية، ينبغي أن يتكاثر حتى يملأ الأرض، وهو كصورة للسيادة الإلهية ينبغي أن يخضع الأرض لسلطانه. ولأن الإنسان هو سيّد الأرض، فهو أيضاً وجود الله على الأرض.
2. آدم السماوي:
ذاك هو تصميم مشروع الله. ولكنّ هذا المشروع لا يتحقق كاملاً الا في يسوع المسيح، ابن الله. فالمسيح يرث خصائص الحكمة، "ضياء النور الأزلي، ومرآة عمل الله النقية، وصورة جودته" (حكمة 7: 29). لقد خلق آدم على صورة الله، ولكنّ المسيح هو وحده "صورة الله" (2 كورنتس 4: 4، راجع عبرانيين 1: 3). ويعلّق بولس على ذلك بقوله: "هو صورة الله الذي لا يُرى، وبكر الخلائق كلها، ففيه خلق كل شيء، مما في السماوات ومما في الأرض... كل شيء خلق به وله. كان قبل كل شيء، وبه قوام كل شيء، وهو أيضاً رأس الجسد أي رأس الكنيسة" (كولسي 1: 15- 18). إن الأبعاد الثلاثة لآدم قائمة اليوم، إنها واضحة، لكن بدرجة متسامية.
أ) الابن أمام الآب:
إن من هو صورة الله هو الابن الذي تحدث عنه بولس للتوّ (كولسي 1: 13). فهو ليس فقط الصورة المرئية للآب غير المرئي، إنه الابن الدائم الاتحاد بالآب. فكما يقول هو نفسه، "لا يستطيع الابن أن يصنع شيئاً من عنده الا اذا رأى الآب يصنعه... لأني لا أتوخى مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني" (يوحنا 5: 19- 20، 30، راجع 4: 34). وما كان ينبغي لآدم أن يكون عليه، أي خليقة على صلة دائمة وتبعية بنويّة بالنسبة لله، حقه المسيح على أكمل وجه. فمن يراه يرى الآب (14: 9).
ب) المسيح والكون:
إن الإنسان يحقق عمل يديه، بينما المسيح يحقق عمل الآب. "إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضاً" (يوحنا 5: 17). وهذا العمل هو في الحقيقة الخلق نفسه. "فكل شيء خلق به" وتحت نظره تنشط المخلوقات، وتصبح مثلاً من أمثال ملكوت السماوات. وكما في قصة الخلق الذي نظم كله للإنسان، فها إن "كل شيء قد خلق له"، وبالفعل فإن سيادته تمتد ليس فقط على الحيوانات، ولكن أيضاً على كل خليقة.
ج) المسيح والانسانية:
وهو أخيراً "رئيس ورأس للجسم" وهذا يعني أولاً أنه هو الذي يهب الحياة، "آدم الآخر" (1 كورنتس15: 45)، آدم السماوي، هذا الذي ينبغي أن نلبس صورته (15: 49). وهو رأس الأسرة التي هي الكنيسة، المجتمع الإنساني الكامل. وأكثر من ذلك: هو مبدأ توحيد المجتمع الذي يؤلفه بنو البشر (أفسس 1: 10). فآدم لا يعرف معنى لوجوده إلا في يسوع المسيح، ابن الله، الذي صار بشراً، حتى نصبح بدورنا أبناء الله (غلاطية 4: 4 - 5).
ثانياً: خلال الصورة المشوّهة
إن المثل الأعلى الذي حددته عملية الخلق، والذي ينبغي أن نرجع اليه باستمرار لم يعد يمكن بلوغه ولا حتى استهدافه مباشرة. فالآن ينبغي للإنسان أن ينتقل من الصورة المشوهة التي هي صورة الخاطئ إلى الصورة المثلى لعبد الله. تلك هي الأوضاع الجديدة التي في اطارها تدور حياة الإنسان الواقعي.
1. آدم الخاطئ:
إن واضع الفصل الثالث من كتاب التكوين لم يشأ أن يرسم لوحة لهزيمة، ولكن أن يبشر بالانتصار بعد الكفاح. فالله قبل أن يقرر التغيير الذي سيصيب الإنسان في أبعاده الثلاثة، يبذر الرجاء في قلبه: إن نسل المرأة سيصاب عقبه بفعل عدوه، ولكنه سيسحق رأس الحيّة (تكوين 3: 15). إن هذه البشارة المسبّقة تضفي لوناً على التنبؤات القاتمة التي تليها، وتطمئن الإنسان بشأن الانتصار الإلهي في النهاية.
