المقدمة
بينما يزعم العالم إقامة أخوّة بدون أب، يكشف الكتاب المقدس أنّ الأبوة هي الصفة الأساسية لله. وانطلاقاً من الاختبار البشري للآباء والأزواج ممن توفر لهم الحياة العائلية وسيلة لممارسة السلطة وتحقيق الذات في المحبة، يَكشف العهد القديم محبة الله الحيّ وسلطته من خلال صورتي الأب والزوج. وهو يفعل ذلك بطريقة تختلف عن الطريقة المنحرفة التي كانت الوثنية تنقل بها إلى آلهتها هذه الأمور البشرية. ويعود العهد الجديد فيتخذ بدوره هاتين الصورتين ولكنه يبلغ بصورة الآب إلى كمالها بكشفه البنوّة الفريدة التي يتمتع بها يسوع وما تضيفه من أبعاد سامية، نظراً إلى أبوّة الله الشاملة لجميع البشر.
أولاً: الآباء الجسديون
1. سيّد- وربّ:
على المستوى الأفقي، يعتبر الأب بمثابة رأس العائلة، بلا نزاع، فتعترف الزوجة به كسيد ("باعال" تكوين 20: 3) وربّ ("آدون" 18: 12) ويرجع إليه حق تربية الأولاد (سيراخ 30: 1- 13)، وعقد الزيجات (تكوين 24: 2- 3 ، 28: 1- 2) والتحكم في مصير البنات (خروج 21: 7)، بل نراه قديماً يتصرّف في حياة الأبناء نفسها (تكوين 38: 24، 42: 37). فهو يجسّد العائلة بأجمعها محققاً وحدتها (راجع 32: 11)، فنسمّي حينئذ "بيت آب" أي المنزل الأبوي (34: 19). ومع الوقت أخذ لفظ البيت يطلق على العشيرة (راجع زكريا 12: 12- 14)، أو على جزء هام من الشعب (مثلاً "بيت يوسف") أو حتى على الشعب كله ("بيت إسرائيل"). فأصبحت سلطة قائد هذه الجماعات، على سبيل القياس، مصوّرة على نمط سلطة ربّ العائلة (راجع ارميا 35: 18). وفي نظام الملكية اعتبر الملك "أباً" للأمة (أشعيا 9: 5)، بالضبط كما أطلق على نابونيد في بابل لقب "أبي الوطن". ويطلق أيضاً اسم الأب على الكهنة (قضاة 17: 10، 18: 19)، وعلى المستشارين الملكيين (تكوين 45: 8، استير 3: 13، 8: 12)، وعلى الأنبياء (2 ملوك 2: 12)، و"الحكماء" (أمثال 1: 8 الخ، راجع أشعيا 19: 11) بسبب سلطتهم في التهذيب. وبواسطة إشعاعهم الأفقي، أعدّ الآباء الجسديون إسرائيل لقبول خلاص الله، كشعب موحّد، وأن يرى في الله أباً له.
2. أصل السلالة:
على المستوى الرأسي، يعتبر الأب أصلاً للسلالة كلها. فإنه بإنجاب البنين، يخلّد ذاته (تكوين 21: 12، 48: 16)، ويساهم في بقاء جنسه، مع ضمان حفظ التراث العائلي لورثة من صلبه (5: 2- 3)؛ أما إذا توفي الأب دون عقب، فيُعدّ ذلك قصاصاً من الله (عدد 3: 4، 27: 3- 4). على قمة السلالة يقوم الآباء بالمقام الأسمى، فهم يحملون مسبقاً مستقبل الجنس. وكما أن لعنة ابن حام تتضمن خضوع الكنعانيين لأولاد سام كذلك يجد إسرائيل سرّ عظمته مسبّقاً في اختيار إبراهيم وشموله بالبركة (تكوين 9: 20- 27، 12: 2). وفي مراحل حياة إبراهيم وإسحاق ويعقوب يتكرر بانتظام الوعد بذرية لا حصر لها وبأرض خصبة، لأن تاريخ إسرائيل مرسوم ضمناً في تاريخهم كما هي الحال بالنسبة لتاريخ الشعوب المجاورة، ضمن حياة لوط وإسماعيل وعيسو المستبعدين عن المواعيد (تكوين 19: 30- 38، 21: 12- 13، 36: 1). وعلى النمط نفسه، ترجع كل قبيلة إلى سلفها الأول، الذي تستمد منه اسمها، مسؤولية وضعها في إطار الأمة (تكوين 49: 4). إن سلسلة الأنساب وإن كانت كثيراً ما تعبّر عن صلات لا تتفق دوماً مع القرابة الدموية، إلاّ أنها تحدّد النسب الأبوي، وتؤكد هكذا أهمية الأسلاف الذين بأعمالهم قد رسموا مستقبل سلالتهم وحقوقها. وبوجهٍ خاص، تضع المصادر الكهنوتية (تكوين 5 و 11) تتابع الأجيال في علاقة بالاختيار الإلهي والخلاص، مبرزة المواصلة بين آدم ذاته والآباء.