أ) انقسامات الأسرة الإنسانية:
إن ما يكتشفه آدم الخاطئ في البدء هو أن عُرْيَه (تكوين 3: 7 و11)، الذي ظلّ رمزيا حتى تلك اللحظة، يصبح مصدر فرقة: فآدم إذ يستجوبه الله يلقي الاتّهام على امرأته، وهكذا يعدل عن تضامنه معها. (تكوين 3: 12). فيخبرهما الله عندئذ بأن وحدتهما قد فصمت. فعلاقاتهما ستتحكم فيها القوة الغريزية والشهوة، والرغبة في السيطرة. وثمرة حبهما لن تعطى لهما إلا بثمن آلام الولادة (3: 16). وتوضح بقية فصول التكوين كيف أن الانفصام بين الزوجين الأولين يعود فيتردد صداه خلال كل العلاقات الاجتماعية ؛ بين قائين وهابيل الأخوين العدوين (تكوين 4)، و بين البشر الذين لا يعودون يتفاهمون في بابل، (تكوين 11: 1- 9). إن التاريخ المقدّس منسوج بالانقسامات وسلسلة الحروب بين الشعب والأمم، بين اعضاء هذا الشعب نفسه، بين الغني والفقير... ولكن الوعد بالانتصار باق بمثابة الفجر في قتام الليل، ولا يكفّ الأنبياء عن البشارة بأمير السلام الذي سيصالح البشر بين بعضهم بعضاً (إشعيا 9: 5 - 6).
ب) الكون خصم للإنسان:
بسبب خطيئة آدم ها هي الأرض تلحقها اللعنة، فينبغي للإنسان أن يأكل خبزه، ليس ثمراً يخرج تلقائياً من الأرض، ولكن بمشقة المتاعب وبعرق الجبين (3: 17- 18). فقد انضمت الخليقة إلى الباطل، ليس طوعاً منها (رومة 8: 20): فبدلاً من أن تستسلم برضى للإنسان، تتمرد عليه: لا شك أن الأرض كانت، على كل حال، ستزلزل زلزالها، وتعطي شوكها. لكن أشواكها ونكباتها لم تعد تعني فقط أن العالم باطل، ولكن تعني أيضاً أن الإنسان خاطئ. ومع ذلك فالأنبياء يبشرون بحالة فردوسية (إشعيا 11: 6- 9)، تدل على درجة بقاء طبيعة الإنسان على حيويتها كما خرجت من يدي خالقها: فالرجاء لم يمت (رومة 20:8).
ج) الإنسان مصيره الموت:
"لأنك تراب وإلى التراب تعود" (تكوين 3: 19). فبدلاً من أن يأخذ آدم الحياة الإلهية بمثابة عطية، قد أراد أن يتصرف هو في حياته، وأن يأكل من ثمرة الشجرة، حتى يصير الهاً. وبهذا العصيان، لقد انفصل الإنسان عن مصدر الحياة. فبعد أن كان عليه أن يعاني الموت يوماً عبوراً بسيطاً نحو الله فحسب، إذا به يتحول إلى مجرد ظاهرة طبيعة. ولما صار الموت حتمياً لا مرد له، غدا يعني العقاب، والموت الأبدي. وهذا ما يرمز أيضاً إليه النفي (السبي) من الفردوس. وحيث إن الإنسان قد رفض الناموس الباطني أي "ذاتية الله" فيه، فقد صار متروكاً لقدرته "الذاتية الخاصة" الخداعة. ويروي التاريخ السقطات المتلاحقة لذلك الذي إذ توهّم أنه يتساوى مع الله، أفضى حتماً إلى كائن معرّض للموت. ومع ذلك، فإن حلم الحياة المكتملة لم يتلاش. فالله يعود فيفتح أمام الإنسان مجدداً الطريق المؤدي إلى شجرة الحياة (أمثال 3: 18، 11: 30): أي إلى شريعته وحكمته، وهما مصدرا خصوبة لمن يضعهما موضع التطبيق ؛ ولكنّ هذه الشريعة، وقد هجرت قلبه، تبدو له وكأنها آتية من الخارج (غريبة عن ذاته).