ثانياً: الآباء الروحيون
إذا كان رؤساء الأسباط هم آباء بالمعنى الأسمى للشعب المختار، فلا يرجع الأمر أساساً إلى أبوّتهم الجسدية، ولكن إلى المواعيد التي سوف تتجاوز ذريتهم لتشمل في النهاية كل من يقتدون بإيمانهم. فأبوّتهم "من حيث البشر" (رومة 4: 1) لم تكن إلاّ شرطاً مؤقتاً لأبوّة روحية شاملة، قائمة على الاستمرارية والتناسق في التخطيط الخلاصي لإله لا يتوقف عن العمل، منذ اختياره لإبراهيم حتى تمجيد يسوع (خروج 3: 15، أعمال 3: 13). وهذه الأبوّة الروحية التي تخصص بولس في إبرازها لاهوتياً، كانت متضمنة منذ القدم في العهد القديم.
1. تجاوز فكرة التفوق العنصري:
يتّخذ الجانب الروحي لأبوّة الأسلاف أهمية متصاعدة في العهد القديم، بقدر ما تتعمّق فكرة التضامن في الشر وفي الخير. إن أهمية "الآباء" التي تتزايد من جيل إلى جيل، لا تشمل رؤساء الأسباط وحدهم، ولا حتى الأسلاف الذين نالوا قسطاً من المديح في القرن الثاني فحسب (سيراخ 44: 50، مكابيين 2: 51- 61) وإنما تشمل أيضاً بعض المتمردين، ومن بينهم يضع بعض الأنبياء يعقوب نفسه الذي يعتبر اسمه كناية عن الأمة (هوشع 12: 3- 5، اشعيا 43: 27). على أن هؤلاء المتمردين يلزمون أحفادهم بصفتهم متضامنين معهم في عصيانهم وفي احتمال العقاب (خروج 25: 5، إرميا 32: 18، باروك 3: 4- 5، مراثي 5: 7، اشعيا 65: 6- 7، دانيال 9: 16). فمن حيث أنهم آباء بحسب القرابة الجسدية يترتب على ذلك، في رأي البعض، أنهم يورّثون أبناءهم، بموجب أبوّة معنوية حقة، أخطاءهم، أو على الأقل عقابهم. وينبئ إرميا (إرميا 31: 29- 30) ويعلن حزقيال (حزقيال 18) زوال هذا المفهوم التلقائي للجزاء: فسوف لا يعاقب الإنسان إلا بمقدار خطيئته الشخصية. وابتداء من السبي، نرى تقدّماً مماثلاً يرتسم فيما يتعلق بالتضامن في الخير. وقد ظهر الله في صورة الأب الوحيد لشعبه بوضوح، في المحنة التي مرّ بها إسرائيل: فقد عزا للغرباء ميراث إبراهيم ويعقوب (راجع حزقيال 33: 24) وكأنهما قد تخليا عن ذريتهم (أشعيا 63: 16). فإنه في صميم المحنة ينشأ إسرائيل جديد "إسرائيل من حيث الكيف" لا ينتمي إليه كلّ الذرية المنحدرة من إبراهيم بحسب الجسد، وإنما فقط الذين يقتفون آثاره في سعيه للبر وفي رجائه الوطيد (أشعيا 51: 1- 3). أليس إسرائيل بالفعل جنساً غير نقي منذ البدء سواء من جهة الآباء أو من جهة الأرحام (حزقيال 16: 3)؟ ألم يعترف كاتب أخبار الأيام نفسه بعلاقة قرابة بين شعبه وبين العشائر الوثنية (1 أيام 2: 18- 55)؟ ألا يعلن بعض الأنبياء للمهتدين الجدد إمكانية انضمامهم إلى شعب المواعيد (أشعيا 56: 3- 8، راجع 2 أخبار الأيام 6: 32- 33)؟ ولن يكون الوقت بعيداً، بالرغم من بعض الانتفاضات الوطنية، حيث تتحقق أبوّة إبراهيم والأسلاف العظام، لا بحكم الجنس بعد ذلك بل بفضل الإيمان.
2. من الروح القومية إلى الروح العالمية:
بقدر ما يزداد مفهوم أبوة الأسلاف روحانية ، يتّخذ أيضاً طابعاً عالمياً. هذا واضح بالنسبة لإبراهيم. بحسب المصدر الكهنوتي ، يعني اسمه "أب أمم كثيرة" (تكوين 17: 5)، كذلك الوعد الوارد في تكوين 12: 3 : "يتبارك بك جميع عشائر الأرض..." يصبح في الترجمة اليونانية "فيك ستبارك..." (راجع سيراخ 44: 21، أعمال 3: 25، غلاطية 3: 8)، وكأن الترجمة السبعينية، بدلاً من رفع شأن الشعب المختار، ترمي إلى الإيحاء بأن جميع الشعوب ستشترك يوماً في بركة إبراهيم. وهذه التيارات ذات الطابع العالمي، التي كثيراً ما تناقضها نزعة معاكسة ذات طابع قومي متطرف (عزرا 9: 2)، تصل إلى كمالها بفضل تعليم يوحنا المعمدان ويسوع. فنسمع يوحنا يقول: "إن الله قادر على أن يخرج من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم" (متى 3: 9). وكذلك في نظر يسوع، إذا كانت هناك بنوة لإبراهيم ضرورية للخلاص، فإنها لا تتحقق بالانتماء العرقي وإنما بالتوبة (لوقا 19: 9)، وبالإقتداء بأعمال إبراهيم أي بإيمانه (يوحنا 8: 33 و 39-40). ويلمّح المسيح بأن الله سوف يقيم للآباء، عن طريق دعوة الوثنيين، ذريّة روحيّة من المؤمنين (متى 8: 11).
3. من الوعد إلى التحقيق:
قد حققت الكنيسة بصورة جزئية البشرى التي أعلن عنها يسوع، مما أتاح لبولس رسول الأمم (1 تيموتاوس 2: 7)- وقد أثارته أزمة القائلين بضرورة التهويد - أن يتعمّق في هذه الموضوعات نفسها. أجل، في نظر بولس، لا يزال أعضاء "إسرائيل بحسب البشر" (1 كورنتس 10: 18) "أحباء الله إكراماً للآباء" (رومة 11: 28) وهم يحتفظون بموجب المواعيد التي سلمت للآباء (أعمال 13: 17، 32- 33) بأولويّة في الدعوة إلى الخلاص(رومة 1: 16، راجع أعمال 3: 26)، رغم أن كثيرين منهم يرفضون أن يؤمنوا بالوريث الحقيقي للمواعيد (غلاطية 3: 16)، وبذلك يجعلون أنفسهم عبيداً مثل إسماعيل (غلاطية 4: 25). ولكن في داخل "إسرائيل الله" نفسه (غلاطية 6: 16)، لا فرق بين يهودي وأممي (أفسس 3: 6). فالجميع، سواء كانوا في الختان أم في القلف، يصبحون، بانتمائهم إلى "إيمان إبراهيم أبينا جميعاً، أبناء لإبراهيم، ويحظون بالبركات الموعودة لذريته (غلاطية 3: 7- 8، رومة 4: 11- 18). فبالمعمودية تنشأ ذرية روحيّة جديدة هم أولاد إبراهيم بحسب الموعد (غلاطية 3: 27- 29)، وسرعان ما يطلق على المؤسسين الأوائل لهذا الشعب الجديد لقب "الآباء" (2 بطرس 3: 4).