د) انقسام الضمير:
وفي الواقع، فالشريعة التي تدل على موضع الخلاص، دون أن تستطيع توفيره، تحفر في الإنسان انقساماً مميتاً، وباعثاً للخلاص في الوقت نفسه: فإن آدم الذي توحد باطنياً بشركته مع الخالق، يهرب من ذاته بينما هو يهرب من الله. إنه يختبئ من وجه من يناديه (تكوين 3: 9). وهذا الخوف، وهو صورة مشوهة من خوف الله الأصيل، جالب للعدوى، ودالّ على انقسام في الضمير. وهذا التمزق الداخلي، ما كان ليستطيع ادراكه والسيطرة عليه سوى كائن يتمتع بوحدة باطنية: يعبّر بولس عن ذلك مستنيراً بالروح: ففي الرسالة إلى أهل رومة نرى بولس يصف "الأنا" الخاضع لقبضة الخطيئة، والمستمر في الوجود خالياً من الروح مع أنه لا غنى له عنه. وما أشبهه بمن قطع عنقه ولايزال حياً، فهو واعٍ لاضطرابه: "لكني بشر بيع ليكون للخطيئة. وحقاً لا أدري ما أفعل: فالذي أريده لا أفعله، وأما الذي أرغب عنه فأياه أفعل" (رومة 7: 14- 15). وبينما الإنسان لا ينقطع في قرارة نفسه عن التعاطف مع ناموس الله، وهو الذي ترك الخطيئة تسكن فيه، يرى أن الجسد يجعل إدركه "بشرياً" (كولسي 2: 18)، ويقسّي قلبه. (أفسس 4: 18) ويستعبد جسمه بحيث يدفعه إلى الإتيان. بأعمال الجسد الفاسدة (رومة 8: 13). وهكذا يبدو له أنه يسير نحو الهلاك لا محالة. ولكن لا يظل الأمر على هذا النحو، لأنه بفعل أيمان يمكن اقتلاع الخاطئ من عبودية الخطيئة. ولكن قبل الوصول إلى فعل الإيمان هذا، يبقى الخاطئ على حالة غربة عن ذاته. فما ينقصه هو مبدأ وحدته وشخصانيته: أي الروح. ونراه على لسان بولس ينادي المخلّص بهذا الصراخ الذي سبق أن تردد صداه طوال العهد القديم: "ما أشقاني من إنسان" فمن لي بمن ينقذني من هذا الجسد الذي يصير بي إلى الموت؟" (رومة 7: 24). وبهذا الصراخ يصل الخاطئ إلى خاتمة المطاف، فبينما هو قد رفض قبول الحياة كعطية، يلمس فشله في الحصول عليها بقواه الذاتية، فيدير وجهه أخيراً صوب الذي تأتي منه النعمة. فها هو مرة أخرى في وضعه الأساسي كمخلوق، إلا أن الحوار الذي يستأنفه يدور من ثم بين خاطئ ومخلصه.
2. عبد الله:
تعرّف بولس على هذا المخلّص، على أثر أبناء الجماعات المسيحية الأولى، وكان إشعيا قد أعلن عنه في نبوءته تحت سمات عبد الله. إذ إنه عند فرح الانتصار الفصحي لم يكن المسيحيون ليديروا نظرهم نحو وصف مهيب للمسيح الملك، أو لابن الإنسان الممجّد، فلم يكونوا في حاجة إلى إنسان خارق الطبيعة، بل إلى الإنسان الذي يحمل ويرفع خطيئة العالم.
أ) أمين لله حتى الموت:
إن الله يسرّ في عبده: "قد جعل روحه عليه... ليأتي في أمانة بالحق للأمم (إشعيا 42: 1- 3). وبينما هو يبدو مستنفذاً قواه ومتحملاً التعب عبثاً، يعرف أن الله يمجده باستمرار (49: 4- 5). وهو مطيع أسوة بالتلميذ الذي يفتح الله أذنيه كل صباح، إنه لا يقاوم، حتى تحت ضغط الإهانات، لأن ثقته بالله لا تتزعزع (50: 4- 7). وعندما حلّت ساعة التضحية قُدِّم، وهو خاضع ولم يفتح فاه، كشاة سيق إلى الذبح وكحمل صامت أمام الذين يجرّونه، لم يفتح فاه" (إشعيا 53: 7). وحين يستقبل تماماً مشيئة الله التي تلقى عليه عبء كل جرائم البشر، يسلم للموت نفسه (53: 12). هذا هو العبد الأمين، آخر البقية في الإنسانية، يعود بطاعته إلى عقد الرباط الذى فصمه آدم، وبقبوله الموت إنما يظهر الطابع المطلق لهذا الرباط.