ثالثاً: أبوّة إله الآباء
1. من الآباء إلى الآب:
إن إبراز الطابع الروحي في الأبوّة البشرية قد ساعد على تفهّم أبوّة الله. وقد ساهم عجز الآباء، أيام السبي، في إعلاء شأن أبوّة يهوه الباقية (أشعيا 63: 16). فبرغم التباين، قد تعزى الأبوّة إلى الأسلاف وإلى الله: هذا ما يبدو أيضاً من خلال التاريخ الذي تسرده المصادر الكهنوتية التي وضِعَت، على قمة سلم الأجيال، آدم، المخلوق على صورة الله (تكوين 1: 27) والقادر أن ينجب أيضاً أولاداً على صورته (5: 1- 3)، وكأنها تقصد إرجاع التسلسل البشري إلى الله نفسه. وفيما بعد، سيسلك لوقا نفس المنهج (لوقا 3: 23- 38). وأخيراً سيرى بولس في الله الأب الأسمى الذي تستمدّ منه كلّ أبوّة وجودها وقيمتها (أفسس 3: 14- 15). وعليه فإننا نرى بين الآباء البشريين والله شبهاً يمكّننا من أن نُطلِق على الله تسمية الآب، بل أكثر من ذلك، إن هذه الأبوّة الإلهية هي وحدها التي تعطي كلّ أبوة بشرية معناها التام في إطار تخطيط الخلاص.
2. سمو الأبوة الإلهية:
لم يطلق إسرائيل على الله تسمية أب عن طريق البرهان والقياس، بل عن اختبار حيّ عاشه وربما كان هذا كردّ فعل تجاه مفاهيم الشعوب المجاورة. كانت جميع الأمم القديمة تدعو إلهها أباً لها، وترجع مثل هذه العادة عند الساميين إلى تاريخ بعيد، وكانت هذه الصفة الأبوية تتضمن في الإله مهمة الحماية والسيادة وغالباً، الخلق. وفي نصوص أوغاريت (القرن الرابع عشر)، كان "ايل" الإله الأسمى في المجموعة الإلهية الكنعانية، يطلق عليه تسمية "الملك الأب شونم" ، مما يعبّر عن سيطرته على الآلهة والبشر. ولعل اسم "ايل" نفسه، الذي هو أيضاً اسم إله الآباء (تكوين 46: 3) كان فيما يبدو، يدلّ في الأصل على الشيخ، وبالتالي يفترض سلطاناً على "عشيرته". وبهذا المعنى الأوّل دخلت فكرة الأبوّة الإلهية الكتاب المقدس. ولكن هناك معنى آخر يرفضه العهد القديم. فهذا الإله الفينيقي"ايل" المرموز إليه بالثور، على نحو "أييس" المصري كان يخصّب زوجته وينجب آلهة أخرى. وكانت تنسب إلى " بعل " بن ايل قوة تخصيب الأزواج من البشر والحيوانات ومنح الخصوبة للأرض، عن طريق طقس يمثّل اتحاده بإحدى الإلاهات. وأما يهوه فهو وحيد، لا نشاط جنسياً له ولا شريك له، ولا ابن بالمعنى الجسدي. حقا كان الشعراء يطلقون تسمية "أولاد الله" أحياناً على الملائكة (تثنية 32: 8، مزمور 29: 1، 89: 7، أيوب 1: 6…)، أو على الأمراء والملوك (مزمور 82: 1 و6)، لكنّهم كانوا يغيّرون الطابع الأصلي لمصادرهم السورية الفينيقية، بطريقة تظهر خضوع هذه المخلوقات العادية لله بدون أن تسند إلى الله أيّة أبوّة على المستوى الطبيعي. وإن كان يهوه يدعى بالأب الذي أنجب إسرائيل (تثنية 32: 6)، فمن البداهة أن هذا الإنجاب مأخوذ بالمعنى الأدبي: فهو ليس أباً للآلهة وزوجاً لإلاهة بل هو في نفس الوقت أب وزوج لشعبه، مما يدل على المعنى المجازي (هوشع، إرميا،. وهو أيضاً أب من حيث هو خالق (أشعيا 64: 7، ملاخي 2: 10، راجع تكوين 2: 7، 5: 1- 3) ولكن ليس بأسلوب توالد الآلهة الفاحش، المذكور في الأساطير البابلية. وأخيراً إن إله إسرائيل الذي بكامل سيادته "يدعو القمح" (حزقيال 36: 29)، لا صلة له بالبعل المخصب وبشعوذة طقوسه الجنسيّة التي يبغضها الأنبياء، وهو لا يريد أن يدعى أباً، بنفس الطريقة التي بها يدعو أتباع "بعل" إلههم (ارميا 2: 27). وهكذا نرى رغبة قادة إسرائيل واضحة في تنقية فكرة الأبوّة الإلهية السائدة عند جيرانه من كلّ أثر جنسي وهم لا يحتفظون منها إلا بالجانب الاجتماعي الذي يليق نقله إلى الله.
3. يهوه، أبو إسرائيل:
قد نشأ تصوّر الأبوة الإلهية خاصة بالمعنى الجماعي والتاريخي: إن الله قد كشف عن ذاته بوصفه أباً لإسرائيل أثناء الخروج كحارس له وكمن يقدّم له القوت الجسدي والروحي في الوقت نفسه. فالفكرة الأساسية هي فكرة سيادة جوّادة وعناية تتطلب خضوعاً وثقة (خروج 4: 22، عدد 11: 12، تثنية 14: 1، أشعيا 1: 2- 4، 30: 1 و9، إرميا 3: 14). يحتفظ هوشع وإرميا بهذا المفهوم مع إثرائه بالتركيز على حنان يهوه العظيم (هوشع 11: 3- 4و 8- 9، إرميا 3: 19، 31: 20). وابتداء من وقت السبي، بالإضافة إلى فكرة الأبوّة الإلهية القائمة على الاختيار (أشعيا 45: 10- 11، 63: 16، 64: 7- 8، طوبيا 13: 4، ملاخي 1: 6، 3: 17) وعلى التبني (تثنية 32: 10)، نجد عند بعض أصحاب المزامير (مزمور 27: 10، 103: 13) وبعض "الحكماء" (أمثال 3: 12، سيراخ 23: 1- 4، حكمة 2: 13- 18، 5: 5) الاعتبار أن كل شخص صالح هو ابن الله بمعنى أنه موضع حمايته المتّسمة بالحنان. وهذا التطبيق الفردي لن يشكّل شيئاً جديداً على الإطلاق، لو كنا نستطيع القطع بأن في الأسماء القديمة الدالّة على الصلة بالله مثل "ابيعازر" (يشوع 17: 2)، الجزء الأخير من لفظ "أب" يدل على الشخص المتكلم، بحيث يمكن أن تكون الترجمة "أبي هو عوني".
4. يهوه أبو الملك:
منذ عهد داود أخذوا ينادون بأبوّة يهوه للملك بصفة خاصة (2 صموئيل 7: 14- 15، مزمور2)، الجزء الأخير من لفظ "أب" وهو يدل على الشخص المتكلم، بحيث يمكن أن تكون الترجمة "أبي هو عوني". جميع ملوك الشرق الأوسط القديم يعتبرون في حكم الأبناء بالتبني لإلههم، وإننا نجد عبارة المزمور 2: 7 : "أنت ابني" واردة حرفياً في نصّ بابلي. ولكن خارج إسرائيل، تشكّل متطلبات الإله، في أكثر الأحيان، نزوات هوائية كما نشاهد ذلك عند "كموش"، حسب لوحة ميشا (راجع 2 ملوك3). وفي مصر يعتبر الإله بمثابة أب بالمعنى الجسدي. أما يهوه، فعلى عكس ذلك، هو إله يتسامى فوق المستوى الجسدي ويجازي الملوك على سلوكهم الأخلاقي (2صموئيل 7: 14). إن هذه النصوص الخاصة بالتبنّي الملكي تمهّد السبيل للوحي بالبنوّة الفريدة ليسوع، بقدر ما يرتسم على ملوك يهوذا وجه المسيا الحقيقي. وبعد السبي تقرّبنا إلى هذه الفكرة نفسها صورة الحكمة (أمثال 8) الماثلة في هيئة شخص ابنة الله. فهي تسبق الخلق كله وتتضمن في ذاتها الرجاء المعلّق على سلالة أسرة داود، ابتداء من نبوءة ناتان.