ب) إنسان الآلام:
قد حطت المتاعب والآلام على آدم الخاطئ، والعبد يحمل خطايانا وأوجاعنا (إشعيا 53: 3). وزيادة على ذلك، فإن الذي كان عليه أن يسود على الحيوانات، أصبح شبيهاً بهم، "هكذا يتشوّه منظره أكثر من الإنسان" (إشعيا 52: 14)، إنه "دودة لا إنسان" (مزمور 22: 7).
جـ) أمام المجتمع:
"مزدرى ومخذول من الناس" (إشعيا 53: 3)، قد لفظ الجميع العبد في النهاية، دهش منه معاصروه، وذعروا فاعتقدوا أن فشلاً وقع (52: 14). ولكن بواسطة نبيه جعلهم الله يتعرفون فيعترفون بالقيمة التكفيرية والخلاصية لهذه التضحية: "جرح لأجل معاصينا، وسحق لأجل آثامنا، فتأديب سلامنا عليه وبشدخه شفينا" (53: 5). ومن خلال الإنسان المتألم، يستشف النبي هذا الوسيط الذي يصلّي من أجل الخطأة، والضحية التي تبرر الكثيرين (53: 11). فمن خلال موت العبد، يستطيع آدم أن يعترف بأن الخطيئة قد هزمته، وفي اللحظة التي ينزل فيها عن برّه، عندئذ يتحقق الخلاص: إن عمل الرب لا يصبح مجدياً إلا خلال المعاناة الأخيرة للإنسان الذي انصرف عنه جميع البشر. ففي الحقيقة ليست الحياة نتيجة طمع، ولكنها ثمرة جديدة على الدوام للبذل المجّاني.
د) العبد يسوع المسيح:
إن نبوءة العبد، ضمنيّة في كثير من الترانيم المسيحية القديمة. فهذه الترانيم جميعها تلخّص وجود المسيح في ملحمة ذات وجهين، يمثلان شقاء الانسان، وعظمته: الاتضاع، ثم الارتفاع (فيلبي 2: 6- 11، عبرانيين 1: 3، رومة 1: 3- 4 الخ...). فإن الذي ظل طوال حياته يتغذى من إرادة الآب، بدلاً من أن يتمسك بغيرة برتبته المساوية للرب، اتخذ وضع العبد، وصار على مثال البشر، بل تواضع أكثر فأطاع حتى الموت، والموت على الصليب. ولأن يسوع كامل في طاعته، سلك مسلك آدم الحقيقي، فدخل في العزلة الكاملة، ليصبح أبا الجنس الجديد وينبوع الحياة الدائم. وهو الذي يقدّمه بيلاطس البنطي في الشرفة مرتدياً لباس ملك السخربة، قائلاً "ها هوذا الرجل! "(يوحنا 19: 5). هذا هو درب المجد. ومن خلال تلك الصورة المشوّهة بفعل خطيئة الإنسان، ينبغي له أن يعترف بابن الله الذي "جعله الله خطيئة من أجلنا، كما نصير به برّ الله" (2 كورنتس 5: 21).
ثالثاً: على صورة المسيح
إن آدم الخاطئ لا ممكنه أن يعود بالكامل إلى ما هو في الأصل الحق- "على صورة الله" - ما لم تتم إعادة تشكيله "على صورة المسيح": ليس فقط على صورة الكلمة، ولكن على صورة المصلوب، هازماً الموت. إن القيم المبيّنة في الاصحاح الثاني من كتاب التكوين سنجدها من جديد منقولة على شخصية المسيح.
1. طاعه الإيمان ليسوع المسيح:
لم يعد على الإنسان أن يوجه طاعته وتمجيده نحو الله مباشرة، ولا نحو الشريعة التي أعطيت للإنسان الخاطئ رحمة له، ولكن ينبغي أن يوجههما نحو الذي أتى ليأخذ صورة الإنسان (راجع رومة 1: 5- 13). فالعمل الوحيد الواجب هو أن نؤمن بالذي أرسله الله (يوحنا 6: 29). "لأن الوسيط بين الله والناس واحد، ألا وهو المسيح يسوع الإنسان (1 تيموتاوس 2: 5). ووحيد هو الآب الذي نحوه يقاد المؤمنون لتكون لهم بالابن الحياة وفيرة والى الأبد.