رابعاً: يسوع يكشف عن الآب
ومع اقتراب العصر المسيحي، لا يزال إسرائيل مدركاً بأن الله أب لشعبه وأب لكل واحد من مؤمنيه. ويندر جداً ورود تسمية الآب في الكتابات الرؤيوية وفي نصوص قمران، ربما تحفّظاً من استخدام هذه التسمية الجارية في الحضارة الهلّينية، ولكنّ هذه التسمية واردة بتواتر في الكتابات الحاخاميّة، حيث نجد هذه الصيغة بحرفيتها: "أبانا الذي في السموات" (متى 6: 9). يصل يسوع المسيح بالفكر اليهودي في أبوّة الله إلى ذروة كماله. على مثال ذلك المسكين المذكور في المزامير والذي يرى في جماعة "أنقياء القلب" ، إسرائيل الحقيقي الوحيد (مزمور 73: 1)، يفكّر يسوع في جماعة (إذ يدعونا نصلي قائلين "أبانا" وليس "أبي") مكوّنة من "الأطفال" (متى 11: 25)، يخصّهم الله بالإعلان عن أسراره، ويكون كلّ واحد منهم شخصياً ابناً لله (متى 6: 4 و6 و18). ولكنه يأتي بالجديد، في تفوّقه حتى على تيار الأبوّة الشاملة الذي ظهر في اليهودية المتأخرة. فإن كان هذا التيار يربط صفة أبوّة الله بعمل الخلق، إلاّ أنه لم يكن ليستنتج مع ذلك أن الله هو أب لجميع البشر، وأن سائر البشر جميعهم أخوة (راجع أشعيا 64: 7، ملاخي 2: 10). وكذلك كان يعتقد هذا التيار أن الرحمة الإلهية تمتد لتشمل "كل ذي جسد" (سيراخ 18: 12)، فلا ينعم بها تماماً، في نظرهم، إلاّ أبناء الله المتمثلين في الأبرار من إسرائيل (حكمة 12: 19- 22، راجع 2 مكابيين 6: 13- 16). فعليهم وحدهم عملياً كانت تطبّق الآية الواردة في كتاب التثنية (8: 5) بشأن "تأديب يهوه" النابع من الحب الأبوي (أمثال 3: 11- 12، راجع عبرانيين 12: 5- 13). وبالعكس، في نظر يسوع، فإن جماعة "الأطفال"- وإن كانت ما زالت بعد مقصورة في الواقع على اليهود التائبين وحدهم، الذين يعملون مشيئة الله (متى 21: 31- 33)- سوف تضم أيضاً وثنيين (متى 25: 22- 34) يحلون محل "أبناء الملكوت" (متى 8: 12). ونحو إسرائيل الجديد هذا، المنفتح مبدئياً منذ الآن للجميع، يبذل الآب بسخاء الخيرات الضرورية (متى 6: 26و32، 11:7)، وأهمها الروح القدس (راجع لوقا 13:11) مظهراً اتساع حنانه الرحيم (لوقا 15: 11- 32). فما على الإنسان إلا أن يعترف بتواضع بهذه الأبوّة الوحيدة (متى 23: 9)، وأن يعيش كطفل يناجي أباه (7: 7- 11)، ويضع ثقته فيه (6: 25- 34)، ويخضع له مقتدياً بحبه للجميع (5: 44- 45)، وبتسامحه (18: 33، راجع 6: 14- 15)، وبرحمته (لوقا 6: 36، راجع لاويين 19: 2)، وبكمال ذاته (متى 5: 48). وإن كان موضوع الاقتداء بالآب ليس بجديد تماماً (فقد ورد في الترجوم ما جاء في لوقا 6: 36) إلاّ أن الجديد فيه هو الإلحاح في تطبيقه على التسامح المتبادل، وعلى محبة الأعداء. وإن الله لا يظهر أبوته كاملة إلا عندما يحبّنا ويغفر لنا، ونحن لا نكون أبناءه حقاً، إلاّ عندما نسلك على نمطه في المعاملة مع جميع إخوتنا.
خامساً: الله أبو يسوع المسيح
1. كشف الله عن نفسه، بواسطة يسوع، أباً لابن وحيد:
تتخذ أبوّة الله ليسوع معنى خاصاً فريداً. هذا ما وضّحه يسوع بأسلوبه في التمييز بين "أبي" (راجع متى 7: 21، 11: 27، لوقا 2: 49، 22: 29) و "أبيكم" (راجع متى 5: 45، 6: 1، 7: 11، لوقا 12: 32)، وفي تقديم نفسه أحياناً باعتباره "الابن" (مرقس 13: 32)، الابن الحبيب، بمعنى الوحيد (مرقس 12: 6 //، راجع 1: 11//، 9: 7 //)، كما أننا نرى ذلك خاصة عندما يعبّر عن شعوره باتحاده العميق مع الآب، إلى حدّ أنه يسبر غور جميع أسرار الآب. وهو وحده يستطيع أن يكشفها (متى 11: 25- 27). إن مستوى التسامي في هذين اللفظين "آب" و "ابن" لم يكن واضحاً من تلقاء ذاته. ولم يدركه المستمعون حتى في لقب "ابن الله" الذي كان يسوع يتجنبه (في لوقا 4: 41، تعبير "ابن الله" يعادل لفظ المسيا)، إلاّ أن ما يؤكد هذا التسامي هو تعبير لقب "ابن الإنسان" ومطالبة يسوع بسلطة تتجاوز مستوى المخلوق. ويؤيده أيضاً تضرع يسوع الذي يخاطب أباه قائلاً "أبّا" (مرقس 14: 36)، الذي يعادل لفظنا "يا بابا": وهذا النوع من الدالة لم يكن يعرف لها مثيل قبل يسوع، وهي تدل على مودة حميمة ليس لها نظير.
2. يعطي الله لنفسه، بفعل أبوته الأبدية، ابناً يساويه في الجوهر:
يبيّن المفكرون اللاهوتيون الأوائل بوضوح ما تقوله الأناجيل الإزائية عن "أبي ربّنا يسوع المسيح" (رومة 15: 6، 2 كورنتس 1: 3، 11: 31، أفسس 1: 3، 1 بطرس 1: 3)- وكثيراً ما يتكلمون عنه في ظلّ تسميته "أباً" وهم يفكرون فيه عندما يقولون ببساطة "ho theos" (راجع، كورنتس 13: 13). يعالج بولس صلات الآب بالابن في عمل الخلاص، ولكنه يتكلم أيضاً عن "ابن الله بالذات" بتمييزه عن الأبناء بالتبني (رومة 8: 15و29و32) ويعزو إلى "ابنه الحبيب" عمل الخلق ذاته (كولسي 1: 13و 15- 17)، كل هذا يفرض أن في الله سرّ أبوّة متسامية أزلية. ويذهب يوحنا إلى أبعد من ذلك فيسمي يسوع الابن الوحيد والحبيب monogene le (يوحنا 1: 14و18، 3: 16و18، 1 يوحنا 4: 9). ويبرز الطابع الفريد للأبوّة التي تقابل هذه البنوّة (يوحنا 20: 17)، والوحدة الكاملة بينهما في المشيئة (5: 30) والعمل (5: 17- 20) وهي تظهر من خلال المعجزات التي يولي الواحد الآخر أن ينجزها (5: 36). كما أنه يبرز تداخلهما المتبادل (10: 38، 14: 10- 11، 17: 21)، وألفتهما الحميمة في المعرفة والمحبة (5: 20و23، 10: 15، 14: 31، 17: 24- 26)، وتمجيدهما المتبادل (12: 28، 13: 31- 32، 17: 1و4- 5). وإذ ينتقل اليهود من مستوى العمل إلى مستوى الطبيعة فإنهم يفهمون من تصريحات يسوع أنها إقرار بالمساواة مع الله (5: 17، 10: 33، 19: 7). وهم في ذلك على صواب: حقاً الله هو "الآب بالنسبة ليسوع" بنوع خاص، إن يسوع كائن من قبل إبراهيم (8: 57- 58) ومقيم في حضن الآب (1: 18، راجع 1 يوحنا 1: 1- 2).