2. أولوّية المسيح:
وإذا كان المسيح يعطي حياة الآب، فذلك لأنه "هو البدء وبكر من قام من بين الأموات... وقد شاء الله أن يحل به الكمال كله، وبه شاء أن يصالح كل موجود...، فهو الذي حقّق السلام بدمه على الصيب (كولسي 1: 18- 20). ان الانقسامات التي تصيب الإنسانية الخاطئة ليست مجهولة، ولكنها من الآن فصاعداً يمكن التغلّب عليها، وهي تعرض لكائن جديد، وفقَ بُعدٍ جديد، أي لكائنٍ في المسيح: "فلم يبق بعدُ يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكرٌ أو أنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع" (غلاطية 3: 28). كان الفارق بين الجنسين قد استحال إلى صراع، وأخذ التمزق بين الزوجين في الاتساع على صورة انقسامات اجتماعية وعنصرية. وعندما اكتشف الإنسان ما له من وحدة في المسيح، أمكنه التغلب على الأوضاع الإنسانية. فكل من الحرية أو الاستعباد، الزواج أو البتولية (1 كورنتس 7)، له معناه، وله قيمته في المسيح يسوع. إن بلبلة اللغات التي كانت ترمز إلى انقسامات وتشتّت البشر، قد تغلّبت عليها لغة روح القدس التي يمنحها المسيح باستمرار. ويتحقّق التعبير عن هذه المحبة عن طريق تنوّع المواهب الروحيّة لمجد الآب.
3. الانسان الجديد:
هو أولاً المسيح شخصياً (أفسس2: 15)، ولكنه أيضاً كل مؤمن في الرب يسوع. ولم يعد وجوده مسخراً للجسد، بل هو انتصار دائم للروح على الجسد (غلاطية 5: 16- 25، رومة 8: 5- 13). وإذا اتحد جسم المسيحي بالذي اتخذ "جسداً بشرياً" (كولسي 1: 22). واشترك بالعماد في موت يشبه موت المسيح (رومة 6: 5- 6)، فإنه يصبح ميتاً من أجل الخطيئة (رومة 8: 10)، وجسده هذا الحقير يصبح على صورة جسد المسيح المجيد (فيلبي 3: 21)، "جسما روحانياً" (1 كورنتس 15: 44). ان عقله يتجدّد ويتحول (رومة 12: 2، أفسس 4: 23)، إنه يعرف كيف يحكم (رومة 14: 5)، في ضوء الروح الذي يعبّر عن اختباراته: أليس له فكر المسيح ذانه (1 كورنتس 2: 16)؟ إن كان الإنسان لا يعود معرّضاً للموت العادي، لأن الإيمان قد أودع في قلبه بذور الخلود، إلا أنه ينبغي أن يموت باستمرار، عن "الإنسان العتيق"، باتحاده بيسوع المسيح الذي مات مرة من أجل الجميع. فحياته جديدة، وهكذا " فنحن جميعاً نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كأنها مرآة، فنتحول إلى تلك الصورة، وهي تزداد مجداً على مجد، وهذا من فضل الرب الذي هو روح (2 كورنتس3: 18). فالانسان الجديد ينبغي أن ينمو باستمرار، بأن يترك صورة المسيح الوحيدة تبدّله: فمن خلال صورة الإنسان العتيق المشوّهة تظهر ظهوراً أفضل الصورة المجيدة للإنسان الجديد، صورة يسوع المسيح ربنا، وبهذا "يتجدد الإنسان على صورة خالقه" (كولسي 9:3-10).
4. وأخيراً فإن الخليقة:
التي أخضعت للباطل، لا طوعاً، والتي تئن إلى اليوم معنا من آلام المخاض، لم تقطع الرجاء، لأنها هي أيضاً ستعتق من عبودية الفساد، لتشارك أبناء الله حريتهم ومجدهم. وإذا كان هذا السعي يظلّ شاقاً من جراء الخطيئة، فإن الرجاء يعود فيرفع قيمته، إذ يتجلى في المجد الأخير (رومة 8: 18- 30). وعندما يباد آخر الاعداء وهو الموت، فإن الابن يسلّم الملك إلى الله الآب، فيكون الله كل شيء في كل شيء (1 كورنتس 15: 24-28).