3. في وضع التجسد، يبقى الابن خاضعاً للآب:
إن كانت كرامة يسوع تجعله مساوياً لله، فإنّ هذا لا يمنع الآب من الاحتفاظ بامتيازاته الأبوّية، بشهادة المسيح نفسه (راجع متى 26: 29، 11: 26- 27، 24: 36)، وشهادة كتبة العهد الجديد. تنسب الكرازة الأولى قيامة يسوع، إلى الآب (راجع أعمال 2: 24، 1 تسالونيكي 1: 10، 2 كورنتس 4: 14). وله ترجع مبادرة الخلاص: هو الذي يختار ويدعو المسيحي (راجع 2 تسالونيكي 2: 13- 14) والرسول (راجع غلاطية 1: 15- 16) كما أنه هو الذي يبرّر (راجع رومة 3: 26و30، 8: 30). وليس يسوع إلا الوسيط الضروري: يرسله الآب (غلاطية 4: 4، رومة 8: 3، يوحنا في مواضع متفرقة) ويسلمه (رومة 8: 32)، ويعهد إليه بعمل يقوم به (راجع يوحنا 17: 4)، وبكلام يقوله (12: 49) وبأشخاص يخلّصهم (6: 39- 40). فلآب مصدر كل الأشياء وغايتها (1 كورنتس 8: 6)، ولذا فالابن الذي لا يعمل إلا تبعاً له (يوحنا 5: 19، 14: 10، 15: 10) سيخضع له (1 كورنتس 15: 28) في آخر الأزمنة، خضوعه لرأسه (11: 3).
سادساً: الله أب المسيحيين
إن كان أعطى الله للبشر أن يصيروا أبناءه (يوحنا 1: 12)، فهذا يرجع إلى أن يسوع هو ابنه بالطبيعة. وتقدم لنا الأناجيل الإزائية الومضات الأولى في هذا الأمر، عندما يوحّد يسوع نفسه مع تلاميذه (راجع متى 18: 5، 25: 40)، ويقرّ بأنه أخ لهم (28: 10)، بل نراه مرة يطلق على نفسه وعليهم تسمية "بنون" المشتركة (17: 26). ولكن يرجع الفضل إلى بولس في إلقاء النور الكامل على هذه الحقيقة. ففي نظره، يحررنا الله من العبودية ويتبنّانا كأبناء له (غلاطية 4: 5- 7، رومة 8: 14- 17، أفسس 1: 5) بإيماننا بالمسيح المعلن في المعمودية، الذي يجعلنا كلنا كائناً واحداً في المسيح (غلاطية 3: 26- 28). ويجعل من المسيح الابن البكر الذي يشرك أخوته في الميراث الأبوي (رومة 8: 17و29، كولوسي 1: 18). أمّا الروح، فلأنه العامل الباطني لهذا التبني، فهو أيضاً الشاهد بذلك، وهو يضع على شفاهنا صلاة المسيح نفسها، ويجعلنا بها مطابقين له قائلين "أبتا" (غلاطية 4: 6، رومة 8: 14- 16، 29). فمنذ الفصح، تعبّر الكنيسة، بتلاوتها الصلاة الربيّة، عن إدراكها الواعي بأنها محبوبة بالمحبة نفسها التي يغمر الله بها ابنه الوحيد (راجع 1 يوحنا 3: 1). وهذا ما يوحي به لوقا على الأرجح عندما يجعلنا نكتفي بقولنا "أيها الآب" أسوة بالمسيح (لوقا 11: 2). وحياتنا البنوية المعلنة في الصلاة تظهر أيضاً من خلال المحبة الأخوية، لأننا إن أحببنا أبانا، فلا نستطيع إلا أن نحبّ جميع أبنائه الذين هم إخواننا: "كل من يحب الوالد يحبّ المولود منه أيضاً" (1 يوحنا 5: 1